الديكان والموسيقى ودار الآثار

نشر في 07-12-2016
آخر تحديث 07-12-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي لا شيء يدلّ على إبداع الفنان بقدر استمراره في تقديم أعمال جديدة، وبقدر ما يكون التميّز سمة لهذه الأعمال. عرفت الموسيقار سليمان الديكان منذ بداياته، يوم كان شاباً يتعاون مع الموسيقار البولندي سيزاري، ومنذ ذلك الوقت، كانت الموهبة والإخلاص للموسيقى سمتين بارزتين في كل ما يقوم به الشاب الصغير. وكان جميع من يراه يردد: هذا الشبل من ذاك الأسد، في إشارة لوالده الملحن المبدع غنام الديكان، والذي سطّر مع المطرب القدير "شادي الخليج" عبدالعزيز المفرج، أجمل ما تحفظ الذاكرة الكويتية من أغان شعبية وتراثية، يوم كان الفن الموسيقي الكويتي جرساً لا يتوقف عن الرنين اللافت، في أرجاء الخليج والوطن العربي.

مشى الديكان الشاب في درب عشقه، وظل وفياً للموسيقى في أبهى صورها، ولحين حصوله على شهادة دكتوراه دولة من الفئة الأولى في الموسيقى، في العلوم الموسيقية والتأليف والتوزيع الأوركسترالي من جامعة الروح القدس الكسليك في الجمهورية اللبنانية عام 2005.

دار الآثار الإسلامية، وضمن موسمها الثاني والعشرين، احتضنت الأمسية الأخيرة للموسيقار سليمان الديكان، وكانت بعنوان "دساتين"، حيث قدم الديكان ثماني مقطوعات موسيقية، خلط فيها بين الموسيقى الأوركسترالية، والتراث الموسيقي الشعبي الكويتي، بوصفه مفردة نوتة موسيقية يمكن للموهوب أن يسخرها لتكون جزءاً مهماً ولافتاً ومنصهراً في نهر الموسيقى العالمية.

كان واضحاً اهتمام الديكان وخوضه في التراث العربي الإسلامي الموسيقي، وكان جلياً أيضاً حضور الهم الوطني العربي الإنساني في صلب القطع الموسيقية. فلقد بدأ الديكان أمسيته بمقطوعة "الهجرة" وفيها استحضر اللحن الذي يسكن ذاكرتنا مردداً كلماته؛ "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا ما دعا لله داع". وهنا تجدر الإشارة إلى استلهام الديكان للتراث وتقديمه عبر آلات موسيقية غربية ونوتة موسيقية لا تحتمل أي خطأ، وكل ذلك يأتي متداخلاً مع الآلة العربية التراثية "الدف"، ويأتي مكللاً بلحن يسكن ذاكرة المسلم والعربي وبترديد غنائي بمسحة كويتية آسرة.

إذا كان الديكان قد بدأ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ما لبث أن يمم بالنوتة الموسيقية نحو "المنمنمات" وما فيها من تكرار خلاب، وتداخل يصعب فك رموزه. فالمنمنمات جزء أصيل من التراث العربي المعماري، انتشر على امتداد الحواضر العربية، من الشام إلى بغداد، وصولاً إلى غرناطة الأندلس الساحرة، ومن ثم فإن استلهام فكر المنمنمة والاشتغال عليه موسيقياً يظهر مدى عشق الديكان لبصمة التراث الإسلامي العربي، وسعيه إلى استحضاره خوفاً عليه من المحو والاندثار. وربما هذا ما حمل الديكان إلى مقطوعته المعنونة بـ "الوشاح".

ما يُحسب للديكان هو أن بحثه واهتمامه واشتغاله بالتراث الموسيقي والمعماري والإنساني لم يبعده عن روح تراث بلده الكويت الموسيقي، فهو نشأ في حضن موسيقار، وعاش عمره في بيت لا يكاد يخلو يومياً من فن "الصوت" أو "السامري" أو "اللعبوني" أو "النهمة" أو "النكازي" وغيرها من أنواع الغناء الموسيقي الكويتي.

لقد كان ختام أمسية الديكان كأجمل ما يهزّ القلب، وذلك حين تتداخل الموسيقى المحلية مع العالمية، في تجانس خلاب! وكم تفاعل جمهور الأمسية مع مقطوعة "يا مرحبا"، وبعدها "الحمد لمن" للراحل عبدالله الفرج.

بقي أن نشير إلى الجهد الوفير الذي تبذله دار الآثار الإسلامية، سواء عبر محاضراتها الثقافية، أو عبر برنامجها الموسيقي، الذي يقدم الأماسي الموسيقية الراقية، ببعدها العربي والعالمي، قد خلق معه جمهوراً متابعاً وعاشقاً لثمار الدار اليانعة.

تحية من القلب للصديق العزيز الدكتور الموسيقي سليمان الديكان، وتحية أخرى لدار الآثار الإسلامية، بوصفها مؤسسة ثقافية تصرّ على تقديم المختلف واللافت.

back to top