حبر وورق

نشر في 10-12-2016
آخر تحديث 10-12-2016 | 00:03
No Image Caption
جزيرة الألوان

جلس «أخضر بحري» الأفريقي الأسمر ذو الخامسة والثلاثين من العمر على مقعده المفضل، بشرفة شقته الصغيرة المطلة على بحر العرب، وكان أخضر يقطن هذه الشقة مع والدته «سيان الأشقر» والكائنة بالدور السادس، من مبنى قديم في جزيرة الألوان.

بحر العرب جزء من المحيط الهندي، يقع بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه الجزيرة الهندية. وقد اعترفت بجزيرة الألوان 36 دولة فقط من أصل 192 دولة عضو في الأمم المتحدة. وتعتبر الجزيرة أصغر دولة في العالم، وليست لها حدود برية، أما الأجزاء الداخلية منها فتتكون من غابات كثيفة وبعض المرتفعات الجبلية. عملة جزيرة الألوان هي «الرون»، ويعادل الرون 25 سنتاً أميركياً تقريباً.

أول من سكن جزيرة الألوان، كان خليطاً من الرجال والنساء والأطفال الذين قدموا بالقوارب في القرن السادس عشر، من الجزر والدول المجاورة القريبة. قرر هؤلاء الأوائل، وما زال قرارهم ساري المفعول، أن تتوارث الحكم سلالة أول عائلة اكتشفت الجزيرة غير المأهولة وهي عائلة الفاتح، وأن يسمى الأفراد وتلقب العائلات بمسميات الألوان ودرجاتها من دون سبب واضح لهذا القرار سوى التميز عن بقية دول العالم.

يتنوع سكان الجزيرة ما بين محافظين، وأحرار، ووسط، ومتمسكين بالماضي، ومتطلعين إلى المستقبل، ومن لا يعيشون إلا حاضرهم. كما توجد في جزيرة الألوان مساجد وكنائس وكُنُس ومعابد بوذية وغيرها من دور العبادات المتباينة. ولما كان هؤلاء السكان من أعراق وأجناس وديانات متباينة، فقد قرروا أن تكون دولتهم دولة علمانية موحدة من حيث سلطة الدولة والدستور والتشريعات والجنسية والسلطة الحكومية، ويرأس الدولة من يطلق عليه لقب «الحاكم» وتساعده في أداء مهام عمله مجموعة من الوزراء.

شكّل السكان مع الوقت وبسبب اختلافاتهم العرقية، تجمعات بشرية داخل الجزيرة، تتبع تقاليد وعادات وأحكاماً يخضع لها طواعية أفراد كل تجمع، ولكنهم يمتثلون في الوقت نفسه لقوانين وإجراءات الدولة الرسمية في الجزيرة. وكان كل تجمع من تلك التجمعات يعتنق مجموعة من المسلمات الفكرية والاجتماعية، يعتبرها الميزان والقانون الناظم للفكر والعمل، بحيث يحكم «سيد» كل تجمع جماعته على ضوء ذلك القانون اليقيني، ويسودهم الإيمان بأن حياتهم الحالية (التي يرتبط بها وجودهم ووعيهم للوقائع الداخلية والخارجية) هي الأفضل. لذا يرفض التجمع سُنة التغيير لأنه يمس أصل وجوده وتكوينه التقليدي المحافظ المتوارث عن الآباء مكتفياً بفكر الأجداد الأولين.

أكثر ما يميز ذلك التجمع غير الرسمي، عمله الدؤوب على تهميش مثقفيه وعلمائه، ووضع العراقيل أمام الكوادر والخبرات النوعية، واستبعادها من ساحة التأثير على بقية أفراد التجمع، ما نتج عنه أن شهدت الجزيرة انفصال كثير من المتميزين والكفاءات من تجمعاتهم الأساسية إلى تجمعات اختيارية بديلة وحرة أُطلق عليها تجمعات المثقفين، بعيداً عن الأفكار والمعتقدات التي تسود التجمعات الرئيسة داخل الجزيرة.

