عاطفة هادئة

نشر في 23-04-2017
آخر تحديث 23-04-2017 | 00:00
 فوزي كريم كل الأفلام التي تعرضت لسِير الشعراء رأيتها تنطوي على مادة شعرية: عن الشاعر كيتس (نجم مضيء)، كوليرغ (بندايمونيوم)، بايرون (بايرون)، أليوت (توم وفيف)، ديلان توماس (حافة الحب)، سيليفيا بلاث (سيليفيا)، لوركا (رماد قليل)، نيرودا (ساعي البريد)، غينزبيرغ (عواء)، وأخيراً عن إيميلي ديكنسون (عاطفة هادئة)، وبابلو نيرودا (نيرودا) من جديد. لذا، يبدو لي حصاد المتعة بالغ الوفرة.

ففي السينما تتمتع بفن الفوتوغراف والرسم، وبفن الموسيقى، وتستوحي المسرح والأوبرا، ولا تفتقد الأدب في الشعر والحكاية. واللافت للنظر، أن شخصية الشاعر تتماهى مع شخصية الممثل بصورة تستحوذ على الذاكرة تماماً، فما إن تقرأ كتاباً عنه، أو قصيدة له، حتى يتراءى الممثل بصورة حاسمة، وخاصة إذا ما كان الشاعر ينتسب لمرحلة ما قبل الفوتوغراف. ولا تعرف ما إذا كانت هذه الحالة نافعة أو ضارة.

سبق أن شاهدت مسرحية رائعة للأميركي وليم لوسي من شخص واحد، تعتمد حياة الشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون عبر قصائدها، يومياتها ورسائلها (متوافرة في يوتيوب تحت عنوان The Belle of Amherst). والآن في السينما فيلم "عاطفة هادئة" A Quiet Passion للمخرج الإنكليزي Terence Davies. المسرحية لم ترَ عاطفة ديكنسون هادئة كما رآها الفيلم، بل حاولت أن تبعث الدراما الداخلية بالمنَلوغ المصوّت، وهو ما تتطلبه دراما المسرح، حيث تبدو الشاعرة في عزلة رومانتيكية معهودة لدى المرأة. تقنيات السينما يمكن أن تريك الدراما الداخلية حتى في لحظات الصمت، فثمة كثافة وعمق عاطفيان يحيطان حواسك جميعاً، وهي خصائص عاطفة تليق بشاعرة خالصة للشعر بصورة فريدة كديكنسون، فيعرضها المخرج مفكرة حرة لا تخلو من دعابة، وإذا كان معتركها مع المحيط داخلياً هادئاً، إلا أنه صائت مع الحياة والكون، وحيدة في عالمها الخاص، لم تغادر بيت العائلة الريفي (حتى إنها لم تغادر غرفتها في مرحلة حياتها الأخيرة)، مع أن علاقتها بالعائلة بالغة الحميمية، لم تتزوج، وكانت في غنى عن المشاركة الاجتماعية. تكتب الشعر على طاولة صغيرة في الركن، ولا تطمع بنشره. تضع بضع قصائد في ملزمة ورق، تخيطها ككراس وتوزعه على معارفها. هذا خيارها، وهو خيار لابد أن ينحدر إلى حياة أسى ومرارة.

وضع المخرج الفيلم في ثلاث مراحل متواصلة دون فواصل؛ مطلع الشباب مع الممثلة Emma Bell، ومرحلة النضج، ومرحلة الانحدار الصحي والعقلي مع الممثلة Cynthia Nixon التي انفردت بالدور حتى النهاية. هناك قصائد في كل ثنية من الفيلم تُقرأ بصوت الممثلة، حتى ليشيع الشعر كالرائحة؛ قصائد قصيرة stanzas، تنتهي الجملة في البيت بشارحة لا أحد يعرف مغزاها، وتتطلع أبداً إلى محاور كبرى كالموت، الحب، والأبدية، وهي تطلعات الشاعر الكبير. ومع العزلة والأسى وهذا الارتباط المشيمي بالشعر يرتفع التساؤل الأبدي: لم هذا الارتباط القدري بين الموهبة الشعرية الكبيرة وبين محيط الأسى الداخلي؟

عاشت إيميلي ديكنسون في منتصف القرن التاسع عشر (30 - 1886). في مطلع شبابها أُخرجت من المدرسة الداخلية، بسبب تشككها الديني، وعادت إلى دفء العائلة؛ الأب والأم، والأخ وزوجته، والأخت. الكاميرا تكاد تظل حبيسة هذا البيت على امتداد ساعتين (أو 37 سنة من عمر ديكنسون)، لكنك لا تشعر بذلك، بفعل الغنائية في كل شيء؛ حركة الكاميرا، الإضاءة، الأزهار، وتدفق القصائد.

كانت ديكنسون غزيرة الكتابة للشعر، لكنها لم تنشر في حياتها إلا بضع قصائد من مجموع ما يقارب 1800 قصيدة، وما من أحد على معرفة بذلك، حتى اكتشفت أختها الصغرى "لافنيا" بعد موتها بقليل الخزين الشعري الكبير. أول مجموعة لشعرها نُشرت أول مرة عام 1890. قصيدتها، التي كانت تتركها دون عنوان، مبنية على نظام "الستانزا"، إلا أنها كانت تتصرف بحرية في التقفية. لم تكن طبيعة قصيدتها مألوفة في زمنها، لذلك حورت بعض قصائدها من قِبل الناشرين، لتلائم العرف السائد.

back to top