حبر و ورق

نشر في 04-02-2017
آخر تحديث 04-02-2017 | 00:02
No Image Caption
تشرين

تتعدّد المذاهب والمعتقدات، ولعل أكثر منها تعدداً، المشارب والمؤثرات والأذواق... فلكل إنسان في هذه الدنيا وفي نظرته إليها، وإلى ما فيها، مذهبه ورؤيته الخاصة. قد يكون هذا الأمر كما البصمة، من المستحيل أن تجد شخصين لهما النظرة ذاتها في كل شيء. حتى أصحاب المذهب الواحد، تجدهم في أحيان كثيرة ومرات عديدة يختلفون، ففي بعض التفاصيل، أحياناً، يكمن الاختلاف. ليتنا نتقبل تلك الحقيقة، وهي أننا مختلفون ولا يمكن أن نكون إلا كذلك، وترى الجميع يتحدثون عن تلك الحقيقة ويقرّون بها، إلا أن هناك فرقاً كبيراً بين أن تعرف وأن تقتنع وتسلم بتلك الحقيقة.

المذاهب ليست حكراً على الدين والفلسفة والسياسة فحسب... فللحب أيضاً مذاهبه. وكما أن للمذاهب الدينية والسياسية وغيرها رجالها، فلمذاهب الحب كذلك رجالها. شرب من مشارب شتّى وتقلّب في مذاهب عدة، مع أن مشوار حياته ما زال في أوسطه - فهو لم يطأ عتبة الأربعين - إلا أنه جرّب كثيراً، في كل شيء، إلا الحب. ففي الحب لم يعرف غير مذهب واحد، مذهب وجده في ذاته، لم يخضع للتطور أو التغير، كما وجده أبقاه.

كان كمن جاء من الماضي، غريباً وسط غرباء. لم يكن، في شبابه كغيره من الشبان، فهو لم يتمكن يوماً من الفوز بقلب فتاة أرادها له. أساليب ووسائل الفوز بأي فتاة كانت سهلة وبمتناول يده، إلا أن مذهبه كان يحرمها، وما زالت تلك الأساليب محرمة لديه ولم ينجح في انتزاع فتوى بتحليلها، وبجواز استخدامها.

أشياء كثيرة كانت تعيق تحركه، باتجاه الفتيات، خشية الصد والفشل، فكبرياؤه منعته من قبول فكرة أن تصده إحداهن، لذلك، وفي معظم الأحيان، آثر السلامة والبعد، أو بالأحرى التزم الجبن درعاً يحمي به كبرياءه. وكما يقال، لا يمكنك أن تحكم على الشيء قبل أن تجربه، ولا يمكنك أن تحكم على طعام قبل أن تتذوقه، ولكنه كان يفعل العكس، فيصدر أحكاماً مسبقة مبنية على هواجس ومخاوف، لم يستطع التغلب عليها.

تركته تلك الهواجس والمخاوف، مكبّلاً بأغلال الأوهام والتوقعات واحتمالات الصد والفشل. تعرّض في أحيانٍ كثيرة للخيانة من جرأته، فترك سيادة الموقف لخجله، ما جعل الأمور تزداد تعقيداً، وتترك في نفسه آثاراً تراكمية، جعلت التغير أمراً شبه مستحيل.

تتغير الأذواق في كل شيء، فكم من طعام كنا نعافه في صغرنا، إذا به يصبح طعامنا المفضل، وكم من أغنية أحببناها في شبابنا إذا بنا نبحث عن غيرها إن هي مرت على مسامعنا... وهو كذلك، تغير طبعه وذوقه كثيراً، ولكنه ما زال يستمع إلى العندليب كما كان يفعل في شبابه، وما زال يفضل شعر الغزل العذري على الإباحي، ولا تزال المرأة المثالية في نظره، والتي يحلم ويتغزّل بها في بعض أشعاره هي هي، لم تتغيّر.

تعود به الذاكرة أحياناً إلى الوراء، فيتذكر أيام الدراسة، والأدبين العربـي والإنكليزي، وتلك النقاشات التي كانت تدور بين الطلبة أحياناً، وبينهم وبين مدرّسهم أحياناً أخرى. كل واحد كان ينتصر لمذهبه، وهو أيضاً. في تلك اللحظات، كانت السيادة له، بلا منازع، وزميلاته كن ينتظرن تدخله وطرح آرائه وأفكاره، وإن تأخر أو أحجم لجأن إلى استفزازه ولطالما نجحن بذلك. كان كفارس من فرسان القرن السادس عشر، أو كشاعر من شعراء الأندلس، ولكن للحظات، لأنه في الحقيقة، وعلى أرض الواقع، لم يكن ذلك لينفعه بشيء، فالقرن السادس عشر قد ولّى منذ قرون، والأندلس ذهبت ولم تعد.

