حبر وورق

نشر في 18-03-2017
آخر تحديث 18-03-2017 | 00:05
No Image Caption
ملحمة الهروب إلى الموت

- «يا الله ويا الله... ما لنا غيرك يا الله...».

صوت هادر يسمعه زياد وهو جالس في بيته البسيط في حي «الخالدية» في وسط مدينة «حمص» السورية. يحاول احتضان أولاده الأربعة قدر استطاعته، تمرُّ به عشرات الأفكار، من دون أن يعرف أياً من هذه الأفكار يعتبر أملاً، وأيها يعتبر خوفاً من المستقبل، ينقل نظراته بينهم بعدم تركيز، بناته الثلاث فاطمة وهبة وزهرة، وأخوهم الصغير أحمد، وأمهم سعاد.

«يا بشار ويا جبان... ويا عميل الأمريكان...».

في الوقت نفسه، تنظر سعاد إلى زوجها زياد بشكل مباشر لتبحث في عينيه عمّا يدور في خلده، حوار الأعين لا يخطئه المحبون. تنقل بصرها بين وجه زوجها وبين أبنائها الأربعة، فاطمة ذات الثلاث عشرة سنة، وهبة ذات العشر سنوات وزهرة ذات الثماني سنوات وأحمد الصغير ذي الست سنوات. زهرات لم تعرف من الدنيا بعد غير البيت والمدرسة واللعب. أي خوف يعصف بقلب سعاد على أبنائها وهي تستمع لهذه الأهازيج.

«يا بثينة ويا شعبان... الشعب السوري مو جوعان...».

يتململ زياد في جلسته ويتنحنح، لم يعد يطيق هذا الصمت أمام نظرات زوجته، يطرق برأسه للأرض قائلاً:

- سعاد، لن أستطيع البقاء، أرجوك أن تفهمي ما أقول، أُحس أن هناك أمراً ينتقص من كرامتي، ينتقص من رجولتي، أسمع هذا الصوت الهادر من رجال وضعوا أرواحهم على أكفهم، وأنا أجلس كالنساء في بيتي. أرجوك يا سعاد، كوني عوناً لي، أُحس بأني أموت من داخلي.

أجابته سعاد ومسحة من الحزن تلف وجهها الناعم:

- مهما تكلمت يا زياد، لن أقتنع. لا أستطيع التفكير بعيداً عن أطفالنا. زياد، الفكرة بحد ذاتها ترعبني، أفقد السيطرة على نفسي مباشرة بمجرد تفكيري بالخطر الذي يحيط بهم. وجودك مع هذه الجموع لن يقدم أو يؤخر. لِمَ تجلب الخطر علينا وعلى أبنائنا؟

أجابها بتذمر واضح:

- يا سعاد، كفّي عن الضغط عليَّ بهذه الطريقة، أنا منهار من داخلي، لم أكن في يوم من الأيام جباناً أو خانعاً. لِمَ ترضين لي هذا الهوان والذل؟ هل تسمعين ما يقولون؟ «هيهات منّا الذلة» يصرخون بوجه العالم أجمع، وأنا أجلس كالنساء في البيت، لا، لست كالنساء، فحتى نساء البلد صرن يشاركن في هذه المظاهرات. سأرتدي ملابسي وأنزل لأشارك. لم أعد أطيق، ادعي لي بالتوفيق والسلامة. ولن أتراجع.

أمسكت بيده محاولة منعه وهي تقول:

- زياد، زياد... أرجوك زياد، هذه الخطوة لا تراجع بعدها، ولا سلامة.

أفلت يده من يدها بهدوء وهو يقول بحزم واضح:

- سعاد، السلامة من الله، لن أتراجع.

