حبر وورق

نشر في 03-12-2016
آخر تحديث 03-12-2016 | 00:02
No Image Caption
دبي صنعاء والعودة

طريق الحرب

جاؤوا لقتلي: هل أعدُّ

لهم، رياحيناً وَفُلّا؟

هم بعض أهلي فليكن

هيهات أرضى الغدر أهلا

تأبى حمام اليوم أن

تلقى صقور النار عزلى

الفاتحو باب الردى

لا يملكون الآن قفلا

1

احتجبتْ الشمس خلف بعض السحب، وصنعاء تجري خلف زجاج نافذة الحافلة، مدينة منهكة وخائفة من الظلام الذي يقترب. الوقت مغرب، والحافلة تشق طريقها وسط الأسواق المتناثرة على امتداد الطريق الإسفلتي الذي يقودنا إلى مأرب، تخفّ سرعتها فجأة، وتثب بقسوة على المطبات العشوائية، ثم يعود محركها إلى هديره العالي مع تصاعد سرعتها من جديد، كأنما تطارد شيئاً ما، أو ثمّة ما يلاحقها.

استرخيتُ على المقعد، وأمَلْتُ رأسي باتجاه النافذة؛ أتأمل حركة الناس في الشوارع وخطاهم على الأرصفة... عربات الباعة الجائلين، اللوحات الإعلانية، السيارات المتوقفة والمتحركة، البنايات المتفاوتة والفراغات التي بينها، مشهد لا يمكن تفويته في أي رحلة سفر برية. منذ كنت في السابعة، حين زرت صنعاء للمرة الأولى، وقفتُ مذهولاً بقامتي القصيرة داخل سيارة البيجو، ووجهي ملتصق بزجاجها؛ أتأمّل العالم الجديد خارج القرية.

منذ ذلك اليوم وأنا وفيٌّ لعادتي في توديع المدن أو دخولها، متعة جديدة في كل مرة أعيد فيها اكتشاف العالم الذي يتحرك خلف زجاج السيارة، تحدّق عيناي إلى نقطة ما مثل عدسة ثابتة، فتعبر المدينة وأشياؤها، والناس ووجوههم، في بصري مثل فيلم. ويعلق بذاكرتي بعض الومضات؛ أنف معقوف لرجل يسحب طفلاً شقيّاً من يده، نظرة فضول في عين فتاة صغيرة، لوحة إعلانية بألوان كئيبة... تسلسل متتابع للحياة والحركة، يقدم لك تقريراً مختصراً للمدينة، ولمزاجها، وكيف تنوي أن تستقبلك أو كيف تودّعك!

لا أتذكّر مرة واحدة غادرت فيها صنعاء وأنا أشعر بالفرح، الحزن كان رفيق الدروب التي تأخذني بعيداً عنها، كانت صنعاء تقود حياتي بساحرية المدن المعتّقة؛ المدن التي تسكنك وتعرّفك إلى العالم الخارجي من حولها. كانت صنعاء آخر العالم، وسدرة المنتهى، وكان الشخص الذي يعجز عن التصرف، أو يفتقد اللياقة، وتخونه المعرفة في الإجابة عن أسئلة أطفال القرية، نصيح في وجهه: «هيا، قد سرت صنعاء!»، لم نكن نتخيل أن الذي يذهب إلى صنعاء سوف يسيء التقدير، أو يتصرف بغباء، ولن يعجز عن الجواب تجاه أي شيء في الحياة.

في زمن ما بعد الحليب، ارتبطتْ صنعاء في ذهني بالتعرف إلى الاختراع اللذيذ: «الآيس كريم»، وأصوات الطواحين ومضخات المياه، والمسابح الصغيرة، ودراجة ابن عمي عصام التي تضيئ مصباحها أكثر عندما يزيد سرعته في الحارة الترابية، وأنا أجري خلفه بفرح لا يُوصف، الدبابة التي تتوسط ميدان التحرير، الشوارع والأرصفة المستوية، الشاورما اللذيذة في باب السباح، الملابس المعروضة بأناقة، إعلانات أفلام السينما المعلّقة بالقرب من المتحف الحربي بسيقان الممثلات العارية.

