أما زال للحب تأثيره الجنوني؟

نشر في 14-02-2017
آخر تحديث 14-02-2017 | 00:03
No Image Caption
يعشق عصرنا العواطف الإيجابية ويكره المعاناة. لذلك طورنا مواقع تعارف ترتكز على محور رغبتنا: «الاستهلاك» من دون التعرّض لخضات عاطفية... ولكن رغم الحماية التي يُفترض بالشاشة أن تؤمنها، يواصل الحب انتهاكه قوانين المنطق.
ظننا أننا أقوى من الحب وأن بإمكاننا السيطرة عليه وترويضه. لكن قدرتنا الراهنة على تحديد موقع رغبتنا جغرافياً، واستهلاكه من دون انتظار، ورميه بعد الانتهاء منه لا تعني أننا صرنا نملك الكلمة الأخيرة.

على الشبكات الاجتماعية ومواقع التعارف الأكثر عملانية، يسعى عدد من أتباع هذه الموجة إلى فيض من الحب الغامر والمندفع الذي ينافي كل منطق. علاوة على ذلك تدور ألبومات الفنانين بغالبيتها حول الحب. مثلاً، تطغى أغنية Grand Huit المليئة بالعاطفة الملتهبة على الألبوم الأخير للمغنية ميسيات التي تلتزم بخط العاشقات الأكثر شهرة في عالم الأغنية الفرنسية. كذلك خصصت فرانسواز هاردي كتاباً لمعضلة المشاعر هذه تصف فيه عشقها شخصاً لا يمكنها الوصول إليه. وتذكر الكاتبة أريان شارتون في هذا السياق: «لا تقتصر النزعة الرومانسية، التي بجّلت الحب المجنون، على العصر الذي يُدعى رومانسياً، بل سبقته وستستمر بعده بوقت طويل. يشكّل هذا العطش لكل ما هو مطلق جزءاً من الطبيعة البشرية. ولم يبلغ مجتمعنا الاستهلاكي الذي يسعى وراء الراحة نهاية هذا الجنون».

نعرف الآخر ونجهل أنفسنا

يقول رامي متحدثاً عن سارة، صديقته منذ بضعة أشهر: «لم ألتقِها، إلا أنني أعرفها». يشكّل هذا عموماً أول عارض. الحب «المجنون» اكتشاف يتجلى فجأة. حتى لو لم يكن الآخر شخصاً مناسباً لنا، وحتى لو شكّل نقيض ما يُعتبر «جيداً» بالنسبة إلينا، «نتعرف» إليه. في المقابل، لا نعود نعرف أنفسنا. نعجز عن المقاومة ونخسر فجأة إرادتنا. يتابع رامي: «تسارعت الأحداث فجأة. منذ أول محادثة صارت العلاقة وطيدة، ووثيقة الأواصر، وخارجة عن السيطرة». لكن سارة لم تبلغ بعد العشرين، في حين أن لرامي (54 سنة) ثلاثة أولاد الأصغر بينهم في مثل سنها. يقول: «عندما تكون كائناً طبيعياً، ومتمدناً، وذكياً، تعرف أن هذه العلاقة مستحيلة ولن تنجح. رغم ذلك، تمضي فيها قدماً. تعجز عن المقاومة. إنه الجنون بحد ذاته».

لما كان هذا الحب يتخطى المنطق، والعقل، والسيطرة، فيتحدث كل مَن كانوا محوره مستخدمين مجموعة متنوعة من المفردات عن «الأوجه الخارقة للطبيعة»: «السحر»، «المعجزات»، «التملك»، «الافتتان»... ما من كلمات تصف هذا الإحساس بالهرب من الذات اللذيذ والمقيت في آن، وبالقدرة على فعل الخير كما الشر، وبالتفلت من الضوابط كافة. عندما دخل آدم حياة أمل، كانت امرأة مطلقة في الخامسة والثلاثين من عمرها لها ولدان (3 سنوات و7 سنوات). لم تتمكن مطلقاً من توقع الإعصار القادم. تتذكر: «منذ لقائنا الأول، شعرتُ بأمر يؤلمني جسدياً. أحسست بأن شيئاً ما في داخلي يذوب. كنت مستعدة للإقدام على أي عمل لأجل آدم».

