حبر وورق

نشر في 24-12-2016
آخر تحديث 24-12-2016 | 00:03
No Image Caption
قطب حنة

داخل ظلمة داكنة حالكة سمعت أنفاسها كحيوان يلهث تَعباً بعدما الجوع أكل بطانة معدته الخاوية. كرسيها كان يبعد عني مترين وبضع سنتيمترات كفيلة بحمايتها من ناري الموقدة بداخلي، فأنا أكرهها من أول يوم سمعت بقصتها.

فُتحَت الأضواء تدريجياً، بدأت أتخيّل ذلك التنين الموجود في داخلي، أردت منه النهوض والتهامها، لكن انعكاس الأنوار على وجهها البريء أخمد دخاني وأطفأ جمر قلبـي، فقد كانت فتاة صغيرة نحيلة، يصعب أن تكون ندًّا لي. المخرج صاح بأذني «أصبحنا على الهواء مباشرة». أخذت نفساً عميقاً. صوتي لم يخرج. حاولت أكثر من مرة، لكن ولا حرف أراد الخروج. صاح المخرج مرة أخرى «ست رنا، ست رنا، تكلّمي، قولي أي شيء». وأخيراً نطقتْ: «مساء الخير، برنامجكم أكثر من مجرّد نصف، عاد إليكم هذا الأسبوع بموضوع ناقشه قبل ذلك الكثير من الأدباء والإعلاميين والصحافيين والسياسيين، لذلك كان عبئاً علينا في الإعداد أن نجد موضوعاً جديداً نتكلم فيه، لكن الحالة المتمثّلة أمامنا مختلفة، فهي عن فتاة لقيطة عمرها الآن تسعة عشر عاماً وقد تخرّجت في أحد مراكز الأيتام إلى الشارع، حيث لم تجد مكاناً يأويها لتعيش بعدها مغامرة صعبة مع الحياة انتهت بها إلى الدعارة». توقّف لساني مرة أخرى عن الكلام. تمالكت أعصابي، نطقت بكلمات السحر التي تنقذ أي موقف كان، «بعد الفاصل نواصل، انتظروا تلك القصة الشيقة المختلفة».

نهضت من الكرسي الجلدي المريح، متوجهة إلى تلك الفتاة المختبئة بلباسها الفضفاض العتيق. قلت لها بتعجرف، «أنت تعلمين أنّ قصتك تقليدية جداً، ولا يمكن لها أن تكون مثل...». توقّف لساني عن إهانتها. التفتْ إلى المخرج المصدوم من أفعالي، نظرت إليه وإلى عيون من حوله في مكان جلوسهم في غرفة الإخراج الزجاجية العلوية، «قلت لكم إنني لا أريد الكلام في هذا الموضوع، لكنكم لا تقتنعون، والآن حاولوا أن تجدوا حلاً لمشكلتكم القادمة». خرجت من الأستوديو غير مكترثة بردّة فعل صاحب القناة الفضائية المحلية الناجحة، والذي ضغط عليّ كثيراً لقبول ذلك الموضوع... طبعاً ليس حباً باللقطاء بل عشقاً بكرسي النيابة الذي يسعى إليه. عندما وصلت باب المحطة الخارجي أدركت أنني فعلاً غير مهتمة بتساؤلات الصحف الصباحية ولا بالكلام الذي سيتهامس فيه أهل عمّان، ولا واضعة اعتباراً لمواقع التواصل الاجتماعي التي ستستنتج قصصاً خيالية عن حياتي بعد هذه الحلقة البائسة.

ضربت المقود بيدي عدة مرات. «أنا جبانة»، أنّبت نفسي بصوت مرتفع، فتلك مشاعري ولم أستطع كبحها. «هي حلقة مثل أخواتها السابقات، فلماذا لم أكملها؟»، حاولت جَلد روحي، فأنا أسعى دائماً إلى إخراج مشاعري الحقيقية أمام الناس. ربما هذا سر نجاحي، وأخشى أن يكون بداية سقوطي.

