الحرير

نشر في 24-04-2017
آخر تحديث 24-04-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم قرأت روايات عديدة من ترجمة طلعت الشايب، وكلها أعمال متميزة، ومنتقاة بدقة وإحساس، بقيمتها الفنية والأدبية، منها "أصوات الضمير" و"أنا القمر" ورواية "اتبعي قلبك" و"فتاة عادية" و"العطر" و"الحمامة" لباتريك زوكيند، و"البطء" لميلان كونديرا، و"صدام الحضارات"، هذا الرجل ترجماته الرائعة إبداع مترجم على إبداع المؤلف. وبلا شك كانت من الروافد التي غذت فكري ووجداني ككاتبة رواية، وأدين له بالفضل ولكل المترجمين الذين يعملون بصمت، ومن دون جعجعة، على تعميق وتوسيع رقعة الثقافة العربية وإثرائها بهذه الترجمات العالمية المميزة.

كنت أقرأ ترجماته دون معرفة شخصية به، إلى أن التقيته في قهوة زهرة البستان في مارس الماضي، وسعدت بالحوار الممتع معه، حتى إننا التقينا مساء اليوم ذاته مرة أخرى، ليهديني مجموعة من ترجماته التي لم أقرأها بعد، وكان في غاية السعادة وهو يحدثني عن فترة عمله بالكويت كمدرس للغة الإنكليزية، حتى إنه ذكر لي بكل محبة أسماء بعض طلابه.

كانت أمسية مفعمة بالذكريات والمحبة من رجل مثقف نبيل رحل فجأة بعد هذا اللقاء بأسبوع وهو يتحدث في ندوة بإحدى الجامعات، أحزن موته جميع محبيه، وأدركت قيمة محبته من مقدار الحزن الصادق الصادر منهم.

"الحرير" رواية الكاتب الإيطالي اليساندرو باريكو من ترجمات طلعت الشايب، تكلم عنها بشغف يماثل شغف كاتبها وهو يهديها لي، يتشابه مضمونها مع رواية "أفيون" للكاتب الفرنسي ماكزانس فيرمين، كتبت عنها مقالا الشهر الماضي، تحكي عن تاجر إنكليزي ذهب إلى الصين ليكتشف أسرار الشاي الصيني، وبعد عدة مغامرات يصل إلى هناك ثم يقع في غرام المرأة الصينية "أفيون" عشيقة التاجر الصيني التي يكتشف سرها وتجارتها بالأفيون، ويعود إلى بلاده بخيبة اكتشافه لخداعها له.

وفي رواية "الحرير" أيضا نجد التاجر الفرنسي هيرفي جونكور يذهب إلى اليابان، للحصول على بيض دودة القز، لإنتاج الحرير الخام في بلده، بسبب انتشار وباء البيبراين في بيض دود الحرير، ما أثر على الإنتاج الأوروبي، كما نصحه "بالدايبو"، وبهذه النصيحة غيَّر حياته، وبعد عدة مغامرات ينجح في الحصول على بيض الدود، وأيضا يقع في حب الفتاة اليابانية عشيقة التاجر الياباني، ثم يعود لبلاده مسحورا بحبها، ليكتشف في النهاية أن زوجته هي من كتبت له تلك الرسالة المفعمة بالغرام قبل موتها، حينما شعرت بإحساسها المرهف تعلقه بالفتاة اليابانية.

تتشابه الروايتان تقريبا في موضوعهما، لكن طريقة الكتابة هي التي أعطت ومنحت رواية "الحرير" مذاقها الرائع، جعلتها عملا يتغلغل في الروح، ولا يمكن أن يُنسى. لغة الكاتب استطاعت أن تقتنص جوهر روح اليابان وصورتها في صور ذات بث حي، يصعب تحديد نبع سرها وسحرها، من أين ينبع هذا السحر؟

وكيف تمتلك لغة الكتابة كل هذا السحر؟

كل جملة ليست إلا نسيم يغلف الروح بجمال هائل يمنح الجماد رقة لا تُحتمل، لغة تصويرية حساسة باذخة الجمال، جعلت كل مشهد في الرواية يبلع القارئ ويطويه بسحره، وهذا هو الفرق الذي منح هذه الرواية قيمتها الجمالية.

وهذه مقتطفات منها: "نزل هيرفي جونكور ضيفا على هاراكي أربعة أيام كأنه يعيش في بلاط ملك. كل القرية في خدمته. كل فعل في تلك التلال إما لحمايته أو لإمتاعه. الحياة ترنيمة مكبوتة، تسير بإيقاع بطيء محسوب، مثل وحش مهدد في مخبأ، كان العالم يبدو بعيدا، وبقرون كثيرة". "الرجل الذي كانت القرية كلها تدور حوله، كان يتحرك وسط فقاعة فارغة. وهم. وكأن هناك قانونا غير مكتوب يتطلب أن يتركوه وحده".

"كان يراقب شعلة المصباح الدقيقة وهي تتراقص أمام ناظريه،

وبحرص شديد، كل الحرص، أوقف الزمن. أوقفه إلى أطول مدى، ثم فتح راحة يده ورأى قصاصة الورق. صغيرة جدا حروف قليلة مرسومة فوق بعضها. حبر أسود". "توقف هيرفي جونكور بلا حراك، يحدق في تلك المجمرة الكبيرة. وراءه طريق يمتد ثمانية ألف كيلو متر. أمامه لا شيء. فاجأته لمحة من نهاية العالم، ذلك الشيء الغائب في الغموض". "رفع هيرفي جونكور رأسه، المحفة ملفوفة بالحرير. ألف لون... البرتقالي، الأبيض، الذهبي، الفضي، عش رائع لا تشوبه شائبة، لا شيء سوى حفيف تلك الألوان المتموجة في الهواء، رقة لا يمكن اختراقها، أكثر خفة من اللاشيء. لا شيء على الطريق غير الصمت. جثة صبي على الأرض. رجل راكع. حتى آخر ومضة من ضوء النهار".

back to top