أسرار الإمارات

نشر في 04-12-2016
آخر تحديث 04-12-2016 | 00:11
 ياسر عبد العزيز في مثل هذه الأيام قبل 45 عاماً وُلدت دولة الإمارات العربية المتحدة، إثر مخاض صعب، تنازل خلاله عدد من القادة المحليين عن جزء من سيادتهم على أقاليم محدودة وضعيفة، في مقابل الانضواء ضمن دولة اتحادية أكثر اكتمالاً ووفاء بمتطلبات العصر، وأكثر قدرة على البقاء والازدهار. بعد 45 عاماً يدرك هؤلاء القادة أنهم اتخذوا القرار الصحيح لمصلحة شعوبهم وأمتهم العربية، وهم يتابعون ما يجري في دول شقيقة من نزاعات وانهيارات وتفكك، ويبدو أن عزمهم على الثبات على قيم الاتحاد يتعزز. لم تعدم الدولة الوليدة، مع بزوغ عهدها، أسباب الشقاق والخطر، لكنها مع ذلك، مضت بثبات، وعبرت أزمات، وتفادت مشكلات، وأظهرت نضجاً في التعاطي مع تطورات مذهلة؛ أطاح بعضها عوالم دول ظلت غالبة ومتماسكة لعقود.

لا يهدف هذا التحليل إلى الاحتفاء بالعيد الوطني للإمارات، لأن أدوات الدولة الاتصالية الفعالة، ومكانتها في الإقليم، وشواهد تقدمها، كافية لصناعة الفخر بهذا الإنجاز. ليس هذا فقط، لكن السطور المقبلة لن تُعنى كذلك بمحاولة رصد عناصر الإنجاز وسرده في إطاره المقارن؛ إذ تكفلت آلاف المقاربات بذلك؛ حتى بات اسم الإمارات "ماركة" ذات طابع خلاب على المستوى الدولي، وتصدرت الدولة قوائم التفوق، مع النمو المطرد في مؤشراتها الحيوية، ومع المكانة الصاعدة المستندة إلى دعائم.

ما يمكن أن تضيفه مقاربة مسؤولة في هذا الصدد ليس سوى محاولة لتقصي الأسباب التي أثمرت هذا الإنجاز؛ وهي أسباب ذات خصوصية بالغة، لانتمائها إلى الثقافة المحلية من جانب، ولتوافرها وتفاعلها وتناغمها مع بعضها من جانب آخر.

لن يكون النفط وعوائده المتدفقة أحد هذه الأسباب على أي حال؛ لأن دولاً أخرى نعمت بعوائد أكبر، ولم تجن بسبب سوء إدارتها لها نمواً أو مكانة أو استقراراً، كما أن حداثة العهد، وقلة عدد السكان، والتوازنات الإقليمية كلها عوامل يمكن أن تكون سلبية أو إيجابية، كما أخبرنا تاريخ المنطقة، ولا يمكن حسابها باعتبارها دوافع إيجابية إلا من خلال القدرة على التعامل معها واستخدامها لتحقيق المصلحة الوطنية.

سيمكننا أن نلخص الأسباب التي قادت الإمارات إلى ما باتت عليه الآن، وما يمكن أن تبلغه غداً، في ستة عناصر، سنسميها "أسرار الإمارات"، على النحو التالي:

أولاً: الحوكمة

والحوكمة خليط من السلام والنظام والعدل، وإخضاع الأداء العام إلى التقييم المستمر، وربط السياسات بالإنجاز، مع قدر مناسب من المساءلة والمحاسبة ومحاربة الفساد. يعرف قادة الإمارات الحاليون هذه المعاني جيداً، ويعتبرون أن جزءاً جوهرياً من شرعيتهم مستمد من قدرتهم على مقابلة توقعات مواطنيهم.

ثانياً: الجدارة الرؤوفة

وتلك بالذات، يمكن تسميتها بـ"وديعة زايد"؛ ذلك القائد الفذ، الذي لم يكتف بإرساء دعائم الاتحاد، وتقديم الدولة إلى المجتمعين الإقليمي والدولي، لكنه أضاف إلى ذلك إلهاماً يبدو أثره ممتداً بلا انقطاع؛ وهو إلهام تحول إلى سياسات وثقافة حكم، تلتزم باختيار القيادات الأكفأ والأكثر نزاهة. ورغم أن الصناديق لا تؤدي دوراً في حسم هوية القيادة، فإن الحكم يتولى الفرز السليم، لانتخاب عناصر الجدارة، ومنحها أسباب العمل، لتحقيق الأهداف.