أعوام عديدة مرت، شهد فيها أحداثاً كثيرة، على جميع الأصعدة، غيّرت فيه الكثير، ونقلته بشكل كبير، أحياناً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ازداد نضجاً وروية وخبرة في معظم شؤون الحياة، واستطاع أن يبني لنفسه عالماً ناجحاً على جميع الأصعدة، إلا صعيداً واحداً، ألا وهو الحب. بحث كثيراً عن حلول، وقرأ مئات الكتب، ولكنه لم يتغير، فكان ثمن ذلك التصلب والجمود هو الوحدة. استسلم في النهاية، واقتنع أن مفهومه للحب لن يتغير، وطريقة تعاطيه مع المحبوب كذلك لن تتغير، فلعلّ الناس جميعاً هم كذلك أيضاً، لا يملكون أن يغيروا مفهومهم للحب ونظرتهم إليه، فهذه الأشياء تولد مع الإنسان، وكما تولد تبقى.

بيروت، آذار، 2012

الهواء منعش، يأتي أحياناً بشيء من البرد، ولكنه برد الربيع، قد بدأ لتوه، معلناً نهاية فصل وبداية فصل جديد. يجلس ياسر إلى طاولة في أحد مقاهي وسط بيروت، أو سوليدير كما يحلو للبنانيين تسمية وسط مدينتهم التجاري. ذلك الوسط الذي شهد أعنف المعارك وأكثرها ضراوة إبان الحرب الأهلية. لم تبقِ تلك الحرب حجراً على حجر، ولم تخلف وراءها سوى القتل والدمار والخراب، وجراحاً كثيرة، بعضها طاب واندمل، وبعضها الآخر لا يزال ينزف.

عاد ذلك الوسط، لينبض بالحياة من جديد. فبعد مسيرة الإعمار التي قادها ذلك الرجل الاستثنائي، رفيق الحريري، عاد وسط بيروت كما كان وربما أفضل. كثر الحديث عن الفساد الذي رافق عملية الإعمار وإعادة إحياء ذلك الوسط من جديد، وعن تلك الديون التي تراكمت على اللبنانيين حكومة وشعباً. وكعادة اللبنانيين، بإبداع وتفنن وقدرة على اختلاق بؤر الخلاف وصنعه، اختلفوا في هذا الأمر، حتى بعد فوات الأوان، فعملية الإعمار تمت، والديون تراكمت، والإصلاح لم يعد ممكناً، والخلاف ما زال في الإمكان، فكيف يفوتهم؟

عجيب أمرهم اللبنانيون، منتشرون في معظم بلدان العالم، بعضهم في هجرة دائمة، وبعضهم في هجرة مؤقتة، وبعضهم الآخر نسوا كل شيء عن بلدهم الأم ما عدا اسمه. تتفاوت الإحصاءات في تحديد عدد المغتربين اللبنانيين، إلا أن المؤكد أن عددهم يزيد على عدد المقيمين فيه. وصل كثير منهم، في البلاد التي هاجروا إليها، أو وُلِدوا فيها بعد أن هاجر إليها آباؤهم، إلى مراكز حساسة ومرموقة. مؤثِّرون أينما حلوا، حضاريون، مثقفون، على درجة عالية من العلم والفهم، متسامحون، يمتلكون في الخارج ما لا يمتلكونه في لبنان. فترى لماذا يتغير اللبناني في الخارج إلى الأحسن، بينما في الداخل يتغير إلى الأسوأ؟ فهو الشخص نفسه، لكنه بشخصيتين، الجيدة ليحيا بها في الخارج، والسيئة ليحيا بها في ربوع الوطن. ذلك التغير يبدأ فور صعوده إلى الطائرة، متجهاً نحو الوطن، وكلما اقتربت الطائرة، ازداد اتجاهه نحو شخصيته الثانية، الحقيقية.

