لم يبقَ لنا غيرها

نشر في 15-02-2017
آخر تحديث 15-02-2017 | 00:00
 طالب الرفاعي في السنوات الأخيرة، كلما تكلمت مع صديق من الكتّاب العرب جاءت هذه الجملة لتندس بيننا:

"لم يبق لنا غيرها، متعة القراءة والكتابة".

في البداية كان يقولها بعض قليل، وسرعان ما صار يرددها نفر أكثر. وصار يدور ببالي الخاطر؛ أي معاناة حياتية قاتلة يحياها الكاتب العربي فتحرمه لذة العيش، وتبعده عن طزاجة متع الواقع الحية، فلا يجد له مهرباً آمناً إلا عبر القراءة والكتابة؟!

تنور الاحتراب والدمار والقتل المشتعل في أكثر من قطر عربي، يأخذ يومياً مئات الأرواح ومعها يأخذ شيئاً من روح الواقع. هذا الاحتراب البشع فرغ الواقع العربي من أجمل ما فيه. الجميع كان يحيا حياته وسط واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وفكري وثقافي.

لم تكن أقطار الوطن العربي تعيش بحبوحة من العيش الهني منذ مطلع القرن العشرين. لكن، وفي موازاة نهر الحياة الصعب ذاك، كان هناك الفكر والفن والثقافة. المكتبة والمسرح والتشكيل والسينما والقصة والرواية والشعر والغناء والندوات والمهرجانات والأمسيات الثقافية.

المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية والأندية الثقافية والمراكز الثقافية والمكتبات والمقاهي وصالات العروض التشكيلية والصالونات الأدبية. جميعها كانت موجودة تسير مع عيش الناس. وكان حضورها البهي يشكل زاداً يومياً للكاتب والفنان والمثقف وجمهور التلقي، وكذلك يرسم خلفية حاضرة لبقية أفراد الشعب.

الفكر والفن والأدب كانوا حاضرين في حياة الناس. انتبهوا لهم أو أخذتهم هموم الواقع بعيداً عنهم. مجرد حضورهم كان يشكل موسيقى خلفية دائرة لمشاهد الحياة اليومية. لكن، حين أظلم الواقع احتراباً وعنفاً ووحشية وقتلا وتشريدا، حينها انطفأ وهج الفكر والفن والأدب. وصار المجتمع يحيا وليس له سوى صوت الرصاص والمدفع وصور الدمار، والقتلى الأبرياء خلفية للحظة عيشه. لذا تحول طعم اللحظة ليغدو مراً، حتى ترك البعض بلده، وهرب لاجئاً لكي يحافظ على حياته.

إن القوى الناعمة؛ الفكر والثقافة والفنون، ربما كانت أكثر منْ ضُرِب خلال ما سُمي بالربيع العربي، بالنظر إلى طبيعتها الفكرية والإبداعية. بالرغم من فترة الدكتاتوريات العسكرية الكريهة، وبالرغم من بطشها البشع بجميع من يخالفها ويقف في دربها، فإن حال الفكر والثقافة والفنون، كان قادراً على أن يتكيف مع تلك الأنظمة الدكتاتورية ويفرض نفسه. لكن، اليوم ومع الدمار والخراب والتوحش والوحشية، ومع تبخر الدولة بمؤسساتها، انزوى ضياء الفكر، وبالكاد باتت تتحرك ذبالة شمعة الإبداع.

إن المفكر والكاتب والفنان، هو إنسان قبل أي شيء آخر، وبالتالي يهمه تأمين عيشه وأهل بيته، وحين يكون مهدداً بحياته وأفراد أسرته، فليس له سوى البحث عن مأوى يهرب إليه. لذا تشرد علماء وكتّاب وفنانون عرب في مختلف بقاع الأرض، ومع تشردهم فقد الوطن العربي فكراً وإبداعاً، وحلَّ شيء من الحسرة والوجع في قلوب المفكرين والكتّاب والفنانين، وسرعان ما غدا ذلك شأناً عربياً يحضر بين الأصدقاء في كل لقاء لهم. ولذا حين يلتقي أديب أديباً أو فنان فناناً، ويتبادلان العطاء الفكري والإبداعي، تأتي تلك الجملة الموجعة لتندس بينهما:

"لم يبق لنا سوى الأدب والفن متعة نستظل بظلها".

ربما يتصور البعض أن المفكر والأديب والفنان العربي الذي يعيش في إحدى الدول الأوروبية أو في أستراليا يعيش كأطيب ما يكون العيش. أبدا، أقول ذلك من واقع معرفة كبيرة بأصدقاء يعيشون موزعين في شتى بقاع الأرض.

"ليس من أرض كأرض وطني، وليس من عيش، لكن".

هو جور الزمان وهي اللحظة الأصعب التي فرضت على الفنان العربي النفي والغربة، وفرضت على الآخر أن يعيش ألمه. ولذا لم يبق لهما سوى الوصل عبر الفكرة والكلمة واللوحة.

هو الفكر والأدب دواء يعين على علل الحياة.

back to top