ثالثاً: التخطيط الاستراتيجي

سيمكن استشراف التحولات التي تقع في سياق عملية التنمية الإماراتية قبل وقوعها بسنوات، ورغم أن تلك التحولات فارقة وبعضها مذهل، فإن أحداً لا يندهش حين تقع. السبب يكمن في أن سياسات التنمية المختلفة تنطلق من استراتيجية؛ معظمها معلن ومدروس، وبعضها يتم التداول بشأنه، وبناء التوافقات عليه. يحشد التخطيط الاستراتيجي الجهود، وينظم استخدام الموارد، ويضمن تعبئة الطاقات الكاملة، والأهم من ذلك أن السياسات كلها تنتظم لإدراك هدف أعلى.

رابعاً: الالتزام المعنوي

يعد الالتزام المعنوي الذي تبديه السياسة الإماراتية، خصوصاً في الملف الخارجي، من ميراث الوالد المؤسس "الشيخ زايد"، ويمكن تلخيص عناصر هذا الالتزام في ثلاث نقاط؛ أولها الوفاء القومي، وثانيها احترام سيادة الآخرين، وثالثها المشاركة البناءة.

خامساً: الطموح المحسوب

رغم الحرص على إدامة الإنجاز وصناعة الدهشة، فإن التحسب يظل عنواناً للكثير من السياسات. وينطلق هذا التحسب من إدراك لكتلة الدولة الحيوية، والعمق الاستراتيجي الذي تستند إليه، وصناعة سياسات تتوازن مع الضغوط والقيود والمخاطر، ولا تخطئ في حساب تأثيراتها.

سادساً: معدن المواطن

تبدو الشخصية الوطنية الإماراتية أكثر تجاوباً مع متطلبات النهضة، وبوصفها عملية لا يمكن أن تحدث إلا من خلال قدر من المشاركة بين الحكم والمواطنين، وقدر من الشرعية تحظى به القيادة، وقدر من التوافق المجتمعي، والتسامح، وقبول الآخر، فإن الإنسان الإماراتي أظهر أنه أحد أهم هذه الأسرار التي قادت البلاد لما باتت عليه.

تلك الأسرار الستة تفاعلت في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية، فأنتجت طفرة حضارية، حملت الإمارات إلى قمة قوائم الإنجاز، لكن الحفاظ على هذا الزخم، وصيانة تلك المكانة، تحتاج تعاطياً حذقاً مع عدد من العوامل التي تطرح بعض التحديات.

من بين المشكلات التي يجب العمل على احتواء أثرها، قضية التركيبة السكانية، بما تقتضيه من ضرورات الموازنة بين مطالب التنمية المتزايدة، واستحقاقات الحفاظ على الهوية، وبناء قوة العمل الوطنية.

من القضايا المثيرة للاهتمام كذلك، مدى قدرة القيادة على الموازنة بين الطموح الإقليمي وعواقب النزعات التدخلية، وفي هذا الصدد سيكون قادة الإمارات مسؤولين أيضاً عن تشخيص دقيق لحدود الأمن القومي لبلادهم، وتحديد صارم لما يمكن أن تتطلبه صيانة الأمن القومي من أنشطة وجهود في دول الجوار، أو الدول الأبعد.

بسبب النمو الاقتصادي المطرد قد تتزايد معدلات التضخم، لكن القيادة تحرص على توفير شبكات أمان ودعم اجتماعي فعالة للمواطنين والمقيمين في كل الأوقات، وبسبب التنمية المطردة، بمفهومها الشامل، سيزيد الطلب مستقبلاً على المشاركة السياسية، وهو طلب سيحتاج بدوره شبكات أمان سياسية، تأخذ البلاد إلى توسيع رقعة الديمقراطية بخطوات محسوبة.

تحتفل الإمارات تلك الأيام بعيدها الوطني الـ45، وقد صارت دولة مُلهمة لشقيقاتها، ودرساً يمكن لكثير من الدول أن تستفيد من تقصى أسراره.

* كاتب مصري

back to top