شارل بيبان: الفشل يسمح لنا بتقييم قوّتنا الجوهرية وشجاعتنا

• الفيلسوف الفرنسي يؤّكد أن إخفاقاتنا تعزّز مهاراتنا ومواهبنا

نشر في 29-12-2016
آخر تحديث 29-12-2016 | 00:00
يبحث الجميع عن النجاح لدرجة أنهم يهربون من الإخفاقات التي تساعدهم على التشكيك بخياراتهم وإيجاد وجهتهم الصحيحة. ولما كنا جميعاً نواجه تجارب فاشلة في حياتنا العاطفية والمهنية والعائلية، فيمكن أن يتحوّل ذلك الفشل إلى أفضل حليف لنا. وتذكروا أن تشارلز داروين نفسه أصبح عالِماً كبيراً بفضل إخفاقاته في الطب واللاهوت.
يشرح الفيلسوف شارل بيبان مفهوم «الفشل» من وجهة نظر فلسفية في المقابلة التالية...

لماذا تشغل نفسك بموضوع الفشل الذي يُعتبر من المحرمات في المجتمعات المعاصرة؟

لأنني لا أستطيع رؤية مظاهر المعاناة المنتشرة في المدارس والشركات بسبب مفهوم الفشل القاتل الذي يُرسّخ مشاعر الذنب لدى الناس. حان الوقت كي نكسر هذا النوع من المحرمات علماً أنه جزء أساسي من تعاليم الأنثروبولوجيا وعلم السلوك ويشكّل دليلاً مهماً في نظر أفضل الباحثين في العالم: بفضل إخفاقاتنا، لا نصبح فحسب أكثر تواضعاً وتزيد مكاسبنا على المستوى الإنساني، بل تتحسن مهاراتنا ومواهبنا أيضاً. أي أن نجاحاتنا هي وليدة الفشل الذي يحمل معنىً فلسفياً عميقاً.

لكن لا يتحدّث كبار الفلاسفة عن هذا الموضوع.

لا. أعتبر صمتهم صادماً. حين يتحدثون عن هذا الموضوع، يميلون إلى تجاوزه سريعاً. قال ديكارت إن الفشل يشتق من ضعف الإرادة واعتبر كانط أنه يرتبط بقلة التفكير العميق. لكنه تعريف مقتضب. لحسن الحظ، فتح مؤيدو الفلسفة الرواقية آفاقاً جديدة حين شرحوا أن المقاومة التي نواجهها عندما نفشل تعطينا دروساً عن الواقع. أوضح نيتشه بدوره أن الفشل يسمح بالتعرّف إلى الجوانب المميزة في الشخصية أكثر من النجاح.

تتكلم عن مفارقة بارزة: هل ننجح في الحياة لأننا نفشل؟

نعم. كلما اختبرنا الفشل في مرحلة مبكرة، سنحقق نجاحاً أكبر لأننا نستخلص عواقب الفشل بوتيرة أسرع. يعني الفشل المبكر استيعاب الواقع والشفاء من أوهام السلطة المطلقة والغطرسة التي ترافقها وطرح الأسئلة المناسبة منذ مرحلة مبكرة.

لكن لا يمكن إنكار مفهوم الفشل الحقيقي. ما معناه في نظرك؟

يعني هذا الشكل من الإخفاقات بلوغ عمر الأربعين أو الخمسين من دون اختبار الفشل لأن النجاح، حتى لو كان متوسطاً، لا يدعونا إلى تغيير وجهتنا أو التساؤل عن رغباتنا الحقيقية أو الانفتاح على جانب جديد من ذاتنا. يتكرر هذا الوضع يومياً مع الأشخاص الذين يحققون نجاحاً مهنياً كبيراً ويعيشون حياة عاطفية هادئة، ولكنهم يشعرون في النهاية بالتعاسة، حتى لو تراجعت وطأة تلك التعاسة بفضل نجاحهم الصغير.

فرصة وتحرر

هل يحصل كبار الخاسرين في المقابل على فرص إضافية؟

يرتفع عدد الأشخاص الذين وجدوا وجهتهم الصحيحة بفضل إخفاقاتهم. انفتح غاينسبورغ مثلاً على مجال الموسيقى بعد فشله في الرسم. وأصبح تشارلز داروين عالِماً كبيراً بفضل إخفاقاته في الطب واللاهوت. حين نغيّر وجهتنا، لا مفر من أن نقوم باكتشافات جديدة. كان فشلي كروائي كفيلاً بتوجيهي نحو الفلسفة. يمكن اعتبار جميع التشعبات الوجودية الناجمة عن الفشل مصدر غنى.

إنها مسيرة تحررية جداً...

نعم. أعشق فكرة سارتر الذي يظن أن عيش الحياة بمعناها الحقيقي يتطلب اختبار فشل متكرر كي لا نحبس نفسنا داخل دوامة النجاح عينها!