إدمان الجسم والقلب، والهوس، والتحوّل الكلي... فضلاً عن النزوة، والتقهقر، والهلوسة، والارتياب... تنطبق المفردات النفسية كافة على هذا الحب. تعجز هدى، التي تبلغ راهناً الخامسة والأربعين، عن تصديق أنها نامت على السلالم أمام منزل كريم (المفترض) الذي «عشقته»، والذي كان يشغلها بألغازه واختفائه المفاجئ. تتذكر بعد هذه الحادثة بنحو ثلاث سنوات: «كان كريم إنساناً غامضاً، متوحشاً، وغريب الأطوار. شعرت بحالة حب أسطورية معه. اعتاد الاعتماد على العالم الافتراضي. وكلما أخّر لقاءنا، أجج الرغبة في داخلي. أقلق ذلك صديقاتي، بخلافي. فقد نجح هذا الغريب المسيطر في امتلاكي. لم أشعر يوماً بالسعادة التي أحسست بها معه. تمكّن هذا الرجل، الذي ما كنت أعرفه مطلقاً (كنت أجهل اسمه الحقيقي، أو عنوان منزل، أو مكان عمله...)، من أن يولّد في داخلي إدماناً ظلّ يغذيه طوال سنة: كان كله ملكي عندما كان معي، إلا أنه ظلّ أيضاً غامضاً وبعيد المنال. لم أعرف مطلقاً متى يقرر إقفال الباب ومتى أراه مجدداً. نتيجة لذلك، جننت. وعندما رحل بلا عودة، عشت مرحلة عصيبة جداً. لا أعتقد أن أي بطل قصة قد يكون أكثر سوءاً».

نعم، يؤدي الحب إلى الجنون. لا يُعتبر هذا الوصف قوياً حتى في القرن الحادي والعشرين وإن كان عبر الإنترنت. وهذا ما يؤكده الخبراء المتخصصون في آلياتنا الحميمة (علماء النفس والأحياء...). تشير عالمة النفس كاثرين فانيه: «يخاف عصرنا الحب. نتوخى الحذر لأننا ندرك جيداً أن الجنون يتربّص بنا. لكن المواعدة السريعة والإنترنت لا يبدلان هذا الواقع. ويؤكد ذلك مرضى كثيرون، خصوصاً النساء اللواتي يُرجّح أن يقعن في الحب من دون أي ضوابط: «عاشقة، أنا؟ كلا على الإطلاق». تنكب هذه المرأة بعد ذلك على مواقع التعارف حيث تلتقي «رجالاً كثراً» ثم تعود بعد وقت قليل «عاشقةً متيمة». صرنا اليوم محاطين بكثير من الشاشات، فعلياً كما مجازياً، ذلك بهدف حماية أنفسنا، إلا أن الخطر يبقى قائماً».

اجتياح كامل

ولكن هل من خطر أجمل من الحب للسعي خلفه؟ تضيف كاترين فانيه: «لا شك في أن جنون الحب يشكّل تجربة مذهلة تدفعنا إلى خفض دفاعاتنا، وقلب حياتنا رأساً على عقب، والعيش لحظات جميلة... وإذا تفاديناه، نتفادى الحياة بحد ذاتها». إلا أن الأهم أن يبقى الحب ضمن إطار الجنون الرقيق أو «العصاب البسيط»، حسبما يوضح عالم النفس المتخصص في الإدمان ميشال رينو. يضيف: «نتحدث عن الجنون لأننا نتخلى عن المنطق. على الصعيد البيولوجي، تتبدل حالة الدماغ وتعمل أنظمتنا بنشاط مضاعف: نلاحظ في الدماغ فرط نشاط في مناطق البحث عن المتعة وتراجعاً في مناطق التحليل الناقد... يكون الاجتياح كاملاً. يواجه العاشق حالة تغشية كاملة، مركزاً على أمر واحد. كذلك تنشط في هذه الحالة آليات الإدمان: متعةٌ (أو إنسان) واحدة تتملك الإنسان، وتصبح بالغة الأهمية في الحفاظ على استقراره الداخلي، وتُعتبر مسؤولة عن سعادته أو تعاسته. وهكذا يتخطى الحب المنطق. نمر كلنا بهذه الحالة في مرحلة ما. ومن دونها لا يترك أي منا أهله في سن المراهقة ولا يهجر أي شريك شريكه... هنا يأتي دور الجنون: يدفعنا إلى القيام بأعمال تظل مستحيلة من دونه».

إنه سحر الحب الناشئ المبرمَج في جيناتنا بغية ضمان استمرار جنسنا، حسبما يبرهن خبراء علم الأعصاب الحيوي. نحتاج جميعنا إلى لمسة من الجنون كي نتغلّب على خوفنا من الآخر ونتعلّق بشكل أعمى بإنسان، على الأقل إلى أن ننجب معاً ذرية وتصبح هذه الأخيرة قادرةً على المضي قدماً بمفردها، أي نحو ثلاث سنوات، وفق تقديرات العلماء. فقلما يتخطى الحب هذه الفترة، ويدوم عموماً أقل من ذلك، مسبباً خيبة أمل كبيرة لمدمنيه.