يؤمن كل تجمع أن حركة التاريخ توقفت وانتهت عند المعرفة والفكر السائد داخله. ومن أعراف التجمع ألا يخضع «سيد» التجمع للمحاسبة أو المساءلة أو النقد أو الرقابة، لأنه يقترب إلى درجة تأليه نفسه، وعصمته تجاه الآخرين، ويعتبر السيد الأوحد المطاع. و«السيد» هو وحده المستثنى والمنجي والمنقذ، أما باقي أفراد التجمع فعليهم واجب الولاء الأعمى والانقياد المطلق لسلطته وحكمه. وحين لم تعد سلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة الموروثة منذ العهود القديمة قادرة على العيش والتطور مع تقادم الأيام والعصور والأزمان، فقد تحولت إلى منهج قائم بذاته داخل كل تجمع وله دعاته ومناصروه، ولعل من أبرز هؤلاء وعاظ سيد التجمع المتحالفين معه من أجل الوصول إلى المصالح الذاتية المشتركة، التي لا يمكن أن تتسع دوائرها إلا من خلال الإبقاء على حالة التخلف الفكري والنفسي بين أفراد التجمع، وتكريس واقع التبعية التي يرزح تحتها أبناء التجمع كلهم.

يتمسك كل تجمع بمجموعة من الشعارات الوهمية الزائفة المتراكمة عبر الأيام، والتي لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها تجاه أفراد التجمع، الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل تحقيقها، كما سرق منظروها جمهور التجمع بحجة الإنفاق على تكاليف أنشطة إحياء تلك الشعارات. لقد رفع هؤلاء المنظرون شعارات حب تجمّعهم وتطويره وتحديثه وتقدّمه على سائر التجمعات الأخرى في جزيرة الألوان. كانت مجرد شعارات رنانة على سبيل الشحن والتعبئة النفسية تحول كل تجمع إلى قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار، وكنتيجة لكل ذلك سرت العصبية التجمعية فغدت الجزيرة حتى وصول الحاكم «أصفر الفاتح» إلى سدة الحكم مجموعة من التجمعات العرقية، التي تهيمن الدولة عليها، والتي من أكبرها تجمّع الهندوستانيين، وتجمّع الطاهريين. وهناك تجمعات أخرى في جزيرة الألوان لا يعرف لها عرق أو جنس تنتمي إليه، والتي بدأت أجهزة الدولة الأمنية في مراقبتها بشبهة أن تكون نَوَيات لجبهات سياسية في المستقبل القريب. وتفادياً للاحتجاجات التي قد تصدر عن أصحاب مختلف التجمعات بالجزيرة فقد تقرر أن يكون الأربعاء هو يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في الجزيرة.

الحاكم الحالي للجزيرة هو «أصفر الفاتح» واللغة الرسمية لسكانها هي اللغة الفرانزية، وذلك عائد إلى وضع الاستعمار الفرانزي الجزيرة تحت الحماية بعد سنة من اكتشافها وحتى نالت استقلالها في العام 1946 وغادرت القوات الفرانزية الجزيرة. أما دولة «فرانز» فتقع في جنوب غرب أوروبا متاخمة لشبه الجزيرة الإيبيرية. ويحدها المحيط الأطلسي إلى الغرب والجنوب وإسبانيا من الشمال والشرق.

تعتبر جزيرة الألوان بمثابة محطة في طريق التجار المبحرين إلى الشرق الأقصى والهند، وكانت السلعة المحلية الوحيدة التي تقوم جزيرة الألوان بتصديرها هي جوز الهند، غير أن المستوطنين الفرانزيين بنوا اقتصاداً للجزيرة يعتمد على السياحة في شواطئها الخلابة أو مرتفعاتها الجبلية وتنويع المنتجات الزراعية وتصدير الفانيليا والبن والكاكاو بجانب الثروة السمكية الوفيرة في جزيرة الألوان.

***

يعمل أخضر استشاري إدارة أعمال وتساعده «زَهرية ساحر». ويهدف مكتبه إلى مساعدة الحكومة والمؤسسات العامة والخاصة على تطوير وتنمية أنظمتها الإدارية. ويفضل أخضر الوقوف بدل تعديل جلسته عندما يتحدث إلى الآخرين أو يقدم لهم آراءه لإحساسه أن ذلك يكسبه مزيداً من السلطة في نظر من يحادثهم.

زَهرية في بداية العشرينات من العمر ذات جمال أخاذ هو خليط من ملامح أجناس وأعراق عدة. تخرجت في كلية الاقتصاد والإدارة قسم إدارة الأعمال في جامعة الأرخبيل، وهي الجامعة الوحيدة، وتتولى التدريس فيها نخبة من الأساتذة المحليين والأجانب المقيمين إقامة دائمة بالجزيرة.