ما الشروط الضرورية لتحقيق ذلك؟

يجب ألا نعيش حالة إنكار وأن نخصص الوقت للتفكير. ويجب ألا نُحَمّل الآخرين مسؤولية الفشل الذي نعيشه ونأخذ الوقت الكافي كي نسمع الرغبات التي يعبّر عنها ذلك الفشل. قد يدعونا أحياناً إلى المثابرة كما حصل مع شارل ديغول الذي عبر في صحراء قاحلة قبل نجاحه أو المغنية باربرا التي عاشت بؤساً شديداً في بداياتها. يدعونا الفشل أحياناً إلى الاسترخاء لأن رغباتنا العميقة تختلف عن أفكارنا السطحية وعن أفكار أهالينا وبيئتنا الاجتماعية وعصرنا...

بماذا يختلف كلامك عن مبادئ الفلسفة الوضعية؟

يشرح لنا علم النفس العميق أن الفشل ليس خطيراً ويمكن أن ننهض دوماً إذا تمسّكنا بقوة الإرادة. شخصياً، أعارض هذه الفكرة: يسمح لنا الفشل في المقام الأول بالتوقف عن تحديد رغباتنا بشكلٍ أعمى. إنها لطمة موجعة ولكنها فرصة كي نحدد أعمق طموحاتنا. ربما لم تكن إرادتنا أمينة لرغباتنا! لا تدعونا الإيديولوجيا الطوعية إلى طرح الأسئلة اللازمة، وقد تُضلّلنا إرادتنا أحياناً.

يُقال إن قوة الإرادة تضمن النجاح...

لكن على أرض الواقع، قد نعيق مسارنا حين تتراكم رغباتنا. يمكن أن نلاحظ ذلك كل يوم. تتعلق إحدى مزايا الفشل بكسر القوقعة المرتبطة بالهوية الشخصية. لستُ مجرّد شخص له مهنة ووضع عائلي معيّن... يكون الفشل فرصة لتطوير جانب آخر من الذات. مثلاً، لو لم يفشل ميشال تورنييه كفيلسوف عالمي، ما كان ليصبح روائياً عظيماً.

مثابرة وجرأة وسعادة

تقول إن الفشل يختبر رغباتنا ويزيد تواضعنا ويسمح لنا بتغيير وجهتنا... ويعطينا أيضاً قوة المثابرة؟

نعم في معظم الأحيان. يسمح لنا الفشل بتقييم قوتنا الجوهرية وشجاعتنا وحيويتنا. من دون مصاعب، لن ندرك هذه الجوانب. يعجّ التاريخ بأمثلة عن شخصيات اكتشفت نفسها وسط أصعب المحن: تشرشل، جي. كي. رولينغز... إنها تجربة وجودية أو اختبار لمعنى الحقيقة أو مناسبة لاكتشاف قدرات النضال الإيجابي في داخلنا.

لكن يمكن أن ننهار بالكامل أيضاً.

نعم، قد ننهار إذا لم نختبر الفشل في مرحلة مبكرة من حياتنا. لما كنت أستاذ فلسفة في مدرسة ثانوية، ألاحظ هذه الظاهرة يومياً مع تلامذة مجتهدين أو متوسطين، فيطبّقون التعليمات بطريقة متعارف عليها ولكنهم ينهارون حين يفشلون. أشاهد الوضع نفسه في الشركات أو بعد الطلاق... تتعلق أولى مزايا الفشل بتهيئتنا للإخفاقات المستقبلية.

لكن منذ أيام المدرسة، نتعلّم أن تلك الإخفاقات تثبت أننا نكرة...

إنها مشكلة حقيقية. تستمر المعايير التقليدية في معظم المدارس، باستثناء بعض الأساتذة المختلفين. يُعتبر التلميذ الذي يرسب نكرة لأنه لم يجتهد بما يكفي ولم يحترم التعليمات التي تلقاها. باختصار، يشعر التلميذ بأنه مذنب. لكن كي ينجح الفرد في حياته، يجب أن يجد طريقه الفريد من نوعه. يمكن أن يتغير الوضع كله حين نقول للتلميذ إن «طريقته المميزة في الفشل تنذر بنجاحاته المستقبلية». صحيح أن بعض التجارب الفاشلة لا يمهّد لأي نتائج إيجابية، لكن يميل التلميذ في هذه الحالة إلى التمسك بدراسته. لاحظتُ هذا السلوك في مناسبات متكررة.

ينطبق المبدأ نفسه على عالم الشركات.

نعم. في هذا المجال، يُعتبر رجل الأعمال الذي يفشل نكرة مع أن هذا الشخص نفسه يُعتبر جريئاً في الولايات المتحدة مثلاً حيث يرحّب الناس بمحاولته ولن يجد لاحقاً صعوبة في إيجاد تمويل لمشروعه الجديد.