وصلت شقتي الواسعة التي ابتلعت أعواماً من التعب. ألقيت بثيابـي الثقيلة عن جسدي، احتفظت بحذائيّ، فالكعب العالي يريحني. لم أَصِحْ هذه المرة على نفسي بالمرآة، فذلك آخر همّي. تأملت شعري الأشقر الناعم الطويل بعدما فردته. فرحت أنه مصبوغ ومصفّف بعناية. فقد تأكدت أني جميلة رغم بلوغي السابعة والأربعين قبل أسابيع. لماذا كل ذلك؟ حقاً لا أعرف، ربما لأني امتلكت أحلاماً وطموحات. تساءلت روحي وأجابت. فتحت بعدها خزانة الماكياج والمجوهرات وأخرجت منها وعاءً نحاسياً مغطى اعتاد على استقبال خلطة الحنّة الخاصة بـي. يومها كانت بنّية اللون بفضل الكاكاو الخام المضاف إليها.

كانت الحنّة مخمّرة وجاهزة، لكن هذه المرة لا يستحق أي جلد أن يُصبغ بها، فقط جلدي من يستحق ذلك. بدأت برسم أشكال حيوانية سريالية على صدري وبطني. شعرت فجأة بأن المرآة حزينة على جسدي، لكنني لم أستجب لدموعها الوهمية. فتحت وعاء نحاسياً آخر، فردت الحنّة على أكياس من النايلون ونمت عليها، شعرت أن مسامات ظهري مسرورة بها. نعم فذلك أرحم من الماضي الذي أكل ظهري وأثقل كاهلي من أول يوم ولدت فيه، فبذلك اليوم اختفت أشعة الشمس المتسارعة إلى شباك بيتنا وتضاءل نور القمر. ليلتها ماتت أمي وحزن أبـي. قصة سمعنا مثلها الكثير. ما المختلف فيها؟ لا شيء صراحة، فأبـي تخلى عني لبيت عمّي الكبير (أبو البنات)، صاحب العمل المتواضع والبيت المتداعي أركانه، بعدما أعدَّ العدّة لسفره إلى مسقط، وذلك لبناء حياته المستقبلية بخراطة المفاتيح مع زوجته الجديدة، خصوصاً أن الحزن لا يسمن ولا يغني من جوع. زوجة عمّي لم تكن شريرة كما قصص الأطفال، بل كانت تخاف الله، وحنونة حتى حين تكون قاسية، فقد كان لصالحنا نحن البنات، فهي أعدتنا للزواج خير إعداد. لكن أنا لم أفهم ذلك سريعاً. فقد كنت احتاج إلى أمي. إلى صياحها ودمعاتها وقلقها عليّ. صفعة من أمي تساوي مليون حضن من امرأة غريبة. نعم كل النساء غريبات باستثناء أمي. كنت أبكي في زاوية الحمام عندما أعاقب، متصوّرة أن أمي لن تعاقبني كما يفعل بيت عمي. شعور طبيعي لفتاة فقدت أمها واشتاقت لأبيها. فقد كنت دائما أحلم أنها موجودة لأريها رسوماتي الطفولية المتقنة، ولأسمعها الأناشيد التي حفظتها بسهولة. بنات عمي كانوا رقيقات معي، متفهّمات لمشاعري، يفعلن المستحيل لأشعر أنني فرد من الأسرة باستثناء سعاد الأصغر مني. كانت تغار من اهتمام الجميع بـي، لتهمس يوماً بأذني أنها تتمنّى لو أنها مكاني. همست بأذنها مبتسمة أنني أتمنّى كل يوم لو أنها مكاني. طبعاً فعلت، فهي المفضّلة عند أبيها وأمها. فقد عوّضوها جيداً لتنسى وجودي. والحمد لله أنها فعلتها ونستني. المدلّلة، لقبها. فماذا تتوقعون أكثر من ذلك؟

مع مرور الوقت كبرنا جميعاً ونسينا تلك التفاهات، بنات عمي الثلاث الأكبر مني أصبحن في مستوى فكري آخر. مستوى تعيشه الفتيات المستعدات للزواج. اطبخي ونظِّفي جيداً ليراك زوجك المستقبلي ست بيت مثالية. إياك والسمنة ولا تنسي أن تضعي الكريمات ليتحسّسك زوجك المنتظر بشبق. أنا وسعاد كنّا نضحك عليهن، ونحن ننتظر اليوم الذي سندخل فيه ذلك المستوى الحالم. مع أنني كنت أحلم بحذر، فلا يمكن لفتاة مثلي أن تحلم بانطلاق، فأنا يتيمة الأم، أبوها تخلّى عنها ليتذكّرها فجأة عندما أصبح عمرها 15 عاماً.