نزل زياد من بيته متوجهاً إلى أحد التجمعات القريبة في حي «الخالدية»، لم يكف عن ترداد الأهازيج في طريقه، يدندن بها بلا وعي أو إرادة، يسير وفكره مشغول بكثير من الأمور التي مرت معه في حياته، كل كلمة يسمعها ويرددها تنقله إلى مواقف وذكريات مؤلمة، بِدءاً من مرحلته الدراسية وصولاً إلى يومه هذا. كيف ينسى أن ابن مدير «شعبة التجنيد» كان يُعتبر الآمر الناهي في المدرسة، حتى على مدير المدرسة نفسه، كان يسير في وقت «الفرصة» في أنحاء المدرسة محاطاً بمجموعة من الطلاب وكأنهم موكب رئاسي، والمغضوب عليه من يعترض طريقه أو ينظر إليه نظرة لا تليق بفخامته، كم كان يكره هذا المنظر ويشعر بالظلم. كيف ينسى حرمانه من التعليم الجامعي أو حتى المعاهد المهنية، لمجرد أنه لا ينتمي إلى الحزب الحاكم، وبالتالي يفقد الأولوية والدرجات المساندة التي تؤهله للقبول في أي جامعة أو معهد. كيف ينسى ما عاناه في بداية عمله في تجارة الخردوات من التسلط والقهر لدفع الرشى لمدير البلدية ولعناصر التموين الذين يقتاتون كالطفيليات على سرقة أرزاق التجار.

«الله... سوريا... حريييية وبس».

ومع كل خطوة يخطوها، يزداد إصراره وتتعاظم عزيمته. لا، لن يتراجع عن قراره، لم يعد يرى سوى أمر واحد، لا يريد لأولاده أن يعيشوا ضمن هذا الظلم والقهر، لا يريد لهم الذلة والمهانة اللتين كان يشعر بهما ويراهما في كل وقت، لم يعد هناك مبرر لهما، لم يبقَ أحد في حارتهم لم يخرج في هذه المظاهرات، أمّا عن نتائجها، فهي بيد الله، لن يفكر في المستقبل بأكثر مما يحيط به، الجميع يهتف، «هي لله... هي لله».

من هنا، بدأت مع زياد وعائلته رحلة الهروب إلى الموت، رحلة لم تدخل ضمن حساباته في يوم من الأيام.

كانت فصول الأحداث المتعلقة بالثورة السورية تسير بتسارع أمام ناظري زياد، لا يكاد يخلو يوم من دون أن يسمع بأحداث مؤلمة تشيب لها الولدان، فمن جهة امتدت الثورة لتعمّ معظم مدن سوريا، ولم تعد قاصرة على مدينتي «درعا» و«حمص»، فها هي مدن «الريف الدمشقي» تثور، ومدن الشمال الشرقي السوري بكل نواحيها، لم يبقَ سوى مدينتي «دمشق» و«حلب» ومدن الساحل لم يخرج شبابها بشكل واضح بعد. من جهة أخرى يمارس النظام الحاكم العنف غير المسبوق في القمع، فلم يتوانَ عن استخدام الرصاص الحي وحتى القناصة لقمع المتظاهرين، والاعتقالات باتت أمراً طبيعياً مقبولاً يتحدث فيه الناس بشكل عام. ومع كل يوم يمرّ يزداد خوف زياد من المستقبل ويزداد معه إصراره في الوقت نفسه، إصرار على عدم التراجع في أي خطوة للخلف، هي لله ولن يجعلها لغيره. صارت المشاركة بالمظاهرات روتيناً يومياً وحدثاً مألوفاً بالنسبة إليه، حتى زوجته سعاد لم تعد تضغط عليه كما كانت تفعل من قبل.

بدأت الأمور تتغير بشكل دراماتيكي متسارع في «حمص»، وكل التحركات التي تحدث تنذر بأمر عظيم سيقدم عليه النظام لمحاربة هذه الثورة، ولا يوجد ما يبشر بخير من ناحية المجتمع الدولي.

في أحد الأيام القريبة، والتي لم تختلف وتيرتها عن غيرها، سمع زياد بأن هناك تجمعاً كبيراً في «ساحة الساعة» وسط «حمص» عقب جنازة مهيبة مشى فيها أهل «حمص» تشييعاً لثلاثة عشر شاباً استشهدوا برصاص عناصر النظام. توجه زياد حيث كان التجمع حتى وصل للساحة، لم يكن يعلم بأن العدد مهول إلى هذه الدرجة، فلقد تجاوز المجتمعون عشرات الآلاف من رجالات «حمص» ونسائها وشبابها وشيبها، عندما أصبح بينهم أحس بخفقان شديد في قلبه، كان إحساساً بالعزة والقوة والتمكين يشعر به للمرة الأولى في حياته، فجميع من يراهم ويهتف معهم على قلب رجل واحد، يبحثون عن الحرية والعزة والكرامة. كان الوقت قريباً من العصر وما زال الكثير من الرجال والنساء يتوافدون، لم يبقَ أحد لم يشارك في هذا الاعتصام، فلقد رأى زياد الرجل والمرأة، الشاب اليافع والعجوز الهرم، المسلم والمسيحي، أهل المدينة وأهل البادية. كانت «ساحة الساعة» تكتظ بكل فئات مجتمع مدينة «حمص»، حتى رجالات الدين بمختلف أديانهم وأطيافهم وصلوا إلى هذا التجمع، راقب زياد ما حوله بعين فاحصة يسجل في ذهنه كل ما يرى، وكأنه يريد أن يوثّق حدثاً تاريخياً يغير صفحات التاريخ وهو حاضر في هذا الحدث.

