حبر وورق

نشر في 17-12-2016
آخر تحديث 17-12-2016 | 00:00
No Image Caption
جوهرة

كان الجو صحواً في تلك الليلة، والشانزليزيه يضجّ برواده. جلست ماجدة بكامل أناقتها أمام صالح. كان صالح منشغلاً بمطالعة قائمة الطعام ليختار منها عشاءه في حين كانت ماجدة منشغلة بمراقبته هو، كانت خيبتها فيه كبيرة. إنه مدمن! باتت هذه الحقيقة قاطعة بما لا يدع مجالاً للشك... والمسحوق الأبيض رفيقه الدائم كل ليلة. وباتت هي مضطرة إلى تحمل رائحته الغريبة كلما اقترب منها.

عرفت ماجدة أن زوجها مدمن منذ أيام دراسته في الخارج.. وأن والديه يعرفان بحقيقة إدمانه. عرفت أنهما أرادا تزويجه علّ زوجته تساعده على ترك المخدر الذي يستنزف ماله وشبابه. عرفت أيضاً أن والده حاول مراراً إدخاله إحدى المصحات في الخارج ليتعالج من إدمانه. لكنّ صالحاً كان يتملّص دائماً ويؤكد للجميع أنه لا يزال يمسك بزمام الأمور وأنه يستطيع ترك المخدر متى ما أراد وأنه لم يصل إلى مرحلة الإدمان بعد!

كان يكابر.. ويرفض الاعتراف بمشكلته وعندما حاولت ماجدة مناقشته كان يؤكد لها أن وضعه تحت السيطرة وأن أغلب الشباب يتعاطون هذه المخدرات بشكل أو بآخر !

بدت ماجدة جميلة جداً تلك الليلة وهي ترتدي ثوباً أزرق بلون السماء. بدت فاتنة بذلك الثوب رغم انطفاء نظرتها والحزن المتجلي واضحاً في عينيها. سألها صالح عما تريد أكله فقالت بلا مبالاة: أي شيء !

فطلب لها طعاماً على ذوقه. كانت الأجواء حولهما تضج بالحياة لكن الهم الذي تحمله ماجدة منعها من الانسجام مع ما حولها. نظر إليها صالح متودداً: أحب هذا المكان. إنه جميل وشاعري للغاية. نظرت إليه.. كان وسيما إلى حد لا يصدق، فرغم الهالتين تحت عينيه كانت وسامته طاغية.. تنهدت وقالت مجاملة وهي تشعر بأن كلماتها لا تلامس قلبها: صحيح المكان رائع هنا. سألها: أحببت باريس؟ إنها عاصمة الفن والجمال... يسمونها عاصمة العشاق أيضاً..

استفزها كلامه فقالت شبه صارخة: صالح.. يجب عليك أن تقلع عن التعاطي !

نهرها: لا تقولي هذا الكلام هنا.. المكان مليء بالعرب.. لا أحب أن يسمعك أحد!

سألته بحدة: تخاف من الناس ولا تخاف من الله؟ زفر بضيق: ألا تستطيعين الاستمتاع بما حولك أبداً؟ لم أنت نكدة دائماً؟ قالت: أنا تعيسة.. لا يمكنني أن أتصور أنني زوجة رجل مدمن على المخدرات! ماذا لو مت؟ ماذا لو حصل لك مكروه؟ ماذا لو..

قاطعها: قلت لك إن أموري تحت السيطرة. لن تخافي علي أكثر مما أخاف على نفسي صحيح؟

وقبل أن ترد وصلت المقبلات.. بدت تلك الأصناف التي وضعها الجرسون أمامها شهية جداً، لكن معدة ماجدة المقبوضة منعتها من الرغبة في الأكل.

بدأ صالح بتناول طعامه متجاهلاً زوجته الغاضبة. تمنت ماجدة في سرها لو أنها لم تتزوج أبداً ولم تغير حياتها الهانئة... أحست بشوق عظيم يجتاح قلبها إلى الكويت، إلى وطنها، فالوطن هو الأمان، هو المكان الذي تجد أمها فيه وأختها وأهلها وعزوتها. أحست وكأنه تم اختطافها هنا مع مجرم يتعاطى الممنوعات! مد صالح الشوكة لفمها ليطعمها من يده. لم ترد إحراجه أمام الناس فأكلت من يده وهي تشعر بأن معدتها أصبحت ضيقة كبالون فارغ من الهواء وقد انقبض صدرها لدرجة أنها أحست برغبة عارمة في البكاء على حالها !

