حبر وورق

نشر في 01-04-2017
آخر تحديث 01-04-2017 | 00:02
No Image Caption
عقرون 94

السماء ملبدة بالقلق. قلق يثير الرعب في القلوب، وقلبي يرتجف كلما رفعت بصري إلى السماء، أعاين هذا السواد الحالك المخيف وكأن السماء سوف تطبق على الوادي وساكنيه من الإنس والجن. في هذه الأجواء الملبدة بكل أنواع الكراهية، والحرب المقلقة أحدث نفسي هل ستطبق السماء على الأرض، وهل عُجِّل العذاب؟ يا إلهي ألطف بعبادك في هذه البلاد التي تنال نصيباً من عذاب البشر ووعيدهم. يا الله لا تعجل بالعذاب وكوارث الحروب. يا رب ما الذي تخبئه أقدارك ومشيئتك لعبادك الضعفاء؟

في هذه الليلة، السماء والأرض متدانيتان ومتقاربتان من بعضها البعض. أما البشر فقلوبهم مشحونة بالكراهية والبغضاء. لماذا لا يكون الشمال والجنوب كالسماء والأرض متباعدين لا ينال أحدهما من الآخر، لماذا لا يكونا كالسحب عندما تسقي الأرض بالماء وليس بحمم بركانية تصب على رؤوس الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة؟

أنزوي بنفسي في أحد أركان البيت أصلي لله بأن يلطف بنا في هذه الليلة من خطوب الزمن، وأن يروي بلادنا بسلام دائم كسلام سيدنا إبراهيم عندما قُذف به في النار ولم يصب بأذى لأن السلام حلّ عليه من رب العباد. يا رب إنّا في انتظار سلامك وبردك، فالبشر لا سلام منهم. فهم الآن يحشدون كل قذاراتهم متجهين إلى حرق البلاد والعباد بدون رحمة. أنا في هذا الوادي أشعر بالموت يدنو مني كلما سمعت عن أخبار الحرب، والقلق يقرع قلبي على أهل عدن التي تتساقط عليها القذائف وتقصفها الصواريخ. صواريخ القبيلة، الجيش، وصواريخ من عاد من المجاهدين الذين توعدوا الماركسيين في جنوب اليمن بالتنكيل والسحق. ولكن لا أحد يموت إلا النسوة والأطفال الأبرياء، أما الماركسيون فتحميهم جيوش أخرى ومضادات للصواريخ.

قناة (إم بي سي) هي القناة الوحيدة التي تنقل لنا آخر أخبار الحرب بالصوت والصورة. فبعد كل مغرب مباشرة نتجه إلى بيت جارنا الوحيد الذي يملك (الدش) ونشاهد الأخبار. لم يمضِ على الحرب إلا شهر، وهناك من يقول بأن الحرب ستنتهي بانتصار الشمال، والبعض يذهب به التخمين إلى العكس، وأن الجنوب سوف ينتصر والذي قد انتصر على الشمال في معارك سابقة قبل الوحدة، فهو الجيش الأقوى في المنطقة والبعض يقول بأنه أقوى من جيش إسرائيل. أما جارنا الذي نجتمع في بيته فيقول إن الحرب سوف تحسم بنصر قوات الشرعية لأنهم الأكثر عدداً. وجلس يعد مكونات الجيش الشرعي، جيش الدولة، والقبائل، والمجاهدين، ثم صمت، فإذا بصوت والد أيوب الملقب بكاسترو وهو يقول: والأطفال الذين يجرونهم إلى المعركة. فضائح.. فضائح وراء هذا الجيش الشرعي.

كلام كاسترو أغاظ جاره الذي يبدو بأنه مع الشرعية ويتهمه البعض بأنه يعمل بالسر مع نظام الشرعية.

سيل بشري عظيم لن يقف أمامه إلا جيوش مضاعفة لهم. الهزيمة تبدو أكثر للجنوب. الأجواء ساخنة في الصيف، والجبهات أكثر سخونة، وأنفسنا أكثر قلقاً، والحياة في الوادي تضيق برغم اتساع المكان. طوابير السيارات على محطات البنزين والغاز، أما الكهرباء فلساعات محدودة من بعد المغرب إلى الحادية عشرة ليلاً.