بدأت الأهازيج تأخذ رتماً انسيابياً منظّماً، وعلا صوتها بمكبرات صوت عمّت المكان كله، وما زال الناس يتوافدون على الساحة حتى امتلأت عن بكرة أبيها، وصار كثر يقفون في بعض الطرق الفرعية المؤدية إلى الساحة بعد امتلائها، رأى مجموعة من الشباب بدأوا بتنظيم الحضور، ومجموعة أخرى يقفون على مداخل الطرق الفرعية يفتشون كل من يرغب بالدخول، ورأى في مكان آخر مجموعة من الشباب والنساء يوزعون بعض الأطعمة على الجموع. علا صوت أذان المغرب من مكبرات الصوت فعمَّ الهدوء والخشوع الساحة بمنظر مهيب، فلكلمة «الله أكبر الله أكبر» أثرها في هذه اللحظات، صلى المحتشدون المغرب يحرسهم الشباب المسيحي، كانت لوحة تعايش حقيقية من أبدع اللوحات، واستمر الحضور يزداد حتى انتصف الليل، بعدها استغرب زياد من خفوت صوت الأهازيج والهتافات وترنيماتها، وكثر الهمس والأحاديث الجانبية بين المحتشدين، وما هي إلا دقائق حتى وصل الخبر إلى زياد من أحد الذين كانوا يقفون بجواره مذ وصوله الساحة، فهناك تأكيدات من بعض الشباب بأن النظام سيعمل على فض هذا الاعتصام بالقوة قبل الفجر. بدأ البعض ممن كانوا في الاعتصام يتوجهون إلى الطرق الفرعية عائدين من حيث أتوا، لكن الأهازيج عادت بقوة فجأة وكأن القائمين على تنظيمها يدعون الحضور إلى عدم الانسحاب، بدأت الأعداد تقل شيئاً فشيئاً، لكن كثراً أيضاً استمروا في اعتصامهم. أما زياد فبقي في الميدان إلا أنه غيّر موقعه ليقف قريباً من شارع «عبد المنعم رياض» كي يجد مخرجاً إن نفّذ النظام تهديده.

ما إن حلّت الساعة الثانية بعد منتصف الليل حتى سمع زياد صوت أول طلق ناري، أعقبه صوت تكبيرات مرتفعة، ثم وبأقل من خمس دقائق هاجت الدنيا وماجت حوله وكأن القيامة قد قامت. أصوات الطلقات من أسلحة نارية مختلفة، أصوات صراخ وعويل وتكبيرات، أناس يهربون في كل اتجاه، دماء متناثرة في كل مكان، جرحى يئنون وهم يحاولون الاحتماء بأي شيء كان، آخرون ينزفون وهم محمولون على الأكتاف، أجساد ملقاة على الأرض تلفظ أنفاسها الأخيرة، نساء يبكين وهن يهرولن من دون تركيز. ذهل زياد من هذا الكم الرهيب من الخوف والألم، فاقداً الحس بالخطر من هول الصدمة، متسمراً في مكانه وكأنه يشاهد فيلماً سينمائياً لا يمت إلى الواقع بصلة، بقي على هذا الوضع لعدة دقائق، وعقله يعمل كمسجّل يوثق ما يدور حوله من دون ارتباط مباشر به، انتبه فجأة للخطر الذي يدور حوله إثر اصطدام أحد الشباب به بقوة كاد أن يسقط أرضاً على إثرها، كان الشاب يحمل طفلاً ينزف بغزارة، ويبدو عليه بأنه فقد الحياة إثر رصاصة اخترقت رأسه، نظر زياد لما حوله باندهاش ثم تفحص ثيابه التي امتلأت بالدماء إثر اصطدام الشاب به.