أخضر بدوره درس إدارة الأعمال أيضاً في الجامعة نفسها، وتولّع منذ البداية بمادة إدارة الأعمال، وكانت أكثر المواد قرباً من ميوله إلى الجوانب الإنسانية، وتضعه زَهرية بمنزلة الأستاذ بالنسبة إليها لقدراته الإدارية المتفوقة.

***

كان أخضر في لحظات تأمل بانتظار حلول موعد مروره على المبنى الذي تقطنه زَهرية مع والديها، بغرض اصطحابها معه إلى قصر الحكم، لتنفيذ أمر حاكم الجزيرة بحضورهما لمقابلته. أشارت رسالة الديوان إلى رغبة الحاكم في إشراكهما بصفة استشاريين إداريين في اجتماعات ستعقد مع الوزراء، لتقديم المشورة بخصوص ما لدى الحكومة من أفكار جديدة لتطوير الجزيرة، لتلحق بركب الدول المتقدمة.

بالنسبة إلى أخضر، يعتبر أمر الحاكم بالمثول أمامه لتقديم المشورة بمثابة بداية مبشرة لعام 1971 حيث كانت السنة الماضية بداية لنشاط مكتبه الاستشاري، ولم يحقق مع مساعدته زَهرية أي أرباح خلالها، حيث لم تغطِّ الإيرادات نصف التكاليف الثابتة والمتغيرة للمكتب.

بعد أن قَبّل أخضر رأس والدته «سيان الأشقر» مودعاً إياها، توجه حيث تقطن زَهرية وانتظرها بجوار باب العمارة. ولما كانت تترقبه فقد هبطت بسرعة من شقتها في الدور الثالث وجلست إلى جواره في سيارته الصغيرة ثم انطلقا عبر الساحل الطويل للجزيرة إلى قصر الحكم في مدينة «وردة» العاصمة.

سارا بمحاذاة الشاطئ المزدان بالنخيل الأخضر، والرمال البيض النقية، والبحر اللازوردي بشُعَبه المرجانية ذات الألوان الزاهية. وعلى الجانب الآخر من الطريق، خلف صفوف مساكن ضواحي العاصمة، كانت الأراضي في غالبيتها غابات كثيفة غنية بأشكال الحياة البرية النادرة التي بقيت على حالتها الطبيعية ولم تمس طوال الخمسمئة سنة الماضية منذ اكتشاف الجزيرة، والتي تجاور سلسلة من المرتفعات الجبلية غير المأهولة، باستثناء جبل «غصن» الذي يمثل امتداداً سكانياً للعاصمة «وردة». العاصمة «وردة» من أصغر عواصم العالم من حيث المساحة، وهي المدينة الوحيدة بالجزيرة، وتضم الميناء البحري والميناء الجوي، أما ما تبقى من جزيرة الألوان فكان قرى صغيرة متفرقة عبارة عن شواطئ ومنتجعات غنية بجميع مقومات المدينة.

قال أخضر لزَهرية بعد فترة صمت وكأن ذكريات مفاجئة قد خطرت بباله:

- كنت في مراهقتي وبداية شبابـي، أنتعل أحذية يفصّلها لي إسكافي (جزمجي) بحسب مقاس قدمي، وكنت لا أتخلى عن انتعال الحذاء نفسه، وأواظب على إصلاحه لدى الصانع حتى يلفظ الحذاء أنفاسه الأخيرة، ومن ثم أفكر في تفصيل حذاء جديد. ولكن انقراض تلك المهنة، وعزوف الأجيال الجديدة عن تعلمها، ووفرة الأحذية الجاهزة، قضى تماماً على أحذية التفصيل. والأمر ذاته كان مع خياط الملابس وترزي القمصان وغيرهما. ما أريد قوله، أنني كنت أشعر بشيء من الارتباط بتلك الأحذية والملابس، خصوصاً أنها كانت مميزة عن غيرها التي يتم تفصيلها عند صانعين آخرين.