كبرتُ قليلاً، وكبرتْ صنعاء بداخلي أكثر، سنوات مدرسة خالد بن الوليد في شارع العدل، ومدرسة جمال عبد الناصر في التحرير، الألعاب الحديثة في حديقة الثورة، الأصدقاء الجدد وشغف كرة القدم، بداية تشكّل الأسئلة المحيِّرة عن الثراء والنفوذ، وعن السلطة ورجالها، السحر المتجدد في صنعاء القديمة، والخيالات العذبة خلف الشبابيك العتيقة.

تتراجع صنعاء خلف زجاج النافذة، ويبتلعها الظلام.. تشتعل في رأسي الذكريات؛ العوز والحاجة اللذان داهما العائلة بقسوة مع عودة أبي وعمي من السعودية مع حوالي مليونَي مغترب يمني نتيجة تدهور العلاقة بين الرياض وصنعاء بسبب موقف الأخيرة من غزو العراق للكويت، واليوم الأول الذي ذهبت فيه إلى وسط العاصمة للعمل، وليس للفرجة، لون المفرش الأسود الذي بسطُّهُ على يمين باب محل الشطفة الشهير، عدد (ميداليات المفاتيح) التي عرضتُها للبيع.. رائحة الغراء المتصاعد من القطع الخشبية المنقوش عليها أسماء الزبائن وحبيباتهم وأصدقائهم.. وكيف أنِّي كل مرة أعود فيها إلى صنعاء، أذهب إلى المكان نفسه، أتحسّسُ الحجارة والشقوق بينها، وأطمئن إلى أنني لم أعد مضطراً إلى الجلوس تحت واجهة عرض زجاجية، تسخر الأحذية الفخمة بداخلها منِّي ومن بضاعتي كل يوم.

لا أتذكّر بعد تلك الأيام أنني توقفت عن العمل، ولم يفارقني الشعور بالتعب حتى الآن، ولا السؤال إن كانت الحياة تستحق كل هذا العناء أم لا؟ رغم ذلك بقيتْ صنعاء بداخلي مدينة خالدة؛ لا تُهزم ولا تغيب.

منذ شهور قليلة، بدأ عالَم صنعاء يتداعى، تحوّل إلى شيء آخر له ملامح مشوّشة، ظلال سود للمدينة التي كانت مدينة، تحوّل المكان الأثير بعد اقتحام الحوثيين لها قبل ستة أشهر إلى مجرد شوارع وبنايات كئيبة وبائسة، واكتسبتْ صنعاء بداخلي حساسية البيوت التي تكتشف فجأة أنك لم تكن سوى ضيف فيها، وقد ضاقت بك، ولم تعد تستقبلك كما فعلت قبل سنوات عدة خلف زجاج سيارة البيجو العتيقة، انسحب الدفء منها، هربتْ الذكريات، بعدما طغى الوجه المتجهّم لعبد الملك الحوثي على ملامح المدينة كلها؛ الرجل الذي يسعى أنصاره وبشراسة إلى إخراجها من قلوب ساكنيها، وإدخال البلاد المنهَكة إلى جولة صراع جديدة.

2

بدأتْ الأسواق الشعبية تقلّ تدريجياً على الطريق الذي يتلوّى صاعداً (نقيل ابن غيلان)، الجبل الشهير الذي ارتبط في أذهان اليمنيين بالمكان الذي تتعرض فيه خطوط نقل الطاقة الكهربائية إلى التخريب، وعلقت في ذهني دعوة الرئيس السابق صالح سفراء الدول الأوروبية إلى زيارة هذا النقيل في غمرة الاحتجاجات الشعبية ضده العام 2011.. لا أتذكّر الآن لماذا طلب منهم ذلك؟ والأرجح أنني لم أكن أعرف لماذا حدث ذلك!