كان قراراً صادماً للجميع. زوجة عمي حضنتني طويلاً، وطلبت مني أن لا أنساهم بالرسائل. البنات بكين حد الإغماء بعدما أدركن أني لن أراهن إلا مرة كل أعوام. أبـي قرّر، والصيف بعد انتهاء المدرسة هو وقت التنفيذ. الغريب أني كنت سعيدة. اعتقدت أن بسفري إليه سأعيش مثل الملكة المدلّلة حتى لو كانت زوجته حقيرة، كما يصفها الجميع. فلا يمكن لها أن تعادي ابنة زوجها. لا يمكن لها أن تكون مثل خالة بياض الثلج، فتلك رسوم متحركة مبالغ بها. ذلك للأسف ما توقعته وتماماً حدث عكسه. رغم البيت الواسع الجميل الذي يملكه أبـي إلا أنه كان بالنسبة إلي كالجحيم. كرهت غرفتي الواسعة التي جهّزها والدي لي. شعرت بالوحدة داخل حمامي المنفصل. انتظرت سعاد أن تطرق على بابه، طالبة مني الخروج سريعاً لأنها ما عادت تحتمل. كل همسة وحركة محسوبة، والضحك ممنوع. كان مثل السجن الكالح رغم زهو ألوانه. إخوتي عاملوني بحذر، بينما أمهم حرصت بلؤم شديد على إذلالي. الخادمة كانت ممنوعة من الدخول إلى غرفتي، فأنا فتاة وأعرف كيفية التنظيف والاهتمام بأغراضي، عكس إخوتي الأولاد.

مرّ الشهر الأول والثاني، والحال لم تتبدّل، بل ازدادت سوءاً. أبـي كان كثير السفر إلى الصين لإحضار المعدات الرخيصة ليبيعها بأغلى الأثمان، فقد توسّع عمله من خراطة المفاتيح إلى بيع كل ما يتعلق بالبناء، مما جعل زوجته تستغل ذلك أقبح استغلال. جعلتني الخادمة الإضافية للبيت، وإن أخطأت أنال أشدّ عقاب.

انتظرت عودة أبـي، لأخبره بما حدث. فالكدمات الزرقاء التي ملأت جسدي كانت دليلاً لا يمكن له أن يكذب. ويا ليتني لم أفتح فمي وأتحدث. فقد أُغمي على زوجته، واتهمتني بافتعال ذلك لأني أتمنّى طلاقهما. قالت إنها ضربتني لأنّي فعلت الحرام. سألته ما هو ذلك الحرام. لكن وجه أبـي كان أحمر يغلي. «خذلتيني يا رنا». قالها ودخل إلى غرفته. في الصباح تجاهلني. إخوتي ابتعدوا عني تماماً. أمهم تحسّنت صحتها. بينما أنا لا أفهم من الظالم والمظلوم.

بعد ساعات، جاءت إلى البيت امرأة عجوز يشع البياض من وجهها. طلبت رؤيتي على انفراد. أعطتني درساً عن العفة وقالت إنها تفهم تماماً أني تربيت جيداً في بيت عمي، وأني لم أرَ شباباً بحياتي لأحادثهم، لذلك اختلطت الأمور عليّ.