يأخذ نفساً من الأرجيلة (الشيشة) التي أمامه، فيلتقي دخان أرجيلته بدخان العشرات من الأراجيل المنتشرة حوله. يكاد أن يكون الوحيد الذي يجلس بمفرده، فمعظم الموجودين يحظون بالرفقة. في بدايات تردده على هذا المقهى، عرضت عليه بعض الرفقة. ولكن لاحقاً، توقف من عرض عن تكرار عرضه، بعد أن باءت محاولاتهم بالفشل، حتماً ظنوه شاذاً، أو أن وراءه سرّاً ما. منذ مدة، بدأت تتملكه رغبة في البقاء وحيداً، ربما لم يكن الوحيد في المكان، ولكنه كان الوحيد الذي لم يكن معه رفيق، وهذا ما كان يبتغيه.

عاد مكرهاً من فنزويلا. كم يتمنى لو أنه لم يعد، فالعمل هناك، كان كفيلاً بسد الفراغ وملئه. إن تدهور الأوضاع الأمنية هناك، وتعرض كثير من اللبنانيين والعرب عموماً للاختطاف، جعلا أبويه لا ينفكان يضغطان عليه حتى يعود، فلم يجد في النهاية إلا أن ينزل عند رغبتهما. صحيح أنه ترعرع في هذا البلد، وتحديداً في إحدى قرى البقاع الغربـي، وعاش فيها طفولته وصباه والفصل الأحلى من فصول الشباب، إلا أنه قد اعتاد العيش في تلك البلاد، واعتاد العمل والسفر والتجوال، وخوض غمار التجارة والأعمال. صعب على أي إنسان، أن يترك ما بناه أبوه، ثم أكمل هو بناءه من بعده، صعب أن يترك كل ذلك وراء ظهره ببساطة وسهولة، وكأن شيئاً لم يكن.

محبط، واليأس يتملّكه، ولا يرى من حوله إلا السواد وما يتولّد منه. لم يكن يدخّن من قبل، وكان يمارس الرياضة بشكل شبه يومي، وها هو مذ جاء، قد تخلى عن هذه العادة الحسنة، وغيرها من العادات، واستبدل بها أخرى سيئة. أراد أن يزاول عملاً ما، إلا أنه تلقى نصائح، ممن يريدون له الخير، أن لا يفعل، فما اعتاده في الخارج، مختلف كلياً عن الواقع هنا. إن وجود أبويه، وابنته من زواجه الأول، وبعض الأصدقاء، هوّن عليه الأمر قليلاً، وجعله يتحلى بشيء من الصبر، علّ الفرج يكون قريباً.

الجميع يلح عليه بالزواج مجدّداً، وخصوصاً والدته، كأي أم، لا يرضيها إلا أن ترى ابنها متزوجاً وله بنات وبنين. لكنه يئس من الزواج، أفلا يكفيه تجربتان فاشلتان؟ ألا يدل فشله في المرتين السابقتين، أنه سيفشل في الثالثة كذلك؟ اليأس يتملكه حقاً، فقد يئس من الحب ومن النساء، كما يئس الكفار من أصحاب القبور.

حدّثته نفسه، وهو يرتشف رشفة من فنجان قهوة بين يديه، أنه لو حدث، وألقت الأقدار في طريقه امرأة استطاعت أن تجد الطريق إلى قلبه، فحينها سيفكّر في الزواج من جديد. أما أن يبحث عن زوجة، كما فعل في المرتين السابقتين، فذلك لن يحدث أبداً.

نظر إلى ساعته، فإذا بها تشير إلى العاشرة. السهر، في عرف من يحبون ويعشقون السهر، قد بدأ لتوه. اعتاد أن يبقى إلى وقت متأخر من الليل، إلا أنه الليلة، ومنذ هنيهة، بدأ يشعر بشيء من الغثيان، ولأنه سيقود سيارته لمدة تزيد على الساعة، فقد آثر الانصراف باكراً، طلب الحساب من النادل المتكفل بخدمته، وما هي إلا دقائق حتى كان قد غادر المكان، متجهاً نحو البقاع.

اختبار الندم

الندم؟ ربما هو اعتذار متأخر عن أفعال كنّا نظنّ أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير فيها، كأن أحيط خصرك بذراعي في تقاطع شارع الفردوس مع شارع المتنبي، عصر ذلك اليوم من تشرين الأول، بذريعة أن المطر يستدعي حميمية مشابهة لما يحدث في الأفلام.