أنهيتُ مكالمات هاتفية مختصرة مع الأهل الموزّعين على مدن وقرى عدة، تحدثوا إلي وكأنني ذاهب إلى المعركة، دعتْ لي أمي كثيراً وهي تسأل الله أن ينجيني من الحوثيين والقاعدة، لم تكن قلقة عليّ من شيء آخر قدر قلقها من الرجال «المجاهدين»، وأمي بالمناسبة امرأة من القرية، لكنها تعرف الله على طريقتها، تعلمتْ القراءة في وقت متأخر على يد أبنائها، وهي تقول دائماً إن الله يحب عباده جميعاً، ولا يمكن أن يكون في تعاليمه ما يجعلهم مجرمين، أو يتقاتلون فيما بينهم.

توقف الطريق عن الصعود، وبدأ يتلوى نازلاً في منعطفات خطيرة، سلّمتْ الحافلة بعد دقائق إلى سهل فسيح. توقفنا فجأة، وتحلّقت مجموعة من الأطفال حول باب الحافلة في انتظار نزول الركاب؛ أطفال لا يتجاوز بعضهم العاشرة يحملون أكياساً من القات يعرضونها على المسافرين، ويتوددون لهم من أجل شرائها. لم نتأخر كثيراً، عاد السائق الشاب إلى عجلة القيادة بعد أن «شفط» دخان سيجارتين، أشعل أضواء الحافلة وانطلقنا من جديد.

خيّم الليل، وتوارت الأشياء على جانب الطريق في قلب الظلام، سحبتُ رواية «فرانكشتاين في بغداد» من حقيبة الكمبيوتر، وذهبت إلى الصفحة التي توقفتُ عندها عندما بدأتْ طائرة الخطوط الجوية اليمنية الهبوط في مطار صنعاء قبل نحو عشرة أيام، كان الوقت قصيراً لإكمال الرواية خلال رحلة جوية لا تستغرق سوى ساعتين ونصف الساعة من دبي إلى صنعاء، الآن عندي فائض من الوقت، وطريق طويل، ورفيق جديد اسمه «فرانكشتاين».

أعادتني بطاقة الصعود إلى الطائرة المحاصرة بورقتين في الثلث الأول من الرواية إلى تلك اللحظة التي اشتدت فيها قبضة الراكب جواري على معصمي وعجلات الطائرة تلامس مدرج الهبوط في صنعاء، ارتختْ قبضته بعد لحظات وهو يلتفت نحوي بابتسامة متوترة، حامداً الله على سلامة الوصول. كانت تلك هي المرة الثالثة التي أزور فيها صنعاء منذ سيطرة الحوثيين عليها أواخر سبتمبر 2014، وهي المرة الوحيدة التي شاهدت فيها تغييراً حقيقياً في صالة استقبال المسافرين في مطار صنعاء؛ كانت تبدو أوسع من المرة الأخيرة التي مررت بها.. أزيل بعض الجدران الفاصلة، وغدتْ الصالة رحبة وفسيحة، بعكس المدينة خارجها، التي تبدو ضيّقة ومتوترة بفعل الاضطرابات الهائلة التي تعصف بالسلطة والحياة السياسية من دون بوادر أمل بالانفراج.

كنت مهتماً – بحكم عملي – بملاحقة الأخبار والأحداث، لكن زياراتي المتكررة إلى صنعاء لم تكن لهذا الغرض، وحده الحنين إلى مجلس العم قاسم والمقيل فيه مع الأصدقاء هو ما يشدني إلى صنعاء والطيران إليها، وفي الغالب لم تكن تلك الزيارات القصيرة تستغرق أكثر من ثلاثة أيام، أو يومين، دائماً خلال الإجازة الأسبوعية التي أستغلها عادة في السفر، وهي عادة سيئة عند الحريصين من عائلتي على توفير ثمن قطعة الأرض، أو بيت في صنعاء، مثلما يفعل كل المغتربين، لكنني، وفي كل مرة، كنت أجد العذر الكافي لداعي السفر أمام زوجتي ليلى التي تبتسم عند كل عذر، أو أمي وأبي اللذين لديهما القابلية العجيبة للاقتناع بأي سبب يجعل من أمر السفر شيئاً طارئاً يتجاوز المقيل والأصحاب في مجلس العم قاسم.