عادا معاً تلك الليلة. تمشيا طويلاً... تحسن مزاج ماجدة قليلاً أثناء جولتهما، فقد كان للأجواء الباريسية الحالمة تأثير لا يقاوم. غيرت ملابسها وهي تشعر ببعض التحسن الذي زال عنها بمجرد أن شاهدت صالح يعود إلى تعاطي مسحوقه السام. نظرت إليه وهو يهم بالاقتراب منها فصدته بحزم: لا... لن تقترب مني أبداً ما دمت مدمناً! ضحك ضحكة صاخبة غير مبال بدموعها التي بدأت تنهمر... وشدها إليه بقسوة لتسقط بين رائحة المخدر الغريبة ودموعها الحارقة.

اختيار اسم

كان أحمد منزعجاً لكنه قرر الاستسلام أمام إرادة جوهرة التي لم يرها أبداً مصممة على أمر كما رأى تصميمها على احتضان هذا الطفل .

جلست جوهرة والطفل الذي تم تسليمه لها أخيراً بين أحضانها وبدت سعيدة كما لم يرها من قبل، كان ولدها شهاب نائماً في سرير مجاور لسرير الطفل الجديد الذي اشترته له بنفسها. قالت فضة إنها الرابعة وهي تسأل أمها: ماما.. هذا الطفل أتى أيضاً من بطنك؟ ضحكت جوهرة: هذا الطفل أعطاني إياه الله كهدية... ألا تحبين أن يكون لك أخوان؟

قالت الصغيرة: أحب أن تكون لي أخت... قال أحمد: لن تكون لك أخت، يكفينا ثلاثة أطفال !

ابتسمت لها جوهرة وقد لمحت خيبتها: لا تغضبي.. من الجميل أن تكوني فتاة واحدة، ستكونين مدللة.. سيهتم بك أخواك.. سيكون هذا الولد أخاً لها فعلاً من الرضاعة.. سترضعه مع شهاب.. ليصبح ولدها من الرضاعة وأخاً لأولادها.. ما أجمل هذا التشريع! سيرفع الحرج عنها عندما يكبر.. فلا يصبح غريباً عنها أبداً.. ولا عن عائلتها. سألت فضة: وما اسم أخي الجديد؟ فكرت جوهرة. يجب عليها أن تطلق اسماً على هذا الطفل.. فكرت أن ولداً مثله سيحتاج إلى الكثير من الصبر في حياته.. فمن مثله كتبت عليهم المعاناة، خصوصاً عندما يعرف حقيقته يوماً ما.. كانت تعليمات الدار واضحة.. عليه أن يعرف حقيقة وضعه عندما يكبر ويصبح مؤهلاً لذلك، فإخفاء الأمر عنه ليس من مصلحته... كما أخبروها أن اختصاصية من الدار ستقوم بزيارته بشكل دوري للتأكد من استقرار وضعه في الأسرة.

أخبروها أن الدولة تصرف إعانة شهرية لمن في مثل وضعه أيضاً، فقررت الاحتفاظ بهذا المال على حساب خاص باسمه وأن تسلمه له عندما يكبر ويشتد من مالها عوده.. ستنفق عليه من مالها الخاص .. هكذا عاهدت نفسها... فقد قررت أن تتكفل به بشكل تام.. تذكرت حديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: {أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين..}، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما قليلا... فضج صدرها بالفرح عادت فضة لتسأل بإلحاح طفلة: أمي.. ما اسم أخي الجديد؟ ابتسمت جوهرة وقالت: اسمه أيوب.

عودة

لم تخف على السيدة منيرة أم صالح تلك النظرات المنطفئة العاتبة في عيني ماجدة عندما استقبلتها وهي تدخل المنزل بعد عودتها هي وصالح من شهر العسل.

كانت ماجدة عاتبة عليها لإخفائها حقيقة ولدها الذي زوجتها إياه ولم تذكر لها علته. كانت تشعر بالقرف وأحست أنها تعرضت للغش.. فالعريس الرائع الذي طارت به فرحاً لم يكن سوى مقلب عظيم لا تعرف الآن كيف تتخلص منه!

سألتها أم صالح متوددة: كيف كان شهر العسل؟

فنظرت ماجدة إليها نظرة ثاقبة ولم ترد!

