إن كنت تظنّ أنك عبقري... فأنت مجنون!

نشر في 23-03-2017
آخر تحديث 23-03-2017 | 00:09
 العباقرة والمجانين
العباقرة والمجانين
ينتبه العباقرة والمجانين على حد سواء لما يغفل عنه الآخرون. عندما سئل جون فوربس ناش، عالم فيزياء حائز جائزة «نوبل» ومصاب بالفصام، وجنون الارتياب، والأوهام، كيف يُعقل أن يعتقد بأن كائنات فضائية تستخدمه لإنقاذ العالم، أجاب بكل بساطة: «لأن فكرة استعانة كائنات فضائية بي راودتني بالطريقة عينها التي أتتني بها الأفكار الرياضية. لذلك أخذتها على محمل الجد».
عالم الفيزياء جون فوربس ناش ليس العبقري المجنون الوحيد في التاريخ، إذا جاز التعبير. يقدّم ضحايا الانتحار، وأبرزهم الرسامَان فنسنت فان غوغ ومارك روثكو، والروائيَّان فيرجينيا وولف وإرنست هيمنغواي، والشاعرتَان آن سيكستون وسيلفيا بلاث، أمثلة بارزة في هذا المجال. حتى لو تجاهلنا المبدعين البارزين الذين لم يقتلوا أنفسهم في نوبة من الكآبة الحادة، يسهل علينا ذكر أسماء كثيرين عانوا حالة موثّقة من الاضطرابات النفسية، كالمؤلف روبرت شومان، والشاعرة إميلي ديكنسون، وناش. كذلك نستطيع أن نعدد فيضاً من العباقرة المبدعين الذين استسلموا للإدمان.

دفعت أمثلة مماثلة كثيرين إلى الافتراض أن الإبداع والأمراض النفسية يرتبطان ارتباطاً وثيقاً. لا شك في أن مفهوم العبقري المبدع يحمل لمسة من الجنون تعود إلى عهد أفلاطون وأرسطو. لكنّ علماء نفس حديثين يعتبرون أن هذه الفكرة بأكملها مجرد سخافة. يمكننا بكل سهولة ذكر أسماء عباقرة مبدعين كثيرين لم تظهر عليهم أعراض أو إشارات تدل على مرض عقلي.

شطحات

يشير رافضو فكرة العبقرية المجنونة أيضاً إلى واقعَين راسخَين: أولاً، عدد العباقرة المبدعين في كامل تاريخ الحضارة البشرية كبير جداً. لذلك، حتى لو كان هؤلاء أقل عرضة للأمراض العقلية مقارنة بالناس العاديين، يظلّ عدد مَن عانوا اضطرابات مماثلة كبيراً. ثانياً، لا يقدّم المرضى المقيمون دوماً في المصحات العقلية أعمالاً مبدعة. ولعل الاستثناء الأقرب الذي ربما يخطر في بالنا ماركيز دي ساد. ولكن حتى في حالته، كتب أعظم أعماله (أو بالأحرى أكثرها سادية) عندما كان مسجوناً كمجرم لا محتجزاً في مصح عقلي كمجنون.

إذاً، هل ترتبط العبقرية المبدعة بالجنون أم لا؟ تعكس البحوث العصرية بكل وضوح رابطاً بينهما. تبقى العملية الأكثر أهمية الكامنة وراء شطحات العبقرية المبدعة إزالة التثبيط المعرفي: الميل إلى التنبه إلى الأشياء التي يجب تجاهلها عادةً أو إبعادها عن انتباهنا لأنها تبدو غير ذات صلة.

على سبيل المثال، عندما تنبه ألكسندر فليمنغ إلى أن العفن الأزرق يقتل البكتيريا في عيناته المخبرية، كان بإمكانه إدخالها في جهاز للتعقيم كما كان زملاؤه سيفعلون على الأرجح. ولكن بدلاً من ذلك، فاز فليمنغ بجائزة «نوبل» لاكتشافه «البنسلين»، وهو عامل مضاد للبكتيريا يُصنع من عفن بنيسيليوم نوتاتوم. على نحو مماثل، دخل كثيرون الغابة للتنزه وعادوا مع كريات شائكة مزعجة تلتصق بثيابهم، إلا أن جورج دي ميسترال وحده تأمل هذه الكريات تحت المجهر واكتشف أساس المشبك الشريطي «الفلكرو».

