بيئة عربية طاردة

نشر في 16-01-2017
آخر تحديث 16-01-2017 | 00:08
 د. عبدالحميد الأنصاري لطالما كانت قضية هجرة الكفاءات العربية العلمية إلى الخارج: الولايات المتحدة ودول الغرب وغيرها، إحدى الظواهر المؤرقة للمجتمعات العربية، حكومات وشعوباً ومفكرين ومثقفين، فقد نظمت العشرات من المؤتمرات حول هذه الظاهرة: أسبابها وحلولها، وصولاً إلى جذب هذه العقول والكفاءات وإغرائها بالعودة إلى أوطانها، لكن دون جدوى.

تجمع الدراسات التي تناولت الظاهرة على أن المنطقة العربية أكبر منطقة طاردة لعلمائها، وباستثناء منطقة دول مجلس التعاون الخليجي لا يوجد بلد عربي إلا ويعاني هجرة كثير من عقوله العلمية، فيهاجر نحو 100 ألف كفاءة علمية عربية سنوياً إلى الخارج من 8 دول عربية: مصر، العراق، سورية، لبنان، الأردن، المغرب، تونس، الجزائر، وإذ لا توجد إحصاءات دقيقة فإنه يقدر، ومنذ السبعينيات، بأن العدد يتجاوز المليون مهاجر، يتركز معظمهم في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، وأن 50% من الطلاب الدارسين لا يعودون، وهذه التقديرات التقريبية تصدق على الأحوال السابقة على أحداث الربيع العربي وثوراته الشعبية التي عصفت ببلدان عربية عديدة، أما بعدها وإلى اليوم فإن الأعداد في تزايد، إضافة إلى بروز ظاهرة مأساوية أخرى هي ظاهرة التهجير الجماعي لملايين البشر من أوطانها، وبخاصة الأقليات الدينية، فرارا من الموت والخطف والسبي، فيما يقدر بـ30 مليون مهاجر، سواء باتجاه دول الخليج، حيث الأمان والاستقرار وجودة الحياة والخدمات، أو أوروبا وأميركا وتركيا وكندا وأستراليا، لتصبح البيئة العربية، عدا الخليج، أكبر منطقة مصدرة للمهاجرين واللاجئين إلى العالم، حيث يجدون ملاذاً آمناً من العنف والقمع والفوضى.

التنمية في العالم العربي، تعاني نزيفا مستمراً على عدة مستويات:

1- الخسارة المستمرة للكفاءات العلمية، وهي أعظم ثروات أي أمة، وهي خسارة مزدوجة: خسارة إنفاق على تعليم وابتعاث، يجني الآخرون ثماره، خسارة حرمان الأوطان من كفاءاتها العلمية.

2- خسارة الهجرات العربية الجماعية القسرية إلى الخارج، هروباً من ويلات الحروب والقتل والدمار، وهي تقدر بملايين المتعلمين والمتخصصين في الطب والهندسة وغيرهما، والحرفيين في مختلف المهن والصناعات.

3- خسارة الطاقات الشبابية التي التحقت بالتنظيمات الإرهابية وتحولت إلى قنابل مفجرة لنفسها وللآخرين، ومدمرة لأوطانها ومجتمعاتها، ومستنزفة لمواردها المادية والبشرية.

وإذا كان المهاجرون المكرهون على الرحيل، طلباً للأمن والأمان، لهم مسوغاتهم، فما أسباب هجرة الكفاءات من أوطانها المستقرة؟!

يمكن تلخيص الدراسات المعنية بالظاهرة في سببين رئيسين:

الأول: عوامل داخلية طاردة، منها: سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في معظم الدول العربية، وضعف الحريات بمفهومها الشامل: الفكرية والسياسية والأكاديمية والعلمية، والفساد الإداري وتفشي الروتين المعوق للبحث العلمي، وقلة حجم الإنفاق العلمي، وضعف المردود المادي، ونقص الإمكانات البحثية، وضعف الإفادة من الخبرات، وانعدام تكافؤ الفرص الوظيفية في ظل تفشي الشللية والمحسوبية، وإلحاق الكفاءات بأعمال غير مناسبة، وعجز الحكومات عن إيجاد المناخ المناسب للنشاط العلمي، وأخيرا: تزايد إحساس الكفاءة بالتهميش وعدم التقدير والاغتراب في وطنه، وأن الآخر الأجنبي والأقل كفاءة مفضلان عليه.

الثاني: عوامل خارجية جاذبة: تتمتع الدول الجاذبة للكفاءات العربية بالعديد من المزايا المغرية، مثل: الجودة النوعية للحياة، وبخاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية والإلكترونية، ووجود أنظمة ضمان اجتماعي راقية، إضافة إلى توافر البيئة العلمية التفاعلية الملائمة للنمو والتطور العلمي والمعرفي والمعينة على الإبداع والاكتشاف والاختراع، والأمن والأمان والاستقرار الوظيفي وتوافر الفرص المتكافئة للترقي العلمي وللتقدير المجتمعي، والرواتب والامتيازات المغرية، وجاذبية الوسط العلمي ورغبة الكثير من الطلاب العرب الاستقرار في الدول التي تعلموا فيها وتكيفوا مع أجواء الحريات فيها، ويصعب عليهم، خصوصا بعد أن تزوجوا منها، وأنجبوا فيها، العودة، لاعتبارات عديدة، منها أن الزوجة والأولاد قد لا يستطيعون التكيف في الوطن، وقد لا يستطيع الوفاء بمتطلبات معيشتهم في ظل انخفاض الرواتب في بلده، وقد لا يجد وظيفة تناسب تخصصه في مجالات دقيقة، مثل علوم الذرة والفضاء والصواريخ، وقد يرى أن مستقبل أولاده أضمن في المهجر.

* كاتب قطري

back to top