المشاءة

نشر في 18-02-2017
آخر تحديث 18-02-2017 | 00:00
No Image Caption
لا أعلم إن كنت مهتمّاً بملمس الأوراق، أو كنت تفعل كما أفعل حين تلامس أصابعي سطحها، ولن يفيدك أي تفصيل أضيفه حول أصابعي حين أمرِّرها فوق الأسطر التي دوّنتها يداي. أفكِّر في أمر الآن، وهو أنّني لو بسطت هذه الكميّة الضخمة من الأوراق المكدّسة داخل علب كرتون، فهي ستكفي لصنع طائرة ورقيّة بحجم الطائرة التي تحلِّق فوق رأسي. لا تصدّق أن ما يهمّني الآن قد يعني أحداً غيري. كلّ ما أكتبه لك قد يختفي، وإذا ما أتيحت لك فرصة قراءته، فسيكون ذلك مصادفة غريبة، لا تختلف عن كوني مختلفة عن بقيّة البشر. لقد وُلدت وأنا لا أستطيع التوقّف عن المشي. أقف وأنطلق بالمشي. أمشي وأمشي. أرى الطريق بلا نهاية. تقودني قدماي وأمشي. أنا ألحق بهما فقط. لا أفهم لماذا حصل ذلك، وليس مطلوباً منك أن تفهم! لأن تعويذتي هذه غير مهتمّة بما قد تفهمه.

جرّب أن تفعل هذا، وستجد أنها طريقة ناجحة للتخلص من هدير الطائرة. اسحب ورقة بيضاء - اسحبها بنعومة، ولا تجعل بقية الأوراق المكدّسة فوق الرزمة تتهاوى. اسحبها كما لو أنك تلامس شرياناّ في قلبك، ثم ضعها فوق سطح قاس، كما أفعل مع صينيّة القهوة حين أقلبها وأحوّلها إلى سطح مكتب. أنا أحمل القلم الأزرق الذي وجدته وسط الرزم. أنا أبدأ. أنت لا تباشر قبل أن يكون الصوت قد بدأ بالظهور. لا تتوقف إلاّ في حال وقعت وأغمي عليك من التعب. التعب وليس الخوف، لأنّ حمل القلم الأزرق واللعب به مع الكلمات فوق صفحة بيضاء إذا لم يحقّق غايته، فهذا يعني أن وصفتي قد فشلت. وأنّ الورق الأبيض لا يحبّك. وأنّ هدير الطائرات لن يختفي.

لا أعرف من ستكون، لكنِّي أخمِّن أنَّك سـوف تقرأ هذه الكلمات. قد لا يعنيك ذلك كثيراً الآن، لأنّك ما زلت الشخص المجهول، ولا تتذمّر من استطراداتي الكثيرة، فأنا لم أدرس في المدرسة كما يفعل معظم الأطفال، لكنِّي قرأت كلّ ما وصل إليّ من كتب. حتى لو حفظته غيباً ولم أفهم معناه، الكثير من الكتب لم أفهم معناها، وكانت الستّ سعاد تكركر بالضحك وهي تراني أفتح المجلّدات الضخمة وأحشر نفسي بين صفحاتها، بخاصّة مجلّدات تاريخ الفنّ.

لا تظنّ أنّني خائفة، ولكنْ أظنّ أن وجودي كان من الأخطاء الكثيرة التي أرى أنَّ الله يسهو عنها بين وقت وآخر، وربّما له من وراء ذلك حكمته القاسية. كما سبق وأخبرتك، إذ عليّ أن أذكّرك دائماً بأنّ عقلي في الأسفل، ولا أستطيع إيقاف هذا الشيء اللعين في قدميِّ. كان لديّ حلم، وهو أن يتركوني أمشي وأمشي حتى أفقد الوعي! هذا ما كنت أريد تجربته لأعرف أين ستقودني قدماي.

قالت أمّي إنّهم اكتشفوا ذلك مبكّراً، وإنّني ما إن أقف منتصبة على قدميّ حتى أندفع نحو الأمام، وهذا غريب! ولكن عليك أن تصدّقه. اعتقدوا أنّني مصابة بخلل عقليّ، لكنّ الأطبّاء أثبتوا أن عقلي سليم. أمّي رفضت وضعي في مشفى الأمراض النفسية. الجميع يسمّونه مشفى المجانين. خافوا منّي، وهذا لم يحزّني. فلطالما كرهت التواصل مع العالم الخارجيّ، ولم أجد فائدة من تحريك هذه العضلة الثقيلة داخل فمي، والتي يسمونها لساناً.