لا تقل إزالة التثبيط المعرفي أهمية في الفنون عما هي عليه في العلوم. يخبر العباقرة الفنيون دوماً أن نواة مشروع مبتكر كبير خطرت في بالهم عند سماعهم محادثة عابرة أو رؤيتهم حدثاً استثنائياً إنما لا أهمية له خلال نزهة يومية. على سبيل المثال، ذكر هنري جيمس في مقدمة عمله The Spoils of Poynton أن فكرة هذه القصة وُلدت من عبارة ذكرتها امرأة كانت تجلس إلى جانبه خلال عشاء عيد الميلاد.

ولكن لإزالة التثبيط المعرفي وجهاً سلبياً: ترتبط هذه العملية ارتباطاً وثيقاً بالاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، يتعرّض مرضى الفصام لفيض من الهلوسات والأوهام من الأفضل لو استطاعوا تفاديها. إذاً، لمَ لا تصبح هاتان المجموعتان مجموعة واحدة؟ توضح عالِمة النفس من جامعة هارفارد شيلي كارسون أن العباقرة المبدعين يتمتعون بذكاء عام متفوق، يفرض ضوابط معرفية ضرورية تتيح للشخص فصل القمح عن القشور. وهكذا ينتقون الاحتمالات الواقعية من الأوهام الغريبة.

إذاً، يعتبر هذا المفهوم أن الذكاء الكبير ضروري للعبقرية المبدعة، بشرط أن تترافق الأخيرة مع إزالة التثبيط المعرفي.

ذكاء استثنائي وحوادث

يؤدي الذكاء الاستثنائي وحده إلى أفكار مفيدة إنما تفتقر إلى الأصالة والإبداع. على سبيل المثال، دخلت مارلين فوس سافانت «كتاب غينيس للأرقام القياسية» لتمتعها بأعلى معدل ذكاء مسجّل. رغم ذلك، أخفقت في العثور على علاج للسرطان، أو حتى ابتكار مصيدة فئران أكثر فاعلية.

يشدّد بعض مجالات الابتكار على الفاعلية أكثر منه على الأصالة والمفاجأة. في حالات مماثلة، تصبح الهشاشة المشتركة بين العبقرية والجنون أقل أهمية بكثير. على سبيل المثال، ربما ترتبط الأمراض العقلية بالعبقرية المبدعة في العلوم التقليدية. لكنّ يبقى العلماء الثائرون الذين خالفوا المبادئ العلمية السائدة الاستثناء الأبرز. بالنسبة إلى هؤلاء، تُعتبر هذه العلاقة إيجابية كما في حالة الفنانين والكتّاب.

علاوة على ذلك، يعزّز بعض الحوادث والظروف في الطفولة، والمراهقة، ومستهل سن البلوغ أحياناً قدرة الشخص المبدعة من دون معاناة أعراض ترتبط بالأمراض العقلية. تشمل هذه التجارب المعززة للتنوع الاحتكاك بثقافات عدة، وتعلّم لغتَين، وأشكالاً مختلفة من العقبات التنموية، كخسارة الوالدين، والمشقة الاقتصادية، والانتماء إلى أقلية. ويكون العباقرة المبدعون الذين يعيشون في بيئات مماثلة أقل عرضة للخصال والأعراض التي ترافق الأمراض العقلية.

بين الطبيعي وغير الطبيعي

يسير عباقرة كثيرون على الحد الفاصل بين الطبيعي وغير الطبيعي. بالنسبة إلى هؤلاء، يتحوّل فيض النزوات والأفكار الذي يتلقونه إلى نبع من الإبداع. وكما ذكر عالم الفيزياء ناش بعد فترة طويلة من التفكير الواهم، لم تكن عودته إلى مرحلة أكثر عقلانية «ممتعة بالكامل». وليوضح السبب، قدّم جواباً بسيطاً آخر: «تفرض عقلانية الأفكار حداً على مفهوم الإنسان عن علاقته بالكون».

يمكننا بكل سهولة ذكر أسماء عباقرة مبدعين لم تظهر عليهم أعراض أو إشارات تدل على مرض عقلي
back to top