أخبرتني في الطريق بأنك جائعة أولاً، ونباتيّة ثانياً وتعشقين البطاطا بالمايونيز ثالثاً، فكان علي أن أفتّش عن مكان يحقق رغبتك هذه. في مطعم «بيكاسو» كانت الطاولات والكراسي كلّها باللون الأحمر. ذريعة كبرى للغوص في اشتقاقات هذا اللون لجهة الشهوة، وتفكيك غموض العلاقة بيننا بمراودات حسيّة ملتبسة، تتخللها إشارات خاطفة عن الدماء التي خلّفتها الحرب بالأحمر أيضاً. ستؤجلين زيارتك الثانية لدمشق، بسبب غزارة الأمطار في الجنوب. في الأساس، لم أعلّق آمالاً كبيرة على هذه الزيارة، ولم أفكّر جدياً في خصوصيّة ما، ستجمع بيننا مجدّداً. ربما كان الضجر أحد أسبابي في تطريز عباءة العزلة والتدثّر بها كلّ هذا الوقت. لكنّني عند زيارتكِ المباغتة، بعد نحو أسبوعين على غيابك، اعتبرتُ الأمر فألاً حسناً، أو وقتاً مستقطعاً، يكسر سأم أيّامي المتشابهة. كنت أخبرتك عرضاً، بأنّ هاتفك ذلك الصباح أنعشني كثيراً، وبأنّك تشبهين مُزنةً مفاجئة، بلّلت جفاف روحي. دردشة ليليّة متأخّرة على موقع الفايسبوك، أطاحت توقعاتي بالخسران. كأنّ الكتابة الافتراضيّة تمنحنا جرعة من الشجاعة في الخوض بما لا يمكن أن نقوله مباشرة، كما أن البلاغة المراوغة بعبارة ملغّزة أو بإشارة قابلة للتأويل، أو ببيت شعر مستعار من إحدى المدوّنات الرائجة، ستحطّم حواجز الرصانة تدريجاً، بانزلاقات لغويّة، تبدو للوهلة الأولى غير مقصودة، رغم أنّك كنت تنصبين فخاخك الطائشة أيضاً، ولكن ليس بالقوة التي كنت أقتحم بها أسوارك المنيعة، وأحاول بها التسلّل إلى مناطق خطرة، كنت حذرة في الخوض في مياهها الراكدة، تلك التي تقع خارج باب الحشمة.

أو على نحوٍ أكثر دقّة، كنت تشعلين الوقود بعود ثقابٍ غير مرئيّ، ثمّ تطفئين النار بعبارة مضادّة لا تخصّ الحطب الذي جمعناه معاً، من غابة الغواية المجاورة، كنوع من الهروب، أو عدم إعلان الاستسلام.

حدث تعارفنا الأوّل، باتصال هاتفي منك، قبل خمس سنوات تماماً. كنت مرتبكة إلى حدِّ ما. أخبرتني بأنّ هناك ما يخصّني في حياتك وأنك ستوضحين الصورة حين نلتقي. لم أهتمّ بالأمر كثيراً، أو أنّني نسيته تماماً. خمس سنوات؟ إنّها عملياً تساوي سنوات الجحيم التي لم تنتهِ بعد. في تلك الفترة العاصفة، هناك من هزّ أغصان الشجرة، فتناثرت الثمار من حولها، ثم أتى آخرون وسحقوا بأحذيتهم الثقيلة تلك الثمار، ثم أحرقوا الشجرة.

ما جرى لاحقاً أطاح خططي تماماً.

كنتُ قد أجبت صحافية، في حوار على الهاتف، بأنَّ روايتي المقبلة ستكون عن العشق. قلتها بكامل طمأنينتي، مثل لاعب كرة مضرب أنهى تمارين الإحماء، ولم يبقَ أمامه إلاَّ أن يهرول إلى الملعب، محتفظاً بخططه السريّة في كيفية تسديد الكرة إلى أرض الخصم. حرائق الحرب قذفت أفكاري بعيداً، ولم يعد وارداً أن أكتب عن «غراميّات مرحة»، وسط الجحيم اليومي، وأخبار الموتى، وفواتير الكراهية التي كان علينا أن ندفعها للبرابرة كلّ يوم.

كان ينبغي أن أجيبك عن سؤال الكراهية أولاً، لا عن سؤال الندم. الكراهية التي كانت مغلَّفة بشوكولا فاسدة، وبأحقاد دفينة بطعم الحنظل، وخناجر مسمومة في الظهر، لحظة العناق. الكراهية التي خلعت بزّة الغفران عند أول منعطف للثأر لتتّخذ هيئة السيف المسلول.

