اكتساب الثقة... منافعه وإيجابياته

نشر في 08-12-2016
آخر تحديث 08-12-2016 | 00:00
يشجّعنا مجتمعنا على التفكير بالمحيطين بنا، عن قرب أو عن بعد، وكأنهم مصدر تهديد يجب الابتعاد عنه. لكن ما سبب هذه النزعة الخطيرة إلى الانطواء على الذات؟ وماذا لو تجرأنا أخيراً على عيش حياة منفتحة ومبنية على الثقة؟
لا تكون علاقاتنا مع الآخرين متناغمة بقدر ما نتمنى دوماً. رغم نوايانا الحسنة، لا مفر من مواجهة الضغوط والصراعات وسوء التفاهم فنقع في مشاكل كان يمكن تجنبها.
تخضع اضطراباتنا لآلية متوقعة. لا بد من تحديد عناصر الصراع وعوامله المؤثرة ودواماته اللامتناهية لاكتشاف أنسب طريقة لتجاوزه وإقامة علاقات سليمة وإتقان التواصل لبناء روابط دائمة ومبنية على الثقة.

البداية من الطفولة

خلال أولى سنوات حياتنا، نتعلم أن نثق بالناس أو ننفر من الحياة عموماً ومن بعض الأشخاص خصوصاً. لذا تؤدي التربية والرسائل التي يلقّنها الأهل لأولادهم دوراً أساسياً في هذا المجال لأن الثقة جزء من الإرث الذي نتلقاه. يشاهد الطفل انعكاساً لهويته في نظرة الأشخاص الذين يعتنون به. إذا كان هؤلاء الأشخاص مبتسمين وواثقين من نفسهم ومدهوشين بذلك الكائن الصغير ويهتمون بما يفعله، سيتعلم الطفل أن يثق بالناس وبنفسه لأن الآخرين يعتبرون أنه يستحق هذا الاهتمام كله. لكن إذا بدا الشخص الذي يعتني بالطفل كئيباً وقلقاً ومرعوباً من المسؤولية التي يحملها تجاهه، فسيُكوّن الطفل نظرة خائبة ويبتعد عن محيطه تلقائياً. سيتعلم في هذه الظروف أن يتجنب الآخرين وقد ينفر من نفسه على اعتبار أنه لا يستحق ابتسامة صادقة من المحيطين به.

لكن يعتبر علماء النفس أن أحداً لا ينقل الثقة أو النفور حصراً. يحمل الجميع خليطاً من الظاهرتين معاً وينقلونه إلى الصغار. كي يكسب الطفل جرعة صحية من الثقة، يكفي أن تفوق المناسبات التي يتفاعل فيها الأهالي معه بطريقة إيجابية الظروف التي يضطرون فيها إلى التعامل معه بسلبية.

يمكن أن تترسّخ القابلية النفسية إلى التشكيك بكل شيء نتيجة خوف الوالدين وقلقهما من العالم الخارجي. لذا يجب أن تبقى التحذيرات الضرورية لحماية الطفل من أذى الآخرين معتدلة.

تداعيات قلة الثقة بالنفس

بشكل عام، تشتق قلة الثقة بالآخرين من غياب الثقة بالنفس. يعطي غياب حب الذات الذي يرتكز على التعاطف والاحترام عواقب مباشرة على علاقاتنا مع الآخرين. قد يُترجَم بقلة الثقة والشكوك ومشاعر النفور التي تنتج علاقات مبنية على حب التملك والتسلط أو على الشعور بالاضطهاد. إذا لم يحب الشخص نفسه، لن يتمكن من تطوير شعور الحب تجاه الآخرين لأنه سيسعى باستمرار إلى أن يصبح محبوباً وسيجد صعوبة فائقة في العطاء. حين يفتقر الشخص إلى الحب سيظن أنه لا يملك ما يقدمه، وحين يعطي من ذاته سيشعر بنقص معيّن. كيف يمكن أن يثق الشخص بغيره إذا كان لا يثق بنفسه؟

إذا كانت المشكلة تبدأ من الطفولة، يمكن إضافة تفسيرات أخرى إلى غياب الثقة عموماً. قد تجعلنا مصاعب الحياة ننفر من الآخرين. إذا تعرّضنا للخيانة من صديق أو زوج أو رب عمل، سيصعب علينا أن نجدد ثقتنا بالناس. سرعان ما تترسخ الشكوك وتصبح مزمنة. في أوقات الأزمة، سندرك أن الخوف من المستقبل يمكن أن يجعلنا نفقد الثقة بالحياة عموماً. هذا ما يحصل مثلاً في الشركات حيث يخشى الموظفون أن يخسروا عملهم. لذا تطغى في بيئة العمل مظاهر الضغط النفسي والإجهاد المفرط ويسود التوتر بين الموظفين. تشتق هذه المشاكل كلها من قلة الثقة. يبرز في هذه الظروف تحدٍّ أساسي يتجاوز حدود الذات لأن غياب الثقة ينعكس سلباً على فاعلية العمل ومستوى التنافس بين الشركات. لذا لا بد من تغيير علاقتنا بالعمل وتجديد الثقة بمحيطنا. تسمح هذه المقاربة بتغيير النظرة إلى الحياة المشتركة وتجديد طريقة إدارة الأعمال وإقامة حوار اجتماعي لتطوير مشاريع إيجابية وتغيير المناهج المدرسية لتعديل ما تتعلّمه الأجيال الجديدة.

نوعان من الشخصيات

تنجم مختلف التفسيرات العائلية والاجتماعية والاقتصادية عن فقدان الثقة عموماً لكنها لا تؤثر بجميع الناس لحسن الحظ. يمكن أن نميّز بين شخصيتين: فئة تعطي ثقتها مسبقاً وفئة تشكّك بالجميع مسبقاً. على مستوى الثقة، لا بد من إيجاد حل وسطي للتقدم في الحياة لأن العيش من دون الوثوق بأحد سيحوّل الحياة إلى جحيم، لكن يستحيل أن نثق بأيٍّ كان في الوقت نفسه.

يمكن أن نكتسب جرعة معتدلة من الثقة مع مرور الوقت. يجب أن نجيد تقييم الناس ونحدد درجة ثقتنا بهم في علاقات الحب والصداقة وفي العمل ووسط العائلة. تبرز من جهة الثقة التي نوليها إلى أصدقائنا والمقربين منا لدرجة تجعلنا نأتمنهم على أسرارنا، وتتكوّن من جهة أخرى الثقة بقدرة الناس على إتمام المهام أو الثقة بنصائح الآخرين وتوجيهاتهم. لعيش سعادة حقيقية، يجب أن نعطيهم هذه الثقة لأننا سنعجز عن التقدم من دونها.

إذا كنا نعجز بطبيعتنا عن الوثوق بالآخرين، يجب أن نبذل الجهود اللازمة طوعاً للوثوق بهم من خلال تصرفاتنا، ويجب أن نعتبر حرية الناس أساساً لأي تضامن حقيقي وأي روابط إنسانية قيّمة. باختصار، يجب أن نثق بنفسنا وبالحياة قبل أن نتمكن من الوثوق بالآخرين!

back to top