«ستراسبورغ»... مختبر إردوغان!

شرق فرنسا تحت تأثير الإسلام السياسي التركي

نشر في 22-03-2017
آخر تحديث 22-03-2017 | 00:00
تنزعج أوروبا اليوم من تحركات الرئيس التركي الذي يرسل مبعوثين رسميين لاستمالة شتات يبدي استعداداً دائماً لمساعدته على ترسيخ نفوذه. مُنِعت الاجتماعات التي تحمل طابعاً سياسياً أكثر منه دبلوماسياً في هولندا والنمسا. لكن لم يصدر قرار مماثل في فرنسا حيث تمكّن وزير الشؤون الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو من إلقاء خطابه في مدينة «ميتز» في 12 مارس الجاري أمام حشد من مناصري إردوغان الذين جاؤوا من مختلف المناطق في شرق فرنسا. «لوبوان» سلّطت الضوء على الموضوع.
منذ عام 2002، أطلق الرئيس التركي الإسلامي المحافظ رجب طيب إردوغان سياسة دبلوماسية ذات طابع ديني، مضاعفاً الميزانية المخصصة لرئاسة الشؤون الدينية، إذ يعمل اليوم 120 ألف موظف عام في إدارة المساجد داخل البلد وخارج الحدود. بهذه الطريقة، يتابع زعيم الإسلام السياسي تحقيق رغبته في جعل الإسلام محور الهوية التركية.

وزير الشؤون الخارجية أهم أداة مستعملة في الأوساط الدبلوماسية التركية. طوال عقود، كانت رئاسة الشؤون الدينية تُستخدم لاحتواء الشتات التركي. في الماضي، بدت خارطة الطريق واضحة وارتبطت بالحفاظ على النزعة القومية تزامناً مع منع الأتراك من التوجه إلى الإسلام المتطرف. باختصار، كان الهدف الأساسي يتعلّق بنشر العلمنة. لكن منذ وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، تعمل رئاسة الشؤون الدينية على تفكيك مظاهر العلمنة بين الأتراك من خلال تشجيعهم على المجاهرة بانتمائهم الإسلامي. في الوقت نفسه، أصبحت مكافحة ظاهرة الخوف من الإسلام جزءاً من العمل السياسي عن طريق جمعيات تركية تنتمي إلى المجتمع المدني.

يزعم المسؤولون في «الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية» أنهم لا يتعاطون السياسة لكنهم لا يخفون تعاطفهم مع «حزب العدالة والتنمية» التابع للرئيس التركي. يعتبر بعض أعضاء الاتحاد أن الأكراد في

«حزب العمال الكردستاني» ومناصري خصم إردوغان، فتح الله غولن، إرهابيون وأن الصحافيين شركاء للإرهابيين. يظن هذا النوع من الأشخاص أن الانتماء إلى اليسار الفرنسي لا يتعارض مع رسم بعض الحدود لحرية التعبير، تحديداً عند التعامل مع الإرهابيين. بعد عام 2000، انضمّ عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا في الأصل من المهاجرين الأتراك إلى الحزب الاشتراكي في ستراسبورغ شرق فرنسا. يتحدث أكثر الأعضاء تشدداً عن تطبيق استراتيجية سياسية تُرسَم في تركيا، لكن يفضّل آخرون تعزيز التعايش بين مختلف أعضاء الحزب الاشتراكي. مع ذلك يُجمِع المنتسبون كلهم على نقطة واحدة: ظنوا أنهم يشهدون على نشوء تفاهم متعدد الثقافات على نطاق واسع. لم يتوقع أحد أن تؤدي اليقظة القومية الدينية على طول البوسفور إلى اضطراب التوازن في منطقة الألزاس.

أصبحت مدينة «ستراسبورغ»، بمؤسساتها الأوروبية، رمزاً أساسياً بالنسبة إلى إردوغان. ستكلّف القنصلية التركية المستقبلية 35 مليون يورو ويقضي مشروع آخر بتشييد مسجد بأسلوب عثماني مع مئذنتين بطول 36 متراً. سيكون ثاني أكبر مسجد في «ستراسبورغ».