جنوب جدّة... شرق الموسّم

لا يمكن لأي كاتب رواية أن يعود بنا أربعين أو خمسين عاماً إلى الوراء ليبدأ سرد أحداث رواية، أربعون أو خمسون سنة بعيدة جداً. ربما في السابق لم يكن ذلك يعني الكثير، والحياة لم تكن تتغير أو تتبدل كثيراً، لكن الآن كل شيء يختلف، والأربعون عاماً تبدو من الماضي البعيد جداً، بل والموغل في القدم، حتى لكأننا نقرأها في الكتب، على الرغم من أننا عشنا جزءاً منها، أدركناه ورفلنا قليلاً في جنتها، وفي تلك الطفولة، غير أن هذا السبب لم يعد كافياً، والحياة تتغير كلّ يوم وبشكل مريع، حتى ما عدنا نعرف من نحن، ولا عدنا قادرين على القيام بلعبة التوازنات.

كل شيء في حياتنا يتعرض لعملية تسريع كبيرة، ومخطئون لو كنا نظن أن «المايكروويف»، في المطابخ فقط، حياتنا أيضاً تتعرض لعملية «مايكروويف» هائلة جداً وبأقصى ما يكون.

في الماضي، عاش أبي حياة جدي، وعاش جدي حياة من سبقوه، سوى باختلافات صغيرة، وكانوا يتوارثون الأرض ذاتها بجغرافيتها، العمل ذاته، وبالأدوات ذاتها، ويتوارثون حتى السماء والأمراض التي يموتون بأسبابها، من دون أن يدركوا. ولم يكن تعليل الموت يتطلب الكثير فقط، الله أعطى، والله أخذ، وهذا كل شيء.

لكن هذا لا يعني أن ننفصل عن الماضي أو نبعثه للنسيان، ثم نختلق حكايات من العدم المطلق، أو حتى نبدأها منذ اللحظة، وربما نسافر إلى الماضي بين وقت وآخر، نستلهم بدايات وأشخاصاً وأحداثاً من دون أن نقيم هناك طويلاً، وما عاد من شيء هناك.

وإلى هناك أعود الآن بالطبع، لا لأقيم ولكن لأصطحب معي خالي حسين في رحلته وعشقه وحزنه، وهو يسافر غاضباً من كل شيء، مخلّفاً ومتخلياً عن كل شيء، كان يدافع عن قضيته الأولى في زمن لم تكن فيه الكثير من القضايا التي تشغلنا كما هي الآن. كانت قضيته الأولى والوحيدة هي قضية قلبه، وكان قد خسرها بضربة عناد وخيانة من آخرين، وبضربة عناد منه هو أيضاً دمر كل شيء ومضى.

وربما الشيء الوحيد الذي حمله معه عدا الذكرى هو التطرف، التطرف في كل شيء، التطرف في الحب، وفي الكراهية، وفي العناد، وفي اختصار كل ألوان العالم إلى لونين فقط الأسود والأبيض. وعنه ورثت هذا الشيء التطرف والعناد، في كل شيء ولكن من دون شجاعته، والتطرف من دون شجاعة هو هزيمة مذلة، هزيمة يعقبها الندم المتأخر.

وأعتقد أني ورثت عنه أشياء أخرى، أشياء أجمل، أشياء أقولها من دون حرج، ورثت عنه عشق الجميلات من النساء، وورثت عنه أيضاً المقامرة بكل شيء مقابل اللاشيء، وحياة من دون مقامرة مملة كبقايا عشاء منذ ليلة البارحة.

ذلك القدر الذي شتت خالي حسين كل العمر، فعلها معي أيضاً، ولكنه شتات من نوع آخر، شتات الروح التي لم تعرف يوماً المستقر والمراح.

والآن أعود إلى هناك، وأنا الآن هناك أعود فقط لأحفر مع الآخرين قبره قبل أن نصلي عليه ونواريه الثرى، وحيث ينتهي كل شيء.

عندما صحونا بعد الفجر كانت أولى عائلات المخاضرة قد وصلت، عرفنا ذلك من نباح الكلاب أولاً، ثم من تلك العشاش التي نبتت كالفطر بجانب القرية في ليلة واحدة، وعرفناه من تزاحم الدلاء على البئر، ومن الوجوه التي كنا نعرفها في ما سبق، ثم من أمي التي أيقظتني لتقول لي:

- أسميانا، وصلوا، قم خذ هذا الخبز وهذا الشاي والسكر لبيت محسن شولان.