في منطقة «سيليكون فالي»، تُنظَّم مؤتمرات حول الفشل. هل يحصل ذلك لأن الفشل سر الجرأة؟

نعم. تعني الجرأة التحلي بالشجاعة لخوض تجارب فاشلة. في علاقات الحب والرياضة والفن والأعمال، لا وجود لمفهوم الجرأة من دون المجازفة بالفشل. إذا لم نأخذ مبادرات جريئة من باب الخوف، سنحرم نفسنا من جزء كبير من شخصيتنا. يتقبّل كبار المغامرين احتمال الفشل لذا يتمتعون بجاذبية واضحة! يكون الأشخاص المستعدون للفشل جذابين ويجب أن نعلّم هذه الميزة لأولادنا.

لماذا تربط بين الفشل والسعادة؟

النجاح بعد الفشل أكثر متعة بكثير. الحياة صعبة: سنخسر يوماً الأشخاص الذين نحبهم وسنواجه مشاكل ونكتشف أن هذه التجارب لا تمنع المرور بلحظات سعيدة. سيجعلنا الفشل نفهم طبيعة السعادة البشرية التي تستمر رغم مصاعب الحياة.

باختصار، هل جميع الفاشلين سعداء؟

طبعاً لا! لا تهدف الحياة إلى الفشل بل النجاح. تتطلب هذه المهمة شكلاً من الحكمة للسيطرة على النجاحات والإخفاقات معاً. يتعامل بعض الناس مع النجاح على أنه فشل ويعيدون ابتكار نفسهم بشكل متكرر. بغض النظر عن النتيجة التي نحققها، يجب أن نتساءل دوماً: «كيف سأتطور بعد ما حصل؟».

حين يتحول الإخفاق إلى نجاح

كاميل شامو (ممثلة): زاد تقديري لنجاحاتي

«بدأتُ مسيرتي في المسرح المعاصر. حين بلغتُ 21 عاماً، كنت أحمل أحلاماً كثيرة ولكن كان أول عرض لي فاشلاً وزادت ديوني. واجهتُ المشاكل أيضاً في حياتي العاطفية وعشتُ مرارة الخيانة من أقرب الناس إليّ. ولكن أنقذتني هذه التجارب كلها لأنني عشتُها في مرحلة مبكرة. اليوم، أستمتع بكل لحظة من نجاحي، سواء كان كبيراً أو بسيطاً، فأتأثر حين أشاهد الناس يصفقون لي أو يقدّرون أعمالي. ما زلتُ أفاجأ حين أحقق النجاح. في ما يخص الحب، أدرك اليوم أنني نجوتُ من تجارب فاشلة حين أفكر بعلاقاتي السابقة، وكي أستفيد من مزايا الفشل الأساسية يجب أن أقنع نفسي بجمال الحياة رغم أزماتها».

ماريون موتان (مصمّمة رقص): تعلّمتُ أن أتعرّف إلى نفسي

«تكشف لنا الخيبات عن وجهتنا الصحيحة وتفتح لنا آفاقاً جديدة وكأنها تدعونا إلى عدم الاستسلام أو تغيير خياراتنا أو تأجيل خططنا. قبل التعاون مع أهم مشاهير العالم، تعاملتُ مع أشخاصٍ لم أنجح معهم واحتجتُ إلى وقت طويل كي أفهم السبب: لم أكن أحب أسلوبهم الموسيقي. ينطبق الأمر نفسه على البرامج التلفزيونية. فشلتُ في تجارب الأداء لأنها لم تناسبني. كنت أفشل حين أقوم بخياراتي بناءً على أسباب خاطئة. حصلت أهم تجربة في حياتي عند مشاركتي في تجربة أداء للانضمام إلى جولة مادونا في عام 2008. كنت أبلغ 27 عاماً. انطلقتُ إلى تجربة الأداء في نيويورك وكنت أتمتع بثقة قوية في نفسي، فشعرتُ بأنني سأنجح مسبقاً لأنني كنت مطّلعة على جوانب العرض كافة. ولكني أخفقت. فعلاً، أصابني الغرور ولم أتقبّل ما حصل، ولكن سمح لي هذا الفشل بطرح أسئلة مفيدة عن دوافعي الحقيقية: هل أردتُ المشاركة فعلاً في تلك الجولة؟ في السنة اللاحقة، أسّستُ شركة الرقص الخاصة بي وحققتُ نجاحاً هائلاً وجدّدتُ تركيزي على المسائل التي أحبها. شاركتُ مجدداً في تجارب الأداء التي تخوّلني الانضمام إلى جولة مادونا اللاحقة ونجحتُ! النتيجة أننا نقوم باكتشافات جديدة عن نفسنا مع كل فشل!».

نجاحاتنا وليدة الفشل الذي يحمل معنى فلسفياً عميقاً

الفشل يجعلنا نفهم طبيعة السعادة البشرية التي تستمر رغم المصاعب

الفشل المبكر يعني استيعاب الواقع والشفاء من أوهام السلطة المطلقة والغطرسة
back to top