ما مصير شرق أوروبا اليوم؟

نشر في 24-03-2017
آخر تحديث 24-03-2017 | 00:00
عندما تصدرت رومانيا عناوين الأخبار الشهر الماضي بسبب التظاهرات المنددة بجهود الحكومة لتمكين الفساد، بدا هذا التطور مفاجئاً للكثير من المراقبين الخارجيين، فمع إشارة عمليات الانتخاب والأزمات التي تعتمل منذ زمن إلى عهد أوروبي جديد، لا شك أن وسط أوروبا وشرقها شكلا الجزء الأكثر تأثراً من القارة، ولا شك أن الاتحاد الأوروبي يعاني اضطرابات كثيرة ويشهد تبدلات كبيرة.

في الدول الممتدة من بحر البلطيق إلى البحر الأسود تمثّل هذه التبدلات في النظام الإقليمي مصدر قلق كبير، وتدرك الدول المتنوعة بقدر رومانيا، وصربيا، وإستونيا متى تُفتح أبواب التاريخ وتُقفل، بما أن مناطقها تقع على المفاصل التي تتأرجح عليها هذه الأبواب، وفي أسوأ الأحوال تُدرَج دول مماثلة ضمن فئات تُفرَض من الخارج، فهي تُعتبر الحدود أو المعبر الاستراتيجي إلى ساحة قتال أعظم. نتيجة لذلك لطالما شملت عملية بناء الأمم، خصوصاً في دول جنوب شرق أوروبا، تدخل قوى خارجية.

يشكّل فيكتور غريغوريسكو نموذجاً عن كثيرين التقيتهم في رومانيا: يضحك بسهولة ولا يتردد في مشاطرة ما يعرفه، تعاطى غريغوريسكو بجدية تامة مع تفويضه: كان جزءاً من حكومة شُكّلت بعد تنحي رئيس الوزراء الاشتراكي فيكتور بونتا وسط فضيحة فساد، فتألفت هذه الحكومة من تكنوقراط أُعطوا سنة واحدة لإضفاء طابع محترف على الحكومة الرومانية. أدرك غريغوريسكو مهمته جيداً: في العقد الماضي شارك في مفاوضات انضمام رومانيا إلى الاتحاد الأوروبي،

أخبرني: "نشهد اليوم نماذج متبدلة. ثمة سوق [أوروبية] مشتركة، وسوق واحدة للسلع، فضلاً عن أن الناس يستطيعون التنقل بحرية في أوروبا، فلمَ نتعاطى مع الطاقة بشكل مختلف؟".

تمثّل وجهة النظر هذه نقطة الاختلاف الأبرز بين الاتحاد الأوروبي ومنافسيها الجيو-سياسيين السابقين في القارة، فضلاً عن منافسه الحالي الأكثر أهمية: روسيا. يبحث الاتحاد الأوروبي عن المكاسب المشتركة، في حين تسعى روسيا وراء الفرص لتقسّم وتفسد، باسطةً بالتالي نفوذها بهدوء، وتُعتبر الطاقة مصدر أمن، ويعمل الاتحاد الأوروبي، بالتعاون بشكل وثيق مع حلفاء مثل غريغوريسكو وسائر أعضاء حكومة داسيان سيولوس، على منح الدول أدوات تتيح لها التحكم في مصدر الأمن ذاك. في المقابل تحاول روسيا، تماشياً مع النموذج التقليدي المطبّق في البلقان، التدخل والتخريب.

تشكّل دولة بلغاريا المجاورة أحد الأمثلة الأبرز لذلك، وتواجه هذه الرقعة الممتدة من ساحل البحر الأسود إلى سلسلة جبال البلقان العجز الاقتصادي الأكبر مع روسيا في المنطقة، وتعتمد إلى حد واسع على واردات الطاقة، حسبما أوضحت دراسة أجراها أخيراً مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، كذلك اكتشف هذا المركز أن شركة "غازبروم" تفرض على بلغاريا سعراً أعلى بنحو 26.5% من المعدل، وتعمل في الوقت عينه على عرقلة التنوع في قطاع الطاقة في هذا البلد وتحتكره. إذاً ثمة سبب وجيه يجعل روسيا تنظر بعين الرضا إلى تراجع تأثير الاتحاد الأوروبي.

لكن السؤال المهم الذي ينشأ اليوم: ما الخيارات المتوافرة أمام دول أوروبا الوسطى والشرقية مع تحوّل مقاربة بناء الأمم هذه، التي تقوم على التعاون والتقدم التدريجي، إلى جزء من الماضي؟ شكّلت فترة الهدوء، التي تلت حروب البلقان في تسعينيات القرن الماضي وانتهت مع التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في شهر يونيو عام 2016، مرحلة من ترسيخ الدولة المليء بالأمل رغم بطئه، إلا أن الدرب ما زال طويلاً أمام هذه المهمة، كان التوتر قد بلغ مستوى عالٍ في عام 2016، وفي دردشة أخرى شاركت فيها في بوخارست في أواخر الصيف الماضي، وصف أحد الناشطين السياسيين خروج بريطانيا بـ"الخيانة"، ولا شك أن كثيرين يوافقونه الرأي.

نشهد مرة أخرى إعادة كتابة الجغرافيا السياسية في هذه المنطقة، ومن الأسئلة التي تُطرح: ما مقدار الطاقة المتبقي في المشروع الذي يقوده الغرب لتقوية المنطقة؟ وهل من الممكن أن تمضي تصاميم مثل اتحاد الطاقة قدماً رغم أن الاتحاد الأوروبي يبدو مشوشاً وفي حالة من التبدّل أو حتى الارتباك؟ أما السؤال الأهم فيبقى: ماذا تستطيع هذه الدول القيام به بمفردها؟ وما يمكنها فعله رغم التدخل الروسي؟ وهل كانت حصيلة السلام طوال عقدين من الزمن وتأثير المؤسسات الدولية الإيجابي كافيين ليتيحا لدولة مثل رومانيا تطوير شخصية مستدامة على المسرح العالمي، أو لدولة مثل بولندا إثبات ذاتها كقائد إقليمي يستطيع التصدي للمعتدين من الخارج؟ لا شك أن الأجوبة ستختلف باختلاف الدول، وأن العملية ستكون متقلبة بقدر تاريخ شرق أوروبا نفسه.

back to top