تصدعات

ظهرت أولى التصدعات بين معسكر اليسار وبين هذا الإسلام الذي يحمل طابعاً سياسياً أكثر منه روحياً في عام 2010، داخل مجلس البلدية. كانت دار البلدية تسعى إلى إقامة توأمة مع مدينة تركية. بعد إصرار المستشار البلدي سابان كيبر التركي الأصل، وقع الخيار على مدينة «قيصري» المعروفة بنزعتها المحافِظة وتُعتبر معقلاً لحزب العدالة والتنمية ونموذجاً للإسلاميين الأتراك.

في 11 أكتوبر 2015، قصدت مين غونباي، نائب رئيسة بلدية «ستراسبورغ» المسؤولة عن حقوق المرأة والديمقراطية المحلية، القنصلية للمشاركة في الانتخابات التركية. فكتبت على فيسبوك: «أحياناً نشعر بالغثيان حين نطأ أماكن معينة. لكن لن تنجح الدولة التركية الفاشية في إخافتنا. صوّتنا... من أجل السلام!».

اعتُبر ذلك التصريح فضيحة حقيقية بالنسبة إلى مناصري «حزب العدالة والتنمية»، ثم انطلقت حملة شرسة ضد غونباي بزعم أنها استغلت منصبها كي تعبّر عن رأي «يعارض موقف معظم الأتراك». بناء عليه، تلقّت تهديدات بالقتل وانتشرت دعوات إلى اغتصابها ومطالبات بالاستقالة. في النهاية، رضخت للأمر الواقع واستقالت في أبريل 2016.

ارتدادات مدوية

رغم الشرخ الذي وقع بين الحزب الاشتراكي وبين «الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية»، لم يفسد التفاهم المحلي القائم بين السلطات العامة والأديان. يتولى مستشار البلدية الراهن نيكولا مات تنظيم العلاقات مع مختلف الطوائف في «ستراسبورغ». تخصص المدينة بين مليونين و3 ملايين يورو سنوياً لتنفيذ هذه المهمة. وسيكون الكهنة والقساوسة والحاخامات موظفين مثل غيرهم وتُعيّنهم الدولة. منذ عام 1999، تموّل «ستراسبورغ» 10% من مشاريع بناء أماكن العبادة. في المقابل، تطالب المدينة بمقعد لها في مجلس إدارة الجمعية الثقافية. لكن لم يطالب «الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية» بحصته.

لا يجرؤ كثيرون في البلدية على انتقاد هذا النظام لكن يبدي البعض انزعاجه من تمويل مشاريع دينية تتطلّب الفصل بين الرجال والنساء ويتساءل عن صحة دعم مشاريع دينية تتماشى مع سياسات قومية خاصة ببلدان خارجية. بعد سيل من انتقادات مماثلة، لم يحضر أي ممثل رسمي آخر اجتماع ديني للمفتي التركي الكبير.

يؤكد المسؤولون في البلدية وفي «الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية» عدم نشر أي خطاب سياسي في المساجد لكن ينفي علي، أحد مناصري فتح الله غولن والمتّهم بالتخطيط للانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو 2016، هذه الادعاءات. في تركيا، يتعرّض مناصرو غولن للملاحقة والاعتقال. وفي فرنسا، يلاحقهم أتباع إردوغان. يقول علي إن المساجد التركية تتعاون مع «حزب العدالة والتنمية» ودعت إحدى العظات في مساجد «ستراسبورغ» إلى القضاء عليهم غداة محاولة الانقلاب في تركيا.

في آخر انتخابات تشريعية شهدتها تركيا في أكتوبر 2015، تمكن المصلّون في المساجد التي يديرها «الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية» من الذهاب في الحافلة لحضور لقاء إردوغان في «ستراسبورغ» أو للتصويت في القنصلية هناك. اليوم يتلقى علي الذي يُعتبر إرهابياً في نظر الدولة التركية تهديدات من مناصري «حزب العدالة والتنمية» الذين ينشرون رسائل تدعو إلى تطبيق أحكام الإعدام في حق الخونة.

من المتوقع أن تعطي مخططات السياسيين المحليين والخارجيين ارتدادات مدوّية. في «ستراسبورغ»، بدأت تلك الارتدادات تتجدّد ويبدو أنها ستزداد قوة مع مرور الوقت.

back to top