صراع الأقنعة

كانت رياح الشتاء الباردة تهبّ بقسوة لتحرّك أغصان الأشجار العارية وفروع أشجار الصنوبر الغامقة الخضرة، كنت أسير محاولاً تدفئة كفّي الباردتين رغم ارتدائي قفّازين من الجلد المبطّن بالفرو، لكن ساعات العمل الطويلة في المسلخ كانت تأتي على يديّ كلّ يوم، لحسن الحظ غداً عطلة نهاية الأسبوع، فكرت في سرّي وأنا أسير مخترقاً بوابة مخيم اللاجئين محاولاً رسم ابتسامة على وجهي المرهق. كنت أخبّئ وجهي وأنفي المحمر خلف لفاف من الصوف، وأسير محاولاً صدّ الريح بجسدي الممشوق والقوي. شعرت بالدفء المفاجئ ما إن دلفت إلى المبنى، لكأنّ الدم تدفّق إلى وجهي وأطرافي من جديد. حيّاني شخص من كوسوفو بتحية قصيرة وهمّ بالخروج. لم تكن علاقتي بالساكنين في المخيم وثيقة إلى حدّ كبير.

كنت قد تفقّدت صندوق بريدي صباح اليوم ولم يكن هنالك شيء، ولكنّني كنت أتفقّد الصندوق مرّتين كلّ يوم، وربّما كنت أتفقّده في أحلامي أيضاً، لست أدري فغالباً ما أنسى ما أحلم به. يقولون بأنّ لهفتنا تخفت بمرور الأيام، ولكنّ لهفة تسلّم ردّ إيجابي على قضيتي وقلقي حيال الرفض لم تخفت البتة رغم مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على وصولي إلى ألمانيا. اندفعت بحركة آليّة روتينيّة لتفحّص صندوق البريد، وفي داخلي تتصارع مشاعر الشوق لأن أجد رسالة ما مع مشاعر الخوف والقلق من أن يكون الردّ سلبياً. كنت أودّ أن أجد رسالة تنتهي معها هذه الحياة العبثيّة، وفي الوقت نفسه أتمنّى أن يكون الصندوق فارغاً لأواصل عدميّتي وأتجنّب اللحظات الرهيبة التي تسبق فضّ الرسالة. تقدّمت ناحية صندوق البريد وإذا بي أجد ظرفاً ينتظرني يحمل إليّ رسالة من المحكمة. شعرت بالذعر والخوف والتلهّف في الوقت نفسه. وددت لو أنّني أفتحه في الحال ولكنني قرّرت أن أصعد بسرعة إلى الغرفة.

تسلّقت السلالم على عجل ودخلت إلى غرفتي في الطابق الثاني، رميت اللفّاف والقفّازين على السرير. تضاعف البرد في داخلي، وشعرت بالرغبة في الاختفاء، لكنّ التوتر والخوف زوّداني بجرعات من الأدرينالين مكّنتني من أن أتمالك نفسي وأفتح الظرف، كانت يداي ترتجفان، فتلك هي فرصتي الأخيرة للاستقرار الذي بذلت من أجله الغالي والنفيس وتعذّبت كثيراً، فرصتي للنجاح وتحقيق ذاتي التي أبحث عنها، فرصتي لأعرف بأنّ هروبي الطويل ذاك، وكل ما اتّخذته من قرارات مصيريّة قد أثمر شيئاً في النهاية.

فتحت الرسالة وقرأتها بسرعة، كانت عيناي تبحثان بلا هوادة عن شيء ما وسط السطور، وفجأة لم أعد أرى شيئاً، وددت لو أنّني أصرخ، أم أنني فقدت الرغبة في القيام بأيّ شيء. اختفت كل السطور لكأنّني أبصرها من خلف نافذة مضبّبة، أو من خلال قدح ماء بارد تكاثفت عليه قطرات الماء، لكنّها لم تكن في هذه الحالة سوى دموعي، فقد فاضت عيناي بالدموع وانهمرت بشكل غزير في صمت.. لم أستطع أن أصرخ ولم أعد أسمع شيئاً سوى كلمات الرفض تدوّي في أذنيّ ورأسي. انهرت على السرير وصرخات عالية تدوّي في داخلي، صرخات احتجاج ورفض لذلك الرفض، أحتاج إلى قرار وقّعه ذلك القاضي الذي لا يعرف شيئاً عن ظروفي أو لم يمكنه أن يتخيّلها، احتجاج على قرار خطّه قلم أو كتبته أصابع شخص ما لا يعرفني، على لوح مفاتيح كمبيوتر حكومي، كان رفضاً أنهى كلّ آمالي، وعذابات انتظار استمرت تسعة أشهر ونصف الشهر كي أحصل على الرفض الأوّل وسنتين ونصف السنة من الانتظار المرهق والمحطّم بكل معنى الكلمة قبل أن تأتيني رسالة تحدّد موعد محكمة الاستئناف قبل أسبوعين من الآن. وها أنا الآن أحمل في يديّ جواب محكمة الاستئناف، الرفض الثاني الذي سينهي كلّ شيء. شعرت بأنني حطام سفينة تتقاذفها الأمواج بلا هوادة ولا رحمة على شاطئ صخري، ولكنّها لا تأتي عليها، أمواج ساديّة تتلذّذ بتعذيبي شيئاً فشيئاً، تذكّرت قصائد نيتشه عن البحر فجأة، وتذكرت كيف أنّي أموت الآن وسط بلاد الرفاهيّة والسعادة التي كنت أنشدها، فدوّت في أذنيّ كلمات نيتشه لوهلة، «فظيع هو الموت عطشاً في البحر».

