الإصغاء إلى أنفسنا... حاجة وضرورة

نشر في 23-12-2016
آخر تحديث 23-12-2016 | 00:00
No Image Caption
يطمح جميع الناس اليوم إلى إيجاد من يسمعهم ويعترف بتميّزهم ويؤكد وجودهم. لكن وسط ضجيج العالم المعاصر كيف يمكن أن نُسمِع صوتنا ونتحاور مع أنفسنا؟
يُمعِن أسلوب الكلام المعاصر في إضعاف {الأنا} بسبب مقاطعات لامتناهية وتعرّض دائم لأحكام الناس ونظراتهم، سواء كانت حقيقية أو وهمية.

تترسّخ هذه المشكلة بفعل وسائل التكنولوجيا الجديدة، حيث توضح العلاقات المستجدة عبر {فيسبوك} وظاهرة الصور الذاتية على {إنستغرام} أن الحاجة إلى تجسيد الذات تطغى على التبادلات مع الآخرين. لكن يسمح التدرّب على تكثيف تلك التبادلات بإسماع صوتنا والتعبير عن أذواقنا ونشاطاتنا، ما يعزز قيمة وجودنا ويُشعِرنا بمكانتنا وسط الآخرين.

تتّضح هذه الظاهرة في مساحات التبادل مثل المنتديات مع أنها تبقى محصورة في العالم الافتراضي عموماً. وتكمن المشكلة في هذا الجانب تحديداً: تُبعِدنا المنشورات والرسائل الإلكترونية والنصية والتغريدات عن الآخرين وعن جسمنا الملموس وعواطفنا، فيميل الكلام المباشر إلى الاختفاء. حتى إن أفراد العائلة الواحدة يعمدون إلى تبادل الرسائل النصية رغم تواجدهم في المنزل نفسه!

حين يحصل التواصل عبر أجهزةٍ تؤدي دور الوسيط بين الذات والآخرين، لا مفر من أن يتلاشى دور الجسم. لكن يعني الاحتكاك الحقيقي سماع صوت الطرف الآخر وتلقي أدق عواطفه وفهم تعابير وجهه. في هذا المجال، يمكن بناء رابط حقيقي مع الآخر بفضل المكانة التي نخصصها له والطريقة التي يستعملها لتغيير عواطفنا وآرائنا. تتعلق المشكلة الحقيقية بصدور كلمات {عائمة} لا تحقق هدفها الأصلي، فتكون أقرب إلى المناجاة الفردية.

كذلك يصعب على كل شخص منا أن يحتسب أثر كلماته أو حركاته على الآخرين، وتتضح هذه الصعوبة بشكل خاص حين تفتقر الرسالة التي نريد نقلها إلى صياغة واضحة أو يبقى الهدف منها مبهماً.

يمكن أن نتكلم من دون أن يسمعنا أحد لأننا نميل بطبيعتنا إلى التشويش على رسائلنا عبر التكلم في توقيت سيئ أو اجتزاء التفاصيل المهمّة أو إضافة تلميحات من شأنها أن تسبب سوء تفاهم. هذا ما يحصل تحديداً في تواصلنا العاطفي مع الشريك أو الأولاد. لذا نتذمّر جميعاً حين لا نجد من يسمعنا لأن الطرف الآخر يتلقى المستوى الأول من الرسالة بدل أن تصل إليه المعلومة التي أردنا نقلها.

التذمر المزمن كأداة تعبير

لإيصال صوتنا بطريقة فاعلة، يجب أن نحدد رغبتنا الحقيقية أولاً وطريقة التعبير عنها. يعمد بعض الأهالي أو الأزواج إلى إغراق رسالتهم بوابل من اعتبارات أو انتقادات عامة أو يلطّفون كلامهم لتجنب الخلافات. يتحدث آخرون إلى الناس المحيطين بهم ظاهرياً لكنهم لا يكلّمون إلا نفسهم فعلياً كي يقتنعوا بصحة أفكارهم أو يتذمروا بكل بساطة. إنها طريقتهم لإسماع صوتهم وإثبات وجودهم.

لهذه الأسباب يُعتبر التذمر المزمن جزءاً من أدوات التعبير المعاصر الأكثر شيوعاً. لكن هل حاجتنا إلى إيجاد من يسمعنا مؤشر على نرجسية شائبة من شأنها أن تنتج حالات متكررة من سوء التفاهم؟ وراء هذه الحاجة الظاهرية، ثمة حاجة كامنة إلى كسب التقدير والحب والقبول وحتى تحقيق الذات، أي التعبير عن الحقيقة الشخصية ونقل الأفكار والقيم الخاصة والتحكم بمسار الحياة والعالم بالتعاون مع الآخرين.

لكن تبدأ هذه العملية كلها بالإصغاء النشط إلى الذات وإلى الآخرين. بهذه الطريقة يمكن الخروج من حالة التذمر والمناجاة الفردية وسوء التفاهم للدخول في حوار صادق ولو أنه لا يخلو من اضطرابات.

أصبح تعلّم أسس الحوار البنّاء اليوم تحدياً اجتماعياً بارزاً، وترتكز أي محادثة فاعلة على عوامل الوقت والإصغاء والتنبه ومتابعة التركيز على النقاش. لذا يجب أن تتمكن جميع أطراف الحوار من الإصغاء إلى نفسها وإلى الآخرين في آن.

التذمّر المزمن جزء من أدوات التعبير المعاصر الأكثر شيوعاً
back to top