أحست أم صالح بالحرج الشديد.. فقد فهمت معنى تلك النظرة جيداً وعرفت ما الذي ترمي إليه ماجدة بالضبط. في تلك الليلة ذهبت ماجدة لتزور أمها. لكنها أشفقت عليها من معرفة الحقيقة.. فأمها أرملة وهي تعيش وحدها مع الخادمة بعد زواج ابنتيها ولم ترد ماجدة إخافتها بما ستقوله ففضلت تصنع السعادة والراحة أمامها. لقد كرست هذه الأم حياتها لتربية ابنتيها ومعرفتها بأن ابنتها الصغرى تزوجت مدمناً ستكون فوق احتمالها، كما أن معرفتها بالأمر لن تغير من الواقع المرير شيئاً لذا قررت التزام الصمت وأخبرت أمها كاذبة أنها سعيدة جداً وأن أحوالها مع زوجها على ما يرام. عرفت ماجدة من أمها أن جوهرة تبنت الطفل الذي وجدته ليلة زواجها، كانت ماجدة متعجبة من تصرف أختها... ألا تكفيها مسؤولية طفليها؟ لم أخذت على عاتقها مسؤولية طفل يعلم الله وحده والديه وما الذي قد يحمله من صفاتهما؟

عادت ماجدة من زيارة أمها وقد ازدادت هماً ووجعاً وثقلاً.. فقد كانت زيارته بيتها الذي عاشت فيه أجمل أيامها زيارة مؤلمة.. فقبل زواجها كانت متبرمة بحياتها مع أمها وتتمنى أن يأتي لها عريس يبدد وحدتها ويملأ فراغ حياتها فتسعد بصحبته وتبدأ معه تأسيس حياتها الخاصة وعندما أتى ذلك العريس ملأها خيبة وحزناً حتى صارت تندم على كل لحظة تمنت فيها الزواج سابقاً !

دخلت ماجدة غرفتها فوجدت صالحاً وقد استلقى متراخياً على السرير وآثار المسحوق على طرف أنفه.. كان شكله مخيفاً.. فأحست بالاشمئزاز منه وهو يشير إليها بالاقتراب منه.. تهالكت باكية على الأرض أمامه وهي تشعر بألم لا يطاق في بطنها. اقترب منها وهو يحاول شدها إليه لتجرب ما يجربه ضاحكاً، فتعالى صوت بكائها ..

أتت أمه على صوتيهما. وعندما دخلت الغرفة أحست بالخجل من ماجدة التي كانت تبكي بحرقة وهي تشير لأمه نحو صالح لتشهدها على وضعه المزري. شدتها الأم معها إلى الصالة.. وحاولت تهدئتها. انفجرت ماجدة باكية وهي تلومها على خداعها لها وتزويجها من ولدها المدمن. أخبرتها أنها لن تسامحها أبداً على توريطها مع رجل كهذا وأنها لن تغفر لها قط إخفاءها هذه الحقيقة القاسية عنها؟

أقاليم الجنّ

تلقّفت طيور لاكيلا، ذوات الجسوم النسور، والرؤوس العظام بلا لحم عليها أو جلد، نفير البوق الحجر، جاثمةً على أعشاشها فوق قمةً الهضبة الحمراء. منذ ثمانين عاماً لم ينفخ بوّاق في البوق الحجر معلقاً إلى غصن من شجرة لا كالشجر، ابتناها النحاتون تصميماً من عظام شتًى لحموها قطعاً بالسيور الجلد، ونصبوها إلى الجهة الشرق من بوابة المعبد الكبير، في الساحة، وسط مساكن قبيلة زينافيري المنيعة، المهيبة، في أقاليم الجن.

أدارت الطيور رؤوسها الفارغة المحاجر، لا عيون فيها، صوب مهبِّ النفير لم تبعثره الريح كاقتدار الريح على التقويض. داخلَ النفير الريح، ذلك الصباح، على الأرض الرمل ممتدةً كسماء؛ علق بزغبها الخفيِّ، فوزَّعته الريحُ قطرةً قطرةً من الصوت على الجهات، حيث حلَّت وارتحلت بالنقوش النافرة للصوت كارتحالها بالنقوش المتقوِّضة، الفوضى - نقوش الرمال.

