اعترافات

نشر في 14-02-2017
آخر تحديث 14-02-2017 | 00:00
 د. نجمة إدريس أحياناً يضعك كتابٌ ما على متكأ من راحة وبهجة خفية. يأخذك إلى فسحة لا انتظار فيها ولا ترقّب، وإنما أنت تنساب معه كما ينساب النهر متمهلاً. الأمر الذي تتمنى معه ألا تنتهي تلك الصفحات، أو أنها تتناسل من جديد كلما تقتَ إلى ذلك المتكأ من الدعة والبهجة الخفية.

الكتابة الجميلة – أعتقد - ليس بالضرورة أن تنقل لك معلومة، أو تأخذك إلى التشويق والترقب كحصان جامح، أو تنخر في مشاعرك حتى تدميك. فالميلودراما تبقى صنعة مبتذلة حتى لو قاربت أكثر القضايا إنسانية، كالحروب والخيانات والمآسي.

"اعترافات" ربيع جابر تأخذك إلى أصقاع في غاية الرهافة والشجن الأليف، رغم كونها رواية تتأسس خيوطها على الحرب الأهلية اللبنانية، وما أفرزته من نماذج بشرية مكلومة، ماتزال إلى الآن مسكونة بأشباح الذكريات وبصور شكّلت حياة ذهنية موازية، هي أشبه بالفانتازيا لشدة غرابتها ومأساويتها.

جاذبية "اعترافات" تكمن في ذلك السرد الأشبه بالمساجلة والفضفضة. ورغم أنه لا يقترب من الشعر، فإنك تتحسس شعريته في بساطته، وفي التحامه بالتفاصيل اليومية الحميمة، وفي امتياحه من التذكّر والحلم والتخيّل والتجريد، ثم في لغته الدانية الأشبه بالهمس، والتي رغم اقترابها من أكثر المشاهد قسوة وتوحشاً، فإنها تظل محافظة على ألفتها وهمسها وحسّها العالي بالأشياء والوجوه.

ربما تبقى الحكاية، وهي حكاية الطفل الذي تمت تصفية أسرته كلها في كمين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ثم نجاته بمفرده بأعجوبة، ليتم تبنّيه وتنشئته من قبل قاتل أسرته الحقيقية تعويضاً عن ابن مخطوف ومقتول سلفاً، ثم ما شاب حياته لاحقاً من تأزمات في الذاكرة والحياة الذهنية والنفسية، هذه الحكاية تبدو لي مجرد حاشية، لأن مثيلاتها كثيرة في أحداث الحرب الأهلية اللبنانية. لذلك أرى أن "الاعترافات" وسياقاتها هي ما يشكل المدماك الحقيقي للرواية ويميزها. اعترافات (الصبي) الذي أصبح رجلاً يشارف على الأربعين من عمره، ولكنه مايزال ذلك الطفل المرتبك أمام الكم المهول من فوضى الحقائق والخيالات والذكريات التي تتراكم طبقات إثر طبقات في وعيه ولاوعيه.

الرواية تأخذ بيدك لتغوص في سيكولوجية التذكّر والحلم وما يوازيهما من تعاملات معقدة مع ماضي الذهن البشري وتحولاته، ثم علاقة ذلك بالسلوك والكلام ولغة الاسترجاع. هناك أيضاً وقفة تأملية في الظروف الحياتية، وكيف تصوغ هذه الظروف الشخصية الإنسانية وتعجنها بالمتناقضات، وكلما زادت الظروف مأساوية كظروف الحرب أفرزت لنا نماذج غريبة من البشر، أكثرها وضوحاً في الرواية نموذج الشخصية الانفصامية المشطورة إلى وجهين وصورتين وإنسانين يعيشان في جلباب واحد. وهذا لا ينطبق فقط على (مارون) الذي يعاني كونه شخصين في واحد منذ اكتشف قصته الحقيقية، وإنما ينطبق أيضاً على الأب (فيليكس) الذي كان مزيجاً غريباً من التوحّش والإنسانية، ومن القسوة والرأفة والقوة والضعف، في عموم تحركاته في فضاءات القنص والقتل أو فسحة بيته حيث زوجته المريضة وأبناؤه.

ورغم تناثر شذرات من مشاهد معتمة تدور حول آثام الحرب وعبثيتها وفوضاها، وخلّوها من الهدف والمنطق، فإن الكاتب استطاع أن يأخذ بيدنا خارج هذا الإطار، حين جعل يوميات الحرب هي يوميات الحياة وروتينها، وإيقاعها الرتيب، واكتنازها بالتافه والجلَل، وانسرابها قدماً بلا مبالاة! لكأن الحياة قد ألِفتْ الحرب، أو أن الحرب قد تآلفت وحياة (المعتّرين) فتناغما معاً!

وبعيداً عن الحكاية في "اعترافات"، يظل نمط الكتابة القائمة على البوح وطرح أحمال النفس البشرية بتنويعاتها المختلفة هو الأكثر جذباً، حتى لتجد نفسك في الكثير من الوقفات تسرح بعيداً متأملاً في ذاتك، أو ملاحقاً سوانح ذكرياتك الدفينة كما يفعل بطل الرواية، لكأنك تعيش حالة من التناصّ أو التوحّد. وإن لم يكن للكتابة الجميلة غير هذا الأثر، فكفاها.

back to top