في الصباح يتسابق أهالي الوادي على برادات الماء لتعبئة ثلاجاتهم الصغيرة بماء بارد يقلل من حرارة الصيف اللاهب. كنا نبحث عن أبسط الأشياء في الوادي، ولا نحصل عليها بسهولة. فالدواء شحيح، والناس طابور على الحياة التي لا يجدونها.

في أحد الأيام، قبل الظهر، ذهبت إلى مجلسنا المعتاد تحت الشجرة، شاهدت والد أيوب (كاسترو) وهو متربع في المجلس يحكي عن الغدر وأن الجنوب لن ينهزم في الحرب إلا بالغدر والخيانة. سمعت شخصاً آخر أتى من القرية المجاورة لقريتنا التي تقع بالقرب من وادي عقرون، وهو مصر على رأيه بأن الحرب سوف تُحسم لصالح الجنوب، وأن الجنوب يملك صواريخ اسمها (كانت مدينة). وقال:

– إذا أُطلق صاروخ واحد على صنعاء فسوف يدمرها ويستسلم علي عبد الله صالح، وسوف تنسحب بقية الجيوش المتقدمة في الجبهة أثناء تدمير عاصمتهم صنعاء.

كان كاسترو أكثر حماسة عندما سمع بهذه الحكاية التي رفعت من معنوياته: أيوه، صح.. أنا أيضاً سمعت عن هذا الصاروخ الذي يسمونه (كانت مدينة)، قال كاسترو، وهو يمسح على شنباته من الأعلى إلى الأسفل في حالة يتداخل فيها الشك باليقين، والحقيقة بالخيال.

أثناء مشاهدة نشرة أخبار إم بي سي بعد المغرب شاهدنا مطار عدن وهو يحترق بسبب صاروخ أطلق من إحدى القواعد العسكرية الموالية للشرعية. وقبل قصف مطار عدن بأيام كانت هناك جثث تعرض على شاشة التلفزيون لأطفال ونساء قُتلوا في عدن بصواريخ الشرعية التي لا ترحم الإنسان فتفتك به. فبعدما شاهد كاسترو المشهد. قال:

– صاروخ واحد على صنعاء وسيجعلها رماداً مع ساكنيها.

فكان رد جاره الكبش:

– هؤلاء بشر لا يستحقون كل هذا الدمار. اتَّق الله يا رجل.

كاسترو:

– أين هي الإنسانية مما يحدث في عدن؟ الدم يقابله دم.

ولم يدع كاسترو جاره الملقب بالكبش يرد فقاطعه:

– الخونة هم وحدهم المتعطشون للدماء. أشعلوا نيران الحرب عندما غدروا بلواء باصهيب الجنوبي المتمركز في ذمار. رصاصات الغدر انطلقت من صنعاء ولن تكون الأخيرة. فمن أعتاد على الغدر ستكون سياسته في الحياة الغدر دائماً. الدماء الغادرة جرثومة فإذا امتزجت بدماء الإنسان ستكون بعدها أجيال تحمل الجرثومة نفسها، ثم تتوارثها، إن لم نتخلص منها في الحال. عدالة السماء سوف تسحقهم.

قام كاسترو بعصبية، ونفض يديه من بقايا الرماد، ووضع التنباك في إحدى زوايا شدقه وخرج من المجلس متوعداً جاره الكبش بالنصر للجنوب، وقال: مساكين أهل صنعاء يعتقدون أن مطر السماء رحمة من الله على أرضهم! ألا يعلمون أن السماء تبلّلهم بدموعها وهي شاهدة على الغدر بجنود لواء باصهيب الأبرياء في ذمار؟ من زمن أبرهة الأشرم وصنعاء تغدر بالعروبة.

لأول مرة أرى كاسترو يبكي بعد هذه الكلمات. وتمتم: آمنوا بالوحدة فكان مصيرهم الذبح بلا رحمة.

لست أدري هل أصاب الناس الجنون أو الغباء الأعمى في الحروب عندما يذهبون بإرادتهم إلى مخازن الأسلحة لنهبها وتنفجر فيهم وتحولهم قطعاً بجانب قطع الأسلحة، ويسمع كل الناس عبر التلفزيون أو الراديو هذا الجنون، ومرة أخرى نسمع عن حادثة مماثلة ويتكرر المشهد بصورة مأساوية في مدينة أخرى من مدن اليمن، وتكون النتيجة نفسها، تتطاير الجثث وتمتزج الأشلاء بقطع الأسلحة وتتكون مادة مشوهة من لحم البشر وقطع الأسلحة وتتناثر معاً وتكون سحابة سوداء في أرجاء المدينة وأيضاً في نفوس أهالي الضحايا وأصدقائهم. الحروب تعلم الجنون ولولا هذه الحروب التي تنتج كل أنوع الجنون لما ذهب الناس إلى حمل السلاح أو نهبه ليكون مصير حامله الموت حتماً.