العودة إلى كازابلانكا

ذات يوم، بينما كان آدم السجلماسي على ارتفاع ثلاثين ألف قدم، طرح على نفسه فجأةً السؤال التالي:

-ماذا أفعل هنا؟

لم يكن يطير بجناحين مثل طير: كان، في الحقيقة، محشوراً في زاوية، داخل المقعد لطائرة ركّاب مطليّة بألوان اللوفتهانزا.

طرح السؤال لتوّه («ماذا أفعل هنا»؟) وراح يتفحّص الظروف والملابسات.

بنظرة شاملة واحدة، اطمأنّ أن لا أحد يراقبه، إذ ليس بإمكانه التأمّل على راحته إلاّ إذا كان وحيداً في ركنه، بحيث يتجاهله الجميع ولا يلفت انتباه أحد.

وهكذا، أخذ آدم يفكر، لكنّه لم يتوصّل إلى حلّ لهذا اللغز:

لماذا جسمه على ارتفاع ثلاثين ألف قدم، تدفعه، بسرعة تفوق سرعة الصوت، محرّكات نفاثة صُمِّمت في أنحاء سياتل أو تولوز، بعيداً كلّ البعد عن مسقط رأسه أزمور، حيث عربات النقل الصغيرة، التي تذهب إلى السوق، نادراً ما تتجاوز سرعة بغل، والأخرى ذات الذراعين، لا تتعدّى سرعتها مشية متسوّل يجرجر نفسه من خيبات متلاحقة.

أمّا البوينغ، فكانت شيئاً مختلفاً تسعمئة كيلومتر في الساعة...

لم هذه العجلة، بحقّ الآلهة؟ عبر نافذة الطائرة بدت له السماء زرقاء، يتخلّلها أحياناً الأبيض الشفاف، لكن حتى إن كانت موشّحة باللون البنفسجي أو الذهبي، فما كان سيتغيّر الشيء الكثير، إذ لم تكن الطبيعة هي ما يشغل باله، بل تاريخ البشر، توزّع الجنس البشري على الكوكب. جاءت كلمة «كوكب» في محلّها، فهو يتبدّى فيالجهة الأخرى من النافذة خالياً. هذا ما حرّض من دون شك تأمّلات بطلنا الفلسفية: كان خارج الأرض محرّراً من الجاذبية، دون اتّصال مع اليابسة، كان روحاً نقيّة. وهذه الروح النقيّة أدركت لتوّها أنّ ثمّة شيئاً مخزياً في انهماك حركة انتقال جسم بشري في طول الأرض وعرضها.

شعر بضيق في صدره، وظهرت فوق جبينه بضع قطرات من العرق، واستولت على يده رعشةٌ لا يمكن السيطرة عليها.

-ماذا أفعل هنا؟

وكرجع الصدى، دوّت في رأسه عبارة أخرى:

‎ إنّك‏ تعيش حياة شخصٍ آخر.

ألقى مجدّداً نظرةً شاملة داخل قمرة الطائرة. كان هناك، رغم كلّ ذلك، رجال أعمال منكبّون على مجلاّتهم وتقاريرهم وشاشاتهم...

بدا له أنهم جميعاً يشبهونه، فهم يرتدون البذلة نفسها، ربطة العنق ذاتها. كان بوسعه أن يقرأ في عيونهم الانشغالات ذاتها والأرقام عينها...

-هل هذا ما أنا عليه؟

فكّر بجده الحاج معطي؛ الشيخ الجليل الذي كان يجلس هادئاً في فناء مسكنه، يشغل أيّامه وينفق لياليه في مراجعة رسائل مهيبة، أُلفّت قبل ألف عام في بغداد، أو في الأندلس، كنوز تكشف حروفها المنقوشة بالخطّ الكوفيّ أو النسخ عن عالم مختلف عن عالم أسعار القار أو الأسيد – أو حساب التاجر الهندي الشاري.