لكنّني لم أكن أموت عطشاً في تلك اللحظة، فقد كنت أغرق في ظلمة بحرٍ لا قرار له، وأغوص في هاوية رهيبة لطالما خشيت التحديق إليها ولكنّها هي من كانت تحدّق إليّ على الدوام وتلوح لي من بعيد حيثما حللت، كنت أهرب منها ولكن ذلك الظرف اللعين الذي قرأته غير مرّة، لعلّي أجد فيه خطأ ما كان قد ألقاني فيها بلا رحمة. لم أعد أبصر شيئاً ولكأنّ العدم يحيط بي، ولم أعد أعرف إن كنت لا أزال على قيد الحياة أم لا. رغبت لو أنّني أكون من الشجاعة بمكان لأقدم على إنهاء ذلك العبث. وددت لو أنني أنهي حياتي أو أدخل في غيبوبة أبديّة. لم أشعر بأنني فقدت كلّ شيء دفعة واحدة كما شعرت بذلك في تلك اللحظة، كان الظلام الدامس يحيط بي لكأنّ شمس مجرتنا انتهت واستحالت ثقباً أسود كأيّ نجم آفل.

كانت تلك هي النهاية بالنسبة إلي، فقرار رفض الاستئناف يعني أنّه لم يعد في الإمكان الحصول على اللجوء والبقاء في ألمانيا، كنت محطّماً تماماً وأنا أفكّر في تقديم استئناف آخر قد تستغرق فترة الردّ عليه سبع أو عشر سنوات أخرى. مجرّد التفكير في ذلك أفقدني القدرة على الإحساس، كان ذلك سيشبه سجناً أبديّاً بدون محاكمة ولا سنوات حكم محدّدة تجلس من أجلها لتشطب على الروزنامة منتظراً الخلاص، كان سجناً بلا نهاية ولا أمل، وفي الغالب لا يتغيّر الأمر ولا طائل في الاستئناف مرّة أخرى، ببساطة كانت قضيّتي قد أصبحت في خبر كان.

لبست ثوب التشاؤم وأطفأت كلّ مصابيح الأمل في داخلي التي كان الكثير ممّن يعرفونني يحرصون على مدّي بها والحرص على ديمومة اتّقادها، كنت أختبر مشاعر الانهيار - التي اختبرتها طويلاً في سنّي عمري الثلاثين - ولكنّ تلك المرّة بدت لي الأشدّ وطأة وقسوة، كان انهيار تام الآن لم أشهد مثله من قبل. لكنّ بصيص أمل واحد أبى إلاّ أن يبقى مشعاً وسط تلك العتمة، كان فلك وجه هيرتا، تذكّرتها وسط بحر الدموع وكانت الخلاص الوحيد الذي يمكن أن ألجأ إليه، لن يكون في إمكانها فعل شيء، ولكنني كنت أبحث عن المواساة، أو الدعم حتّى وإن بدا لي من دون طائل، كنت أبحث عمن يشاركني في مأساتي، في غربتي ووحدتي القاتلة التي أضاف إليها مشهد الأغصان الميّتة من خلال النافذة الكثير.

back to top