بدأت الحرب باسم الشرعية وتم تدمير المدن وقُتل الناس بهذا الشعار. يقول كاسترو:

– إن من يشعل الحرب هو الطرف الأقوى المغرور ولا يريد أن ينصاع إلا إلى صوت القذائف.

للحروب في العالم صورة واحدة لا تختلف كثيراً، فعندما تحل الحروب في المدن تنتشر فيها كل أنواع القذائف التي تنطلق إلى الأمام ولا تميز بين الرؤوس أو الأجساد التي ترتطم بها ويكون الضحية الأطفال والنساء والشيوخ وتنجح مهمة القذيفة في زهق الأرواح باسم الحرب أو باسم الشرعية التي تشرعن القتل.

السماء صافية برغم أجواء الحرب، كأن لا علاقة لها بالأرض التي تحترق فيها القلوب وتتفحم فيها الأجساد. السماء تتبرأ من أعمال البشر في الأرض، للسماء ملكوت آخر لا نعرف سره، فكل الدمار يكون على الأرض والسماء تسبح في عالم آخر بعيداً عن عالمنا البغيض. كم تمنيت أن أصعد إلى السماء وأعيش هذا الطهر والنقاء، ولو لساعات قليلة تنسيني شيئاً اسمه الحرب وقتل الإنسان للإنسان. في هذه اللحظات المضطربة شعرت بالشوق إلى من رحلوا عن هذا الكون ولم يتعذبوا بأخبار الحروب، ورائحة الدماء التي تزكم الأنوف، ولم يشاهدوا الأشلاء التي تأكلها الغربان. فقد أثّر بي (المدرّف) الذي لم يشغل باله بالحرب، وكأنه خارج كوكبنا، وهو يصدر نغمات ممتزجة بالوجع والشوق. هذا الفنان القابع في عمق الوادي تحت شجرة المشط، معتمراً عمامته وماسكاً (بالمدروف) في صورة مؤثرة تحتاج إلى فنان يرسم للأجيال هذه الصورة المدهشة في الحياة التي تمحو مؤقتاً شعورنا بالدمار. تفرقت آراء الناس حول هذه الحرب، فهناك من يقف مع الشرعية، ويعتقد بأنها أصلح وأفضل من حكومة الحزب الاشتراكي في الجنوب، وهناك من يقف ضدها لأنهم يعتقدون بأنها شرعية بلا شنبات كما قال كاسترو. فالكبش دوماً يتهم كاسترو بأنه أكبر انفصالي في الوادي بسبب أفكاره التي لم يفهمها أو يقول إن أفكار كاسترو تزعجه ولا تروق له.

قبل أن تُحسم الحرب بأيام، كانت هناك أخبار تصلنا مفادها بأن المكلا سوف تسقط قبل عدن وأن قوات الشرعية أصبحت قريبة، وهناك تراجع وهزائم في الجبهات القريبة من مدينة المكلا. بعد أن شاع خبر اقتراب قوات الشرعية من مدينة المكلا وروج لها، شهدت مدينة المكلا نزوحاً جماعياً، الكل أصبح يتدفق إلى الأودية. ازدحم وادي دوعن بأهله الذين لا يعرفونه إلا وقت المحن والأزمات. ذهب البعض إلى ترميم بيوتهم القديمة التي هجروها لسنوات، والبعض سكن عند قريبه، والبعض الآخر سكن في بيوت المهاجرين في الخليج الذين هم أيضاً تركوا بيوتهم قائمة وحيدة تواجه الرياح.

تذكرتان إلى صفّورية

- لا يمكنك، مسيو.