وكدت أطير من الفرح، ليس لوصول المخاضرة ولكن لأسبابي الخاصة، وتهيأت للذهاب حتى قبل أن أغسل وجهي من بقايا السهر، وآثار الرمد المقيم داخل عيني على الدوام.

اختطفت من يدها زنبيل الخسف الذي يحوي الشاي والسكر وقرصَي خمير الذرة، وانطلقت عدواً أقفز حواجز الشوك الفاصلة ومطارح البقر، ثم تجاوزت معطن الإبل نحو أطراف القاسمية، حيث اعتاد المخاضرة أن يبنوا عشاشهـم خارجها وعلى أطراف المقبرة، حيث كنت أعرف عادة المكان الذي ينزل فيه، سمينا محسن وعائلته.

ما من مساحات بيضاء هناك للسكنى عدا المقابر أو ما يُظن أنه مقابر دارسة ضاعت شواهدها، لذلك تتجدد كل عام المعركة الوهمية بين شيخ القرية وبينهم... هو يرى أن كل ما يحيط بالقاسمية مقابر يجب أن تصان ويحترم موتاها، وهم يرون أن الحي أولى من الميت وأن هذه القبور دارسة منذ الأزل.

- خافوا الله، ترى اللي تحتكم أموات مسلمون مثلكم، وأمس هم وغداً أنتم ونحن يا قليلي الإيمان.

هكذا كان يقول لهم شيخ القرية، والحق كان المخاضرة قليلي الإيمان بمفهومنا نحن على الأقل.

الحي أولى من الميت يا شيخ، والله أعلم أنهم قد أصبحوا تراباً، ثم فيان نحل، والقاسمية كلها مقابر وأنت أدرى؟

-سلط الله عليكم.

ثم لا يلبث أن يمضي عنهم وكأنه أدى واجباً لا أكثر، ولأنه يعرف أن المخاضرة سيتكاثرون كل يوم أكثر وأكثر ولا مساحة تتسع لهم عدا هذه المقابر الدارسة التي تحيط بالقرية.

وقبل أن يبتعد يقول لهـم، وبصوت العاجز:

وقف الله عليكم جمهوريين، أنتم جمهوريون وما تخافون الله ولا غير الله.

وكانت مفردة «جمهوري» من أقذع التهم في قاموسه، والتي لم نكن نعرف معناها جيداً نحن الصغار.

كنت أعرف المكان الذي اعتاد أن ينزل فيه سمينا محسن...

وكان والدي يهيئه للسكن، وقبل وصولهم ومنذ ولدت بينهما صداقة أثمرت عن تسمية صغرى بناته على اسـم أمي مريم.

كان يزيل أشجار المرخ والثمام والأشواك الصغيرة، ويسوي الأرض ويغرس حتى أوتاداً للأبقار ومرابط للحمير. لم يكن العمل شاقاً بقدر ما كان أشبه بحجز المكان، وكعربون محبة بينهما، كنت أساعده أنا وأخي علي، وكان يغمرني وأنا أفعل ذلك فرح غامر، فرح من ينتظر العيد.

عندما وصلت، وحتى قبل أن أسلم على عمتي جمعة، حاولت التلصص بعيني هنا وهناك، وكنت أفتش عن ابنتيها خديجة وفاطمة، فقد مضى ما يقرب العام منذ أن غادرتنا العائلة كلها بعد نهاية الموسم الماضي وحلول فصل الصيف.

كنت أريد أن أراهما. أريد أن أعرف هل كبرتا كثيراً، وهل نبت نهدان لخديجة أم ما زال صدرها ممسوحاً كصدر صبي، وهل ما زالت تعقد منديلها الأصفر المشجر تحت ذقنها، وهل غدت لها غمازتان كأختها فاطمة. وكيف أصبحت فاطمة؟ غير أنهما لم تكونا هناك. بدتا كأنهما ذهبتا للبئر أو لجلب الحطب أو لشأن آخر، وخاب ظني وفترت حماستي، ونسيت السبب الذي جئت من أجله حتى احتضنتني عمتي جمعة بكلتا يديها، وبصدرها المتدلي من تحت صدرتها، وبرائحة حنانها، حنان الأمهات وكأنها أدركت خيبتي.

back to top