من يجرؤ على ما بعد الحداثة؟ (3-4)

نشر في 26-02-2017
آخر تحديث 26-02-2017 | 00:00
 فوزي كريم تيارُ ما بعد الحداثة جاء في القرن العشرين على أثر حلقات متواصلة، ظلت ألمانيا مركزها الفلسفي بالرغم من توسعها الأوربي، ثم الأميركي. كان الفيلسوف هايدغر بوابة النزعة اللاعقلانية المُعتمَدة: رأى العقلَ ذاتياً وعاجزاً عن بلوغ حقائق الواقع، ورأى عناصر الواقع، من كلمات ومفاهيم، عقباتٍ يجب إزالتها، واعتبر المشاعرَ الممرورة المتعلقة باليأس والروع مرشداً أعمق من العقل، واعتبر كلَّ الفلسفة الغربية من أفلاطون حتى ديكارت، وخاصة في اعتمادها قانون اللاتناقض وثنائية الذات/ الموضوع، عدوّة يجب إنكارها. هذه العناصر سرعان ما توفّرتْ على علاقة جديدة داخل المعترك السياسي، مع موجات اليسار التي نبتت جذورها في تربة فلسفية خصبة: من "جماعية" الفيلسوفين روسو وكانت، المضادة للفردية، إلى نسبية التنوع الثقافي لدى هيردر، والتربية الوطنية لدى فيختة، وعبادة الدولة لدى هيغل.

لدينا الآن موجة يسار فعالة، ولكن في ظل موجة أوسع وأعمق تأثيراً هي موجة الحداثة وأفكار التنويريين. الأولى تتحرك باتجاه الحلم الاشتراكي، وقد اتسعت في ألمانيا لتنتج حركةَ يمين تؤمن بالجماعية لا بالفردية، وبالسلطة المطلقةِ للدولة، وحركةً اشتراكية توزعت إلى اشتراكية وطنية يمينية وأخرى أممية يسارية. أما موجة الحداثة والتنويريين فقد أسست لمجرى الليبرالية، أو الرأسمالية (حرية الفرد، والسلطة النسبية للدولة، وحرية السوق، والثقة بالعلم والصناعة، وبالتالي بالازدهار.. إلخ).

بعد حربَي ألمانيا الطاحنتين، وبعد صعود الاشتراكية الوطنية والحزب النازي وانهيارهما، وانهيار اليمين جملةً، مُسحت هذه الموجة من الميدان تماماً، وفقدت مصداقيتها أخلاقياً وثقافياً. ولم يبق في ساحة المعترك السياسي، ذي الجذر الفلسفي، إلا الرأسمالية الليبرالية مقابل الاشتراكية اليسارية. وكما كانت للرأسمالية الليبرالية دولها، صارت للاشتراكية دولها أيضاً. ولقد أتاحت الحرب العالمية الثانية لجيوش الطرفين المنتصرين اقتسام الغنيمة. وأصبح للعالم الاشتراكي مهابة بفعل الاتساع والقوة.

مع السنوات صارت المقارنة بين حال الطرفين هي معيار التنافس. مثقفو اليسار الغربي، ومعه اليسار العالمي، والذين لم تهدأ أناشيد حماساتهم المتفائلة، اضطروا إلى رفع إيهام النفس وإيهام الآخر درجةً جديدة. كانت الأخبار ترد إليهم من العالم الاشتراكي دامية، فلا يصدقون، وإذا ما صدّقوا يتأوّلون. مع السنوات صارت الازدواجيةُ سمةً لهويتهم النفسية، والعنادُ وليدَ عمى البصيرة: نزعة الانتصار إلى المشاعر لا إلى العقل (كانت، كيركغارد... هايدغر) منحتهم شجاعةَ الإيمان بالعقيدة والثبات عليها، لا شجاعة العقل الذي يرى اتساع الفوارق بين فشل التجربة الاشتراكية (القمع، الفقر، الموت البطيء... إلى جانب الاعتراف من السلطة الاشتراكية بذلك/ خطاب خروتشيف بشأن جرائم ستالين..) ونجاح نقيضتها الليبرالية (الحرية، الغنى، الوفرة، الازدهار..).

ثمة أمثلة لقوة التعارضات بين نظرية ما بعد حداثيين وبين الحقيقة التاريخية: إنهم يرون الغرب عنصرياً بعمق، في حين أنهى الغرب الرق. ويتهمونه بأنه يتحيز للرجل على حساب المرأة بعمق، في حين أن المرأة في الغرب هي أول من حصل على حق الاقتراع في العالم، ويرون أن بلدان العالم الرأسمالي مجحفة بقسوة بحق فقرائها، في حين أن حالة فقراء الرأسمالية أفضل بكثير من حالة فقراء العالم.

في الخمسينيات دفعت هذه الخيبة اليسار إلى موجات إرهاب دموية في عموم الغرب الرأسمالي، ولكن السلطة الرأسمالية الليبرالية لم تكن لينة الجانب بدورها، فقامت أجهزتها البوليسية والعسكرية بدحر الإرهابيين، قتلت منهم مَن قتلت، وسجنت مَن سجنت، ودفعت البقية إلى الهرب والتخفي.

مع انهيار اليسار المتطرف والحركة الاشتراكية بصورة عامة، بحثت الموجة عن بديل فوجدته في تيار "ما بعد الحداثة"، الذي استبدل السياسة نظرية وتطبيقاً بنظرية المعرفة، لأنه رأى أن نظرية المعرفة هذه ليست أكثر من أداة للقوة والسلطة، وأن المنطق والعقل والموضوعية ليست إلا أقنعة. إن ما بعد الحداثة هو نتاج تزاوج بين سياسة اليسار والشك العميق بنظرية المعرفة. من هذه الخلطة الغربية بامتياز برزت أربعة أسماء في الصدارة: فوكو، وليوتار، ودريدا، ورورتي، ثم أحاطهم آخرون لا يقلون أهمية. ولقد كانت الجامعة معقلهم الحصين.

هل من مدخل خفي في هذه الخلطة الغربية بامتياز لمثقف عربي ما بعد حداثي؟

back to top