أدركت أنّني لا أتوقف عن المشي، ولم يكن ذلك واضحاً بالنسبة إليّ بدايةً، فأنا لا أذكر متى عرفت الألوان! كما وجدت أنّ لي أنفاً صغيراً، وشفتين مثل حبّة الفستق، كما تقول أمّي.

لست واعية للحظات قيدي الأولى. كانت أمّي أثناء تنقّلاتنا، تضمّ يدي اليُمنى إلى يدها، وتربط اليدين بوشاح قاسٍ أو حبل.

لكنْ، أثناء عملها كانت تقوم بتقييدي بطريقة مختلفة. تفعل ذلك وهي تبكي. ولم تتوقّف عن تكرار فعلها هذا حتى اختفت في أحد الأيّام. سأخبرك كيف كانت تقيّدني! أستطيع أن أتذكّر المرة الأولى التي اكتشفوا فيها أنّ رأسي هو بين قدميّ. حينذاك كنت في الرابعة من عمري، وكنت أرافق أمّي إلى مقرّ عملها. كنت مقيّدة في الغرفة الخاصة بعمل مستخدمي التنظيف في المدرسة. كانت أمّي مسؤولة عن تنظيف المراحيض والصفوف وإعداد القهوة والشاي لغرفة الإدارة والمعلّمات. المدرسة كانت في وسط دمشق. أمّا بيتنا، فكنّا نحتاج إلى ركوب باصين للوصول إليه من المدرسة، وهو يقع في نهاية «مخيّم جرمانا»، جنوب دمشق ..

سأكون سعيدة لأجلك لو أنّك لا تعرف هذا المكان.

في ذلك اليوم، حين أدركت أنّني لا أتوقّف عن المشي، كانت أمّي تقفل أدراج الخزائن في غرفة المستخدمين. فكّت وثاقي. ومدّت يدها لتربطه بمعصمها، شهقت واستدارت! كانت مجرّد لحظات، وهي ترتّب غطاء رأسها ثم تستدير نحو الخارج وتغيب لدقائق، في تلك الدقائق سارعت قدماي بالمشي. ما الذي فعلته في الخارج أمام الباب الحديد للمدرسة؟ لا أعرف، لكن، وما إن حلّت أمّي وثاقي حتى شعرت بأنّ أجنحة نبتت من أصابع قدمي، واستدرت باتجاه الشارع. خلال دقائق، صرت في عالم آخر، لم يراودني البكاء حينذاك. لحقت بقدميّ برضا تام. عليك أن تصدق أنني كنت أمشي في الشارع وعلى الرصيف بخطّ مستقيم، ولا أعرف ما يحيط بي حتى تحلّقت حولي مجموعة من الناس، وأمسكت بي. كانت رجلاي لا تتوقّفان عن الحركة، ولم أصرخ. سألوني عن اسمي واسم أهلي، حينذاك فقدت النطق، أو هكذا اعتقدت، فأنا لا أذكر صوتي، ولا أعرف سوى الغناء الذي ينبعث أثناء الترتيل. كنت أنظر إلى أفواههم المتحلّقة حولي، كأنّها حفر صغيرة على حائط. يجب أن تعرف أيضاّ أنّني لم أحدّد الوقت الذي مرّ، قبل أن أجد أمّي فجأة واقفة، وهي تولول وتبكي، وترفعني بين ذراعيها. كنت ضئيلة الحجم، وظنّ الناس أنّني بالكاد أبلغ الثالثة من عمري. ضمّتني وركضت بي. لم تتحدث أبداً عمّا حصل، ولم تحاول استدراجي إلى النطق، لكنّنا قضينا أربع سنوات ونحن نتنقّل بين الأطباء وهي تحاول فهم حالتي. منذ تلك الحادثة، فقدت النطق نهائياّ، ولم أسمع صوتي الاّ وأنا أرتّل القرآن. وهذه قصّة أخرى، سأحكيها لك.

لا تظن أنّك تقرأ رواية الآن، فما أكتبه هو الواقع، وأنا أكتبه لمحاولة فهم ما حدث.

لقد عادت حياتنا طبيعيّة، وبقيت أذهب مع أمّي ملتصقة بها، ولكنّي صرت أقضي وقتي في غرفة السيّدة المسؤولة عن مكتبة المدرسة. كانت أمّي محبوبة، والكلّ يتطوّع لمساعدتها. كان فيها شيء من الانكسار الخفيّ والذليل، والصامت أيضاً.

back to top