سبع مرّات نفخ البوّاق في الأسطوانة النحت من حجر ذي مسامَّ، ثم أعاده معلَّقاً إلى غصن في الهيكل المصمَّم شجرةً من عظام. نهض الصخب واقفاً على أقدامه الذهبيّة مُذ تزاحمت المعابرُ في مدينة جنِّ زينافيري بالملبِّين النداء النذير. جموعٌ هبَّت قفزاً على سيقانها، ثم تراصَّت، بعد بعثرةٍ، في انتظام. جمهراتٌ جاورت جمهراتٍ على نحو محسوب في علوم الخطط أنجزها عقلُ المحاربين جيلاً عن جيل، فطنةٍ عن فطنة، دربةً عن دربة، واختباراً عن اختبار. سريعاً كانت فرقٌ المحاربين على أهبة بأسلحتها العظام في أيديها، والخوذ الحجر على الرؤوس، مستقبلة بوجوهها، صفوفاً أنصاف حلقاتٍ، هيكل الإله الأكبر كوياسي، الذي لم يتوقف مصمِّمو هيئته، منذ النشوء الأول لقبائل الجن، عن التبديل فيه. كل حكيم، أو قائد، أو منجِّم، أو سيد من أسياد السلالات، له الحق في إملاء إضافةٍ إلى الشكل استزادةً، أو إملاء إنقاص يتولى المصممون تنفيذه بلا اعتراض. هو هيكل ضخم من مجموع عظام المخلوقات شتَّى، جناً، وحيوانات، وطيوراً، جرى رصُّها قطعةً إلى قطعة، في حساب حاذق لسقوط الظلال من بعضها على بعض، ولعبور شعاعات الشمس من خلل فراغاتها على الساحة المحيطة بالمعبد. وقد تراكم الهيكل الإله علواً، واتساعاً، على نحو يرى، من كل جهة فيه، مخلوقاً متداخلاً من هيئات محيّرة في انتسابها إلى كائن بعينه. والجموع المحاربون، الذين لبُّوا نداء البوق النذير، قادمين قفزاً على سيقانهم – سيقان الجراد، شخصوا تحديقاً إلى الهيكل الإله يرى كلٌّ فيه، بالخيال النحَّات في باطني عينيه الحجريتين، صورة الحقيقة التي تُلهمه الولاء عنيفاً للإرث في إقليم زينافيري.

بعد برهات من إحكام الفرق صفوفها منتظمة، متهيئة، متأهبة، شقَّ الغبارُ العاصفُ قميصه عن قائد المحاربين ماياكي ممتطياً جنِّياً ضخماً يقود الريح خلفه بأرسان السرعة قفزاً على أربع ساقيه، ويديه معاً كدابَّة. لجم الجنيُّ المطيّة سرعته غوصاً بقدميه في الرمل. انتصب واقفا فنزل ماياكي عن ظهره.

للجن السادة مطاياهم من الجنِّ الضخام تمشي على أربع إن اقتضى الانتقال، أو على الساقين إن اقتضى. الجنُّ السادة، والعاديون، والجن المطايا، كلهم متشابهون في نشأة أعضائهم، إلاَّ بتمايز فى ضخامة المطايا عن غيرها، لذا تتخذ كالدَّواب لنقل راكبيها. ماياكي وصل بمطيته الأسرع من شعاع على هضبة طيور لاكيلا المقدسة، حين اكتملت أهبة الفرق المحاربين تلقاء بلا مرشد، يعرف الواحد، بخصِّيصة الخطط عن خيال المحارب فيه، أين موضعه وموقعه.

تمشَّى قائد المحاربين مستعرضاً جمهراته في سلاحها وخوذها، فتمشى الجنيُّ المطية من خلفه كحرسيٍّ. قلب عينيه الحجريتين الرماديتين في محجريهما تقليبَ الرضا.

عيون الجن عيونٌ حجر في محاجرها، رمادية، كتيمة كأعين التماثيل لا بريق فيها، أو حدقات. لا أجفان لعيونها. محدِّقةٌ أبداً من الرؤوس الصغار، المستطيلة الوجوه. ذكورهم جردٌ لا ينبت شعر على جلودهم. وهم يتخذون من شعور رؤوسهم الرمادية على زرقة جدائل طويلات، حرةً على جهات الوجوه. عجافٌ هزيلون، ذكوراً وإناثاً، كهياكل عظام عليها جلود خشنة، رمادية، بنقوش من خطوط ونقاط بيض وصفر تولّد معهم، هي - في زعمهم - تدوين من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. والجنّ، جملة، ذوو أيدٍ ضخام، مفرطة في ضخامة واحاتها وأصابعها، لا تتناسب مع جسومهم العجاف. هي أيد كلما تضاءلت، وانكمشت، وتصاغرت، دلّهم أمرها على شيخوخة واحدهم. أنوفهم مطموسة، مسحاء، مستوية مع صفحات الوجوه، لا دليل عليها إلا ثقبان في الوجه الواحد، فوق الفم، ينتفخ جلد الخديَّن حولهما شهيقاً وزفيراً.