يتابع ميشال رينو موضحاً: «يماثل نموذج هذا الحب بالتأكيد حب الرضيع لوالدته: تبادل جسدي لا حدود له واعتماد ورضا مطلقان. نبحث على الأرجح عن هذه الحالة الأساسية ونعثر عليها في الحب المجنون». إذاً، يعادل هذا الحب رابطنا الأول الأكثر حيوية: أن نكون اثنين، إلا أننا نشكّل واحداً. لكن هذا الرهان خطر لأن علماء النفس يحذروننا من هذا الاندماج الكامل... توضح كاثرين فانيه: «عندما ينتمي إليك الآخر وأنت تنتمي إليه، قد يتخذ الحب منحى مميتاً، كاشفاً عن كره عميق (مضايقة، تملك، غيرة...). وهكذا يكون هذا الحب جارفاً جداً. وإن مضينا فيه قدماً حتى النهاية، يصبح مميتاً».

«يسبب الحب جنوناً فعلياً»

صحيح أننا نعيش في علاقاتنا أحياناً جنوناً نرجوه (أحبك قليلاً جداً...)، إلا أن عالم النفس المتخصص في الإدمان ميشال رينو يؤكد أن ثمة حباً جنونياً نخشاه لأنه قد يدفع إلى الجريمة أو الانتحار.

هل من حب مرضي؟

نعم، يولّد الحب مشاعر قوية جداً تساهم في الكشف عن نقاط ضعف عدة وعيوب في الشخصية. وهكذا يصبح الحب محفّزاً للأمراض النفسية. تتحوّل مشاعر الحب إلى «هذيان مزمن»: هذيان الخيانة، هذيان الغيرة (خصوصاً الرجال)، هذيان الفوز بحب شخص لا يكن لنا في الواقع أي مشاعر، وهوس العشق (خصوصاً النساء).

ما الأعراض التي يجب التنبه إليها؟

يشكّل التكرار أول عارض. يعجز البعض عن بناء علاقة دائمة. يركضون باستمرار وراء تلك الحالة الاستثنائية السامية من دون أن يفهموا الحب بمعناه العميق: الحب المطلق. فينتقلون من عشق بائس ومدمّر إلى عشق آخر بائس ومدمّر. لا يتبدّل في هذا العشق سوى اسم الحبيب. يمكننا تشبيه البحث الدائم عن هذه المشاعر بالنشوة التي يختبرها المدمن. كذلك علينا الحذر من استخدام الحب كمسكن يشفينا لبرهة من آلامنا. عندما يبدأ هذا الشعور الجميل بالتراجع، يعاود الألم الظهور. وهكذا تترسخ في ذهن الإنسان فكرة ألا مفر من البؤس في حياته.

هل الجميع عرضة لأمراض نفسية مماثلة؟

كلا، لا يشكّل الحب سوى وسيلة تكشف هذه الأمراض. ولكن لا يصعب علينا تقييم مخاطر مماثلة قبل حالة الحب. بعد محاولة انتحار مثلاً، نلاحظ دوماً عناصر أشارت مسبقاً إلى المنحى الذي يسلكه المريض. ولكن مَن يتنبه لها؟ لا حدود لقدرتنا على المقاومة والانفجار. ولا يُعتبر علم النفس علماً دقيقاً.

لا يدوم الافتتان

تعتمد العلاقة على كيفية تفاعلنا مع الافتتان العاطفي. يخبو الأخير عموماً من تلقاء ذاته (أحياناً قبل السنوات الثلاث الشهيرة). وهكذا تنتهي القصة بالنسبة إلى كثيرين، ويحين موعد الانتقال إلى حب آخر. لكن عالمة النفس تؤكد «أننا نستطيع تبديله. إلا أن هذه العملية تتطلب الجهد والابتكار اليومي. وتشكّل القدرة على حب الآخر رغم اختلافاته جزءاً من الإشارات إلى نهاية التحليل».

يدوم الحب المجنون زمناً يسيراً، باستثناء في حالة تلك الشخصيات الاستثنائية التي يدفعها الحب إلى تخطي الحواجز كافة. ولكن في حالة مماثلة، يشكّل الحب عامل تحفيز لأن ما من إنسان يصبح مجنوناً أكثر مما هو عليه في الواقع بطريقة خفية غير مرئية. ولا شك في أن هذا أمر مقلق: كيف لنا أن نعرف مدى هشاشتنا قبل الغوص فيه؟ تشدّد كاثرين فانيه مبتسمة: «ما من وسيلة تشخيص لتقييم المخاطر، وما من اختبار يضمن لنا أننا نستطيع خوض هذه التجربة من دون أي مخاطر. لكن ذلك كله لا يشكّل سبباً يمنعنا من اختباره».

على الشبكات الاجتماعية يسعى مستخدمون إلى فيض من الحب ينافي كل منطق

نحتاج إلى لمسة من الجنون كي نتغلّب على خوفنا من الآخر
back to top