إلى ابني عبدالله

نشر في 24-04-2017
آخر تحديث 24-04-2017 | 00:11
 رشا عبدالله النيباري حينما جئت إلى دنيانا أتيتها كمعجزة ومفاجأة لم تكن بالحسبان، تنَزَّلـت علينا بركة من الرحمن، بقلب زاخر بالبهجة تثري أيامنا بالضحكات وتملأ قلوبنا بالحب وأرواحنا بالضياء، فأضحيت الرفيق المخلص لأخيك ونجم أبيك الذي لا يغيب وقلب أمك النابض. لقد أدخلت الدفء في القلوب حيثما وأينما حللت في سنواتك الأربع البهية على هذه الأرض، وذلك بِمَرَحِك وضحكاتك وفَتَنتَ كل من هم حولك بابتساماتك الشقيّة.

لقد أكملتَ اليوم عامك الرابع، يُعَد عيد ميلادك هذه السنة ذكرى مَشوبة بمشاعر هي مزيج من الحلاوة والمرارة، يفترض أن تكون مليئة ببالوناتٍ من ألوان قوس قزح وشموع ميلادك وهدايا أصدقائك وصيحات الأطفال المرحة، لكن ميلادك يأتي ليُذكِّرني بضيق الوقت الذي يستعجلنا في بحث محموم عن مصطلحات طبية ما كنّا نعلم بوجودها، ويدفعنا في سعي حثيث بحثاً عن عقاقير يحدونا أمل التوصل إليها مستقبلاً، إلا أنها تبدو حتى الآن على بعد سنوات ضوئية.

لم أَعُد أقوى على مواصلة قراءة مقالات Duchenne ذاك المرض الذي لا يتعيّن على إنسان مواجهته ناهيك عن طفل في مقتبل العمر، ولكني شغوفة بل نَهِمة كذلك، وليس بمقدوري ضبط واحتواء ذاتي، في مسعاي للتوصل لما هو غير متوافر حالياً، ألا وهو علاج مرضك (Duchenne) *.

مضت هذه السنة بظلمة وسواد حالك على غير انتظار أو توقع، فلا تكاد الكلمات تُسْعِفَني بل هي تخذلني على الدوام، وتتهدّدني المشاعر بإغراق أي لحظة فرح، وطمسها في المهد، إِثر ما يعتريني من قسوة الصدمة وجمود العاطفة، فقد طغى ذلك كله عَلَيّ بحيث لم أعد أملك سُبُل التعبير عما يدور في خَلَدي.

ابني الغالي:

كنتُ لك على الدوام والدتك الحازمة التي تصر عليك وعلى أخيك "حمّودي" للاعتناء بنفسيكما وحاجياتكما وترتيب الفوضى بعد الانتهاء منها، أمّا الآن فأجدني أصرّ على أمورٍ أخرى، كأن يتسنى لك القفز يوماً كما ينبغى لك في الرابعة من عمرك، وأن تمضي راكضاً مع أقرانك من زملاء المدرسة دون أن أسمع دعواتك بألا يسبقك أحد منهم، وألا يلتهم المرض جسدك ومن ثم قلبك.

إنها آلام ومصابرة لا أتمناها لأحد، وتحديداً ألم حقنك بالكورتيزون نهاية كل أسبوع، مع معرفتي بأنها ستُبطئ من نموّك، إذ تقيك من هذا الوحش الكاسر الذي يتهددك ولو لأعوام محدودة. لم يعد هناك من قيمة لأي شيء أكبر من هذا الأمر بالذات، كما لم تعد الأخبار الدنيوية ذات تأثير عَلَيّ. ليس هناك من أمرٍ ما، أو أحد مهما كبر شأنه، أعظم وأعلى قيمة ومضموناً مما أنا فيه من سباقٍ مع الزمن، برجاء كسب الوقت لغاية اللحظة الفارقة التي آمل فيها أن يُنادى بي أن ثمة معجزة. نعم لقد تشافى نجلك.

ابني الغالي:

سامحني، كنت أريد أن أقيك وأحميك وأُؤمِّنك، كنت أريد لك أن تبقى طفلي ذا الأعوم الثلاثة، وتملأ أيامي بقهقهاتك اللّعوبة، كما كنت أريد لك أن تحلم بحجم السماء، وتلعب دون أن ينهكك المرض، أما الأهم من ذلك كلّه فكنت أتمنى لك أن تُدرك معنى الأمل.

عُذراً ابني عُذراً قلبي عُذراً لقلة حيلتي ولعدم تمكني من أن أصد عنك أشد الأمراض خطورةً وأسرعها فتكاً في معركة الحياة. جاءنا الشر بظُلمَتِه في هيئة هذا المرض ليشلّ مسيرة أسرة بكاملها ويجمّدها على الإطلاق، طاعناً إيّاي وكياني بأُلوف الخناجر والسكاكين، زلزلني الحدث وحطّمني إلّا أنني أُجاهد نفسي، فعلى الرغم من أنه هَشَّم أمانينا وأحلامنا فإننا نواصل المسير.

نمضي قُدُماً مُتَخَطّين اللحظة على غير هدى وبلا أي ترتيب وأحياناً بجنون، تجاه أي علاج وتطبيب مُحتَمل، أي بارقة أمل، أي شيء على الإطلاق، أياًّ كان ضئيلاً أو لا يُذْكَر، أي فكرة كانت أو إعجاز يتيح لك أن تَحيا ويُيَسّر لك أن تتنفس أن تكبر أن تفرح.

ولكن هأنذَا أعدك بأنني سأُحارب، سأُحارب معك وسأصارع من أجلك، وستكون مهمتي حتى الرمق الأخير أن أعوق تقدّمه لئلا يستفحل، وأن أسعى جاهدةً لكي يحظى المرض بالاهتمام المُستَحَق، حتى لا تضطر أي أُم أن تخط رسالة كهذه لابنها بمناسبة عيد ميلاده الرابع.

أحبك دائماً وأبداً.

* مرض الحثل العضلي (دوشين) هو مرض غالبا ما يصيب الأبناء الذكور بسبب خلل في الجينات وينتج عنه ضعف العضلات الذي يزداد سوءاً مع مرور الوقت، ويؤثر أيضا على عضلة القلب والجهاز التنفسي، وبذلك يؤدي إلى الإعاقة الحركية مبكراً، ومن ثم الوفاة في مقتبل العمر، ولا يوجد حتى الآن علاج لمرض "الدوشين".

back to top