أسنانهم ضخامٌ في الأفواه. يولدون بأسنان ضخام، في سياق من الاستنسال قائم بقوانينه – قوانين نشوء الجن. كل زوجين يستحصلان، مطلع اختيار الواحد شريكه، كرةً حجراً تتسع ملء يدين من أيديهما. في الكرة الحجر ثقبٌ عميق حتى مركزها، توضع فيه ذبابة مختارة من مجمع استنسال الذباب، القائم سلطة بذاته في جناح من قصر السلطان كاشاجُو- سلطان إقليم زينافري. شعراء يتولون، خلفاً عن سلف، إدارة المجمع، حيث يحتفظ بالذباب، على أنواع بلا حصر، في قوارير من خزف مغلقة. هم الشعراء يهبون كل زوجين ذبابةً، بعد درس عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما، ومقدار طاقتيهما على استحضار صورٍ مغالية في غرابتها – صور رؤىً.

قبل وضع الذبابة المختارة في ثقب الكرة الحجر، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجنِّ في راحة يدها اليسرى مطبقةً عليها، لا تفتحها قط، بل تنفخ عليها من وقت إلى وقت. ثم تُنقل الذبابة إلى راحة الذَّكر يطبقها عليها أربعين يوماً ينفخ عليها من وقت إلى وقت. بعد الثمانين يوماً تلك توضع الذبابة قي ثقب الكرة الحجر، ويسدُّ الثقب بسدادة جلدٍ ثمانين يوماً هي دورة الريح بالرمال حلقةً من حول هضبة طيور لاكيلا، وإرساؤها النقوش متماوجةً بإتقانٍ على الرمال فى العراء المحيط بالمعبد.

بعد الثمانين الأيام من أيام الجن تنشقُّ الكرة الحجر عن وليدٍ كخادرة الفراشة، لكن مكتمل الشكل على صغرٍ في الهيئة، بأسنان كبيرة، وعينين حجريتين، ورجلين كرجلي الجرادة تمامً: فخذان صلبتان من عظم عليه جلدٌ خشن معرّق، وساقان قصبتان، منشاريتان، تنتهيان برسغين عظمتين صغيرتين هما قدما الكائن الجن.

يقفز الوليد بعد تصدُّع الكرة الحجر كالجرادة، دائراً دورتين من حول والديه. يقفز الوالدان من حول وليدهما دورتين. يضربانه على صدغيه، كلٌّ بقبضة مضمومة، ضربة تصرعه برهةً مغمىً عليه. يفيق فينطلقان به إلى مسكنهما.

‎مشي الجنِّ مشي الجرادة مذ يولدون بأرجل كأرجل الجراد من ذباب حاضنته الكرة الحجر. شعراؤهم المتوارثون مجمع انتخاب الذباب للاستنسال لا يعهد بالمهنة إلى سواهم. يقلُّون عدداً أحياناً، أو يزيدون، لكنهم لا يجاوزون الأربعة. منجمو إقليم زينافيري عهدوا بالتكليف إلى الشعراء منذ ما لا يحصره تحديد من أزمنة الجن. ذلك كان زعمهم في اقتسام عادل للسماء والأرض بينهم: هم المنجمون يتتبعون نشأة الخطط، وقواعد الخطط، وأخاديع الخطط في المشوف من كرة السماء وبريق زجاجها المعتم، ومطاوي البرازخ بين الكواكب وبناتها النجوم. أما الشعراء فيتتبَّعون المستورَ من كرة الأرض - باطنها العماء، وأسس العماء، وفروع الملتبس المشكل من فيض اللامحسوم: يتتبعون الكلمات حتى يرثوا منها ثقة الجنِّ بالأرض من حولهم، كثقة الذباب بطيرانه المحيِّر، وإخلاص الذباب للاستحالات في العناصر من نشآت أجسام إلى روائح. ‏

back to top