كانت الحركة الأولى في لعبة الشطرنج الوهميّة بيننا، بأن دفعتُ حصاني فجأة نحو الرقعة التي تخصّك بعبارة مباغتة، من خارج أسوار الحذر: «رائحتك تقتحم عزلتي». لم تكن رصانة الدردشات الليليّة السابقة تحتمل مثل هذا التحوّل المفاجئ. كنت أختبر ارتباكك أمام عبارة حسيّة من هذا النوع، كما ضجرت من الطواف في جنّة الروحانيّات التي كنت تتخندقينَ خلفها لحماية نفسك من الانزلاق إلى منطقتي البلاغيّة المكشوفة.

كنتُ قد نصحتكِ إثر قراءة بعض نصوصك الشعريّة بتقشير اللغة من صمغ العبارات الجاهزة، تلك التي لا تضيف تفاحةً واحدة إلى بستان الشهوة، وتجريف أحاسيسك المبهمة ممّا يثقلها من فائض التفسير، وأضفتُ عبارة مرتجلة لا أعلم كيف قفزت أمامي فجأة مثل سنجاب «لا يمكننا دخول قسم الإسعاف من دون نقَّالة». إشارة التعجّب التي كتبتها، استدعت فكرة أخرى زيادةً في التوضيح «الكتابة هي اللحظة الفاصلة بين الحياة. والموت، أو النقّالة البيضاء التي تقودنا إلى غرفة الإنعاش، وتالياً استنشاق الأوكسجين بما يكفي للنجاة». نكتب إذاً، كي نحوّل ثاني أكسيد الكربون إلى أوكسجين، والفحم إلى ثمار بريّة بمذاق حرّيف، ولترويض آلام الجسد وخطاياه.

محاولة الالتفاف على عبارة «رائحتك تقتحم عزلتي» في عدم الردّ بعبارة حاسمة، وذلك بوضع أيقونة جاهزة من محتويات الموقع الأزرق تجعل العينين على هيئة قلب صغير، لم تصمد طويلاً، فبعد ثلاث ليالٍ على تلك الدردشة، أضاء المستطيل الأزرق بكلمة «أفتقدك» من دون مقدّمات. وبمراوغات مشتركة، أنهت أسمهان مشعل دردشتها بعبارة مباغتة «تصبح على حبّي».

عند هـذا الحدّ، أدركتُ أنها قد بدأت تغوص في الرمال المتحرّكة للمعصية، تاركةً تعاليم مولانا جلال الدين الرومي عند العتبة، وقد نسيتْ معجم التصوّف إلى الأبـد، المعجم الذي كان درع السلحفاة التي تخبّئ مشاعرها بين تجاويفه الصلبة. لعبة درع السلحفاة من جهتها، وأشواك القنفذ من جهتي، كانت مسلّية، وربما مثيرة. أن تمدّ عنقها قليلاً ثمّ تندحر إلى الخلف، فيما كانت أشواك قنفذي تزداد صلابةً. القنفذ والسلحفاة؟ أحاول أن أتذكّر حكاية تخصّهما معاً. ذاكرتي لا تسعفني، فلكلٍّ منهما حكايته. ما الذي جمعنا معاً في حكايةٍ واحدة؟ كان عليها كسلحفاة أن تجري سباقاً مع الأرنب وستفوز حتماً، وكان عليّ كقنفذ أن أتعارك مع أفعى وانتصر عليها. ما أعجبني في سيرة القنفذ أنّه كائن ليليّ لا ينام، لكنني، في المقابل، لست شوكيّاً إلى هذا الحّد، وإن استنفرتُ أشواكي، فذلك بقصد الدفاع عن النفس من طعنةٍ مباغتة.

كنت قد اخترتِ أن تكوني فراشة، في الألعاب اللغويّة التي كنّا نتبادلها في أوقات الضجر. شبّهتك بالغزالة، تعليقاً على صورتك التي أرسلتها لي، وأنت تفتحين ذراعيك فوق صخرة جبلية، ثمّ بين أطلال قلعة مهجورة، منذ ألف عام، بشعر مجعّد وطويل وأسود، كما لو أنّك تعانقين غيمة قريبة، لكنّك كنت مصرّة على الطيران بجناحي فراشة.

في تعليقٍ لاحق من دون سياق، كتبت لي «أيعجبك شَعري أم شِعري؟». تمهّلت قليلاً في الردّ، قبل أن أقع على إجابة مناسبة، فكتبت «شِعركِ يحتاج إلى جنون شَعركِ الغجري».

back to top