ببساطة، تأخر نصف ساعة. نصف ساعة فقط حالت بينه وبين الطائرة المتوجّهة إلى مطار بن غوريون، أو خمس وعشرون دقيقة. لم تقلع الطائرة بعد، ما زالت في المطار على بعد أمتار منه، يراها عبر الزّجاج . سأل الموظّفة:

- أليست هذه؟

أجابت دون أن ترفع رأسها عن الشاشة أمامها:

- نعم مسيو لكنّنا أغلقنا الشّباك ولا يمكن استقبال أي مسافر الآن، الطائرة تغلق أبوابها.

- أذهب بدون حقيبتي.

- متأسفة مسيو.

يبقى صامتاً للحظات، منتظراً أن تطلب منه التذكرة، كأنها كانت تحدّث شخصاً آخر أو تحدّثه هو في أمر آخر. كان هادئاً تماماً، آخر الاحتمالات في رأسه كانت أنّ الطائرة ستقلع بدونه وأنه سيبقى في المطار.

- أرجوكِ لا أريد أن أتأخّر.

دون أن تنظر إليه وقبل أن يكمل جملته ردّت:

- أنت متأخر مسيو.

- لكن... كيف تقلع بدوني؟ من على متنها أنا أولى منهم جميعاً، أرجوك، الطائرة ستقلع.

- لكنّك متأخّر، سأرى إمكانيّة أن تجد حجزاً في الطائرة التالية إلى بن غوريون، إسرائيل.

- أو أي مطار آخر أرجوك مدام.

بدأ سريعاً بالاقتناع بأنها ليست مزحة، وأنّه فعلاً سيبقى في المطار بينما الطائرة تقلع أمام عينيه. بدأ ينهار، فجأة، كأنّه فعلاً رأى الطائرة تقلع كأن كل من على متنها وفي المطار اتّفقوا على الإسراع بدونه، كأنّهم دبّروا ذلك. ترك السيّدة وتراجع إلى كرسيّ حيث كان ينتظر الركاب طائراتهم، وبدأ يبكي، بلا صوت، بلا دموع، لكن بجسده، بصدره ورأسه، كأنّ أحداً يهزّه من كتفيه.

لم تقترب منه الموظّفة ولم تسأله من بعيد إن كان بخير، لم تقتنع بهذا الارتجاج الصامت أمامها، ظنّته يفتعل البكاء ليثير شفقتها فتطلب من أحدهم فتح باب الطائرة لتمرير راكب متأخّر. تعرف أنّها تستطيع تأخير الطائرة لدقائق، لذلك افترضت أنّه يحاول استعطافها، لكنّه لم يعرف أنها تستطيع، لم تعرف هي أنّه لم يعرف ذلك. قد أخبرته بأنّه تأخّر وأن لا جدوى من النقاش، وأنّ أقصى ما يمكنه فعله هو الحجز في أوّل طائرة متوجّهة إلى مطار بن غوريون، فرضي وانعزل ليبكي.

- يبدو أنك ستبقى في فرنسا اليوم، مسيو، أو، انتظر، لثلاثة أيّام كما يبدو. هذا موسم أعياد دينيّة كما تعرف.

- لا أعرف.

لم تجد له أي حجز، سيكون متأخراً حتى عن الحجز في أوّل رحلة متوجّهة إلى فلسطين، أو إسرائيل كما أصرّت الموظّفة. لم يكترث لإصرارها على تكرار كلمة إسرائيل المكتوبة أمامها على الشاشة كما يبدو. لم يصحّح لها كما يفعل عادة ويتفرّع بأحاديث في التاريخ والسّياسة.

- كما تريدين، أيُّ طائرة إلى هناك.

قال متقبّلاً أن يبقى لساعات في المطار منتظراً الطائرة التالية، لكنّه لم يتخيّل أنّه سيعود إلى بيته، أنه لن يجد اليوم أيّة طائرة تقلّه إلى فلسطين، ليس اليوم فقط، سيعود ويمضي أياماً في بيته منتظراً طائرة تقلّه، تقبل أن تقلّه. آخر ما اقترحته الموظّفة ورضي به كان أن تضع اسمه على لائحة الانتظار في الرحلات الأقرب للاتصال به إن خلا مقعد في طائرة لسبب ما، فيمنح له بعدما تركه صاحبه.