أدرك آدم أنّ جدّه لم يتجاوز قطّ سرعة حصان يندفع خبباً في أحد سهول دكالة، وكان في ذاك الخبب كل النبالة التي قد يصبو إليها إنسان. ما بين حكمة الحاج الهادئة، وخببٍ متغطرس ٍلخيلٍ أصيلة، تتبدّى ملامح كل المشاغل التي قد تشغلنا في هذه الدنيا، الوقت الوجيز لحياة جميلة، دون أن نترك على الأرض أثراً سوى شيءٍ من العطف في قلوب البشر - لا هذه القذارات التي تخلّفها في الهواء هذه المحرّكات التي نسمّيها بوينغ، محرّكات لا تفنى أبدأ، إذ نرى منها المئات تصطفّ في آخر صحراء أريزونا، ترقد في حلم لا نهاية له. وفي سبيل صناعة هذه المحرّكات، ألم يجب التنقيب عميقاً، عميقاً جداً داخل القشرة الأرضية، لاستخراج الحديد والبوكسيت، تاركين عروق الأرض مفتوحة، أمّنا الأرض المرضعة المحتضرة- ألا تسمعون روحها تئنّ، حزينة، شاكية، تخرقها نصال حفّارات

الأنفاق؟

كل ذلك، في سبيل ماذا؟

فكّر بوالده، عبد الجبّار، الذي لم يمتلك سيّارة قط، ولم يركب الطائرة أيضاً، والذي لو امتلك درّاجة «سوليكس» سوداء لتخلّى عن صلاة الظهر. كان آدم على يقين بأنّ والده لم يذهب أبعد من حصان الحاج معطي هو أيضاً.

آدم نفسه، كان أوّل واحد من السلالة يبلغ هذه السرعات الخارقة. وما فائدتها بحق الآلهة؟ بيع الزفت، وشراء حامض الكبريت، والتفكير بعمولة الوكيل الهندي. يا له من بؤس! وندعو ذلك تقدّماً، خطوة إلى الأمام، ولكن بأي سرعة؟ هل يجدر بها أن تكون بسرعة البوينغ؟

بينما كان أزيز الطائرة يهدهده، أدرك آدم أن هذه هي المرّة الأخيرة التي يطير فيها جسمه بسرعات تتحدّى الخيال. رأى نفسه جالساً في مقعده، مثل دودة مغرورة، متانقاً ببذلته، يرحل (فرووووووم) داخل الكون اللانهائي. بالنسبة إلى حفيد الحاج معطي، كان هذا سخيفاً. يفتقر إلى الكرامة. بصراحة، هذا لا يشبه شيئاً.

قرّر، الآن وهنا، ألاّ يركب الطائرة بعد الآن.

حدث هذا في مكان ما، فوق بحر أندمان، ذات يوم اثنين، في مطلع إحدى الألفيات.

كانت هذه بداية النهاية بالنسبة إلى المهندس سجلماسي.

لدى وصول آدم إلى الدار البيضاء، تسلّم حقيبته وتوجّه نحو مخرج المطار.

كان الجوّ ساحراً في أول أيّام الربيع هذه. وقف على الرصيف أمام صالة المطار ورفع بصره نحو السماء الزرقاء التي لا تعكّرها

أدنى غيمة، باستثناء خطوط بيضاء عالية جداّ، خلفتها النوارس المعدنيّة. رمش بعينيه كي يعتاد نور بلاده. لم تكن بالتأكيد مثل سماء آسيا.

سماؤنا ليست سماءهم.

انقضّ عليه حشدٌ من سائقي سيّارات الأجرة. واحد يطالب بالحقيبة وكأنها ملكه، الآخر يعده بسيّارة أكثر راحةً، واكتفى الثالث بالتعلق بكمّه. تخلّص منهم قدر المستطاع مردّداً أنّ معه سيّارة وأنّها بانتظاره في الموقف. لم هذه الكذبة؟ بدا له أنّ هذا ما يتعيّن عليه قوله، لأنه كان أقرب إلى المعقول من القرار الذي اتخذه للتوّ: سوف يمشي حتى الدار البيضاء.

كانت هذه نيّته في كلّ الأحوال. هكذا غادر المطار ونزل منحدراً طويلاً، وأخذ يسير على جانب الطريق وهو يجرّ حقيبته ذات العجلات، وبعد قليل بلغت سرعته أربعة كيلومترات في الساعة.

خلال سبعة ملايين سنة، ولوقتٍ طويل، لم يتجاوز هذه السرعة أيّ مخلوق يمشي على قائمتين أو أي إنسان عاقل. قياساً بملايين السنين، كان ضمن المعدّل. كان الهواء الملطّف بنسمة خفيفة تسخّنه في الوقت نفسه شمسٌ لا ترحم. كم الساعة الآن؟ أعطته ساعة يده الجواب. حسن، سوف يكون في المنزل على العشاء..

back to top