قام عن الكرسيّ وحمل حقيبته ليعود إلى بيته، ليس كما تركه، ليس كما كان فيه قبل ساعة، فرحاً، يدندن، يغنّي، يخلط كلمات ويدخل أخرى من عنده، يخلط لَحْنين ببعضهما وبثالث من عنده، يبدأ بأغنية وينتهي بأخرى، يقوم بحركات خرقاء على أنّها دبكة، بيديْه كأنّه يلوّح بمسبحة، وبرجليه كأنّه ينفض عنهما صراصير متشبّثة بهما، ما لم يفعله في حياته.

لم يحصل حتى أن غنّى مرّة بصوت مسموع أثناء إعداد القهوة وارتداء ملابسه. وكلّما أراد الغناء أثناء الاستحمام، كما يفعل الآخرون، أو كما يسمع بأنّ الآخرين يفعلون، كان فمه يمتلئ بالماء.

خرج لا يعرف كيف، من مبنى المطار. بالكاد يستطيع جرّ نفسه وحقيبته، لا يرفع نظره عن الأرض، كأنّه معاقب للفرح الذي أظهره هذا الصّباح. وصل إلى محطّة الباص، هناك انتظر، على الحال ذاتها. في الباص ظلّ جالساً لأربعين دقيقة، لم ينزل في محطّته، بل انتظر ليخبره الشوفير بأنّ الباص في محطّته الأخيرة، وقد نزل جميع الرّكاب.

سينزل الآن وينتظر الباص على الجهة المقابلة للعودة إلى المحطة المجانبة لبيته. في الباص لم يفكر بالموظفة ولا بالطائرة، كل ما شعر به هو الندم على فرحه ومحاولته الغريبة للغناء والرقص قبل ساعتين، {ما بِلْبَق لي} قال لنفسه.

في بيته ترك الحقيبة لأيّام منصوبة بجانب الباب، كالخيمة. لم يفتحها، كأنّه ينتظر أن تتصل به الموظّفة أو غيرها لإبلاغه بخلوّ مقعد، لكنّ أحداً لم يتّصل به، وهو لم يتّصل ويسأل أو يحجز في رحلة ما إلى بن غوريون، لم يعد يرغب في ذلك، كأنّ الجميع عمل على إرجاعه إلى بيته وإبقائه هناك، كأنّ أحداً في فلسطين لم يرغب باستقباله، كأنه وصل وكانت البلد مغلقة أو الحفلة منتهية والأضواء مطفأة، فعاد إلى بيته، بكى قليلاً وفكر بلِيا.

جواز السّفر الفرنسي الذي تسلّمه قبل أسابيع ما زال في جيب المعطف المرميّ على الكرسيّ. لا رغبة له في رؤيته، لا رغبة له في رؤية أي شيء أو أي أحد، خاصة لِيا، بعد شجارهما وانفصالهـما، وانقطاعهما لأسبوعين.

انتشل مرّة برنامج الشهر الخاص بالعروض وبدأ يتصفّحه أثناء انتظاره لها. وصل قبل موعد عرض الفيلم بربع ساعة، وزّعه بين الوقوف داخل مبنى السينما تفادياً للبرد، وخارجه ليتمكن من رؤيتها إن اقتربت. كان قد قال لها أن لا تتأخّر. بل أكّد عليها أن لا تتأخّر.

يتجنّب دائما مواعدتها أمام مبنى سينما غومون كلّما أرادا الخروج ومشاهدة فيلم معاً، كان يفضّل أن يذهبا ويده في يدها كي يضمن أن لا تفوته دقيقة واحدة من الفيلم، أن لا تفوته العروض الترويجية للأفلام القادمة، والتي تسبق عرض الفيلم، وكي يضمن كذلك مكاناً جيداً في الصالة، في منتصف الصفوف الخلفية، في مكان لا يجاوره، أو يجاورهما، فيه أحد فيضع حقيبته ومعطفه على الكرسي المجانب له.

تأخّرت ليا. نفد ربع الساعة، تصفّح برنامج العروض أكثر من مرّتين، يتصل بها ولا ترد. لن يستطيعا الآن انتقاء مكان كما يحب، وإن تأّخرت خمس دقائق إضافية فسيفوّتان العروض الترويجيّة. تتأخر ليا أكثر، وخط تليفونها مقطوع. قد تكون في المترو، يفكر.

تصل أخيراً. قد تكون العروض انتهت الآن والفيلم بدأ، وإن وجدا مكاناً فسيكون جانبياً وفي الصّفوف الأماميّة، الأسوأ من بين كلّ كراسي الصّالة.

back to top