الأعتاب

سحابة عباءة شفافة من الرطوبة والحرارة تجرّها شمس صلالة في قيظها وهي تنزاح للغياب. المدينة القابعة في جنوب عُمان على ساحل بحر العرب لا تزال تحبو في بداية سبعينيات القرن العشرين كأنها خارجة من التراب. البيوت الطينية المتجاورة بنوافذها الصغيرة تمسح جدرانها بصفار الشمس. الأزقة بينها كأنها تتربّص بالمارّة لتُلصق ترابها الرطب بين شقوق أقدامهم. المدينة وسكانها توقفا عن التطوّر منذ مئات السنين كأن المدينة معزولة عن العالم في دائرة زمنية من جبروت الرتابة لم يتخللها سوى نموّ الأشجار والأطفال. مستهيل يقبع على عتبة بيتهم الصغير نصف عارٍ إلاّ من الإزار وسحنته السمراء تعكس ضوء الشمس على جسمه المتعرق.

مستهيل ذلك الشاب الثائر الممتلئ حتى النخاع بالاشتراكية وبثورة الرّفاق الأحرار سلّم نفسه إلى الحكومة التي قاتلها بكل جوارحه لأربع سنوات! سلّمها ليعود مواطنا ًبسيطاً يسكن مع والدته وأخيه الصغير في بيتهم الطيني على مشارف الساحل.

كان مستهيل قد عاد لتوه من البير (المزرعة) وجلس ليستريح على عتبة البيت لعلّ نسيماً بحرياً يمرّ فيخفف من حرارة جسمه ويجفف عرقه. الشارع الترابي أمامه لا يقطع هدوءه إلا بعض سيارات اللاندروفر المكشوفة وتراكض أطفال الحي خلفها، وأحياناً تمرّ شاحنات البيدفورد الإنجليزية سواء كانت عسكرية أو مدنية لتشكّل أمواجاً من الغبار الذي يظل متشبثاً بمكانه في الهواء مستغلاً موت الريح. «يا مستهيل أدخل وإلا ستمرض من شمس العصر» نادته والدته من الداخل. دخل ورمى بأدواته جانباً واتجه إلى الحمام. أفرغ دلوين من الماء على جسمه ثم خرج ليستعد لصلاة المغرب وهو الذي مرّت عليه أربع سنوات لم يصلِّ فيها ركعةً واحدة! تركها مقتنعاً أن الدين هو الأفيون الذي بسببه تستعبد الشعوب الحرّة، وأن درب النضال والكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للخروج من قيد الأديان والحكومات الاستعمارية والرجعية. لكنه حين عاد كان أول مكان توجه له الجامع حيث اغتسل وظلّ أياماً فيه قبل أن تذهب إليه أمه وتقنعه بالرجوع إلى البيت. مرّت قرابة الشهرين منذ عودته. لا أحد يعلم لماذا عاد فجأة! الحكومة رحبت بعودته. الناس يشككون بها. إنما الجميع لا يفهم ما الذي يجعل مناضلاً معروفاً وعضواً في الحزب يتخلى بكل هدوء عن تاريخه ومنصبه النضالي في الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج ويقول إنه يريد أن يعود مواطناً إلى بيته ومزرعته! كانت عودته لغزاً كما كان هو صامتاً كأنه لم يبق من ثورته إلاّ التمرد على الكلام.

صلى المغرب وخرج مع الناس يتفقد نعله. سلم عليه أحد جيرانه «ابن الخالة كيفك؟». ردّ عليه مستهيل ببرود «الحمدلله». ثم تركه واقفاً وذهب باتجاه الشاطئ فيما وقف أحدهم يسأله عن حالة العفّار (وكان هذا لقبه) «والله لا نعلم ماذا فعلت به الجبهة الشيوعية. أعانه الله... مسكين!» قالها بصوت مزج فيه الغضب والشماتة.

مستهيل منذ عودته وهو يجلس كل ليلة بين صلاة المغرب والعشاء على رمل الشاطئ مستقبلاً بحر العرب حتى يؤذن لصلاة العشاء. يقول أهل المدينة إن والده علي أبو بكر التويجاني وُجد على الشاطئ وهو شاب غائباً عن الوعي في نفس هذا التوقيت من القيظ. لا يعرف أحد عن ماضيه شيئاً سوى اسمه. كان متعلماً ويتحدث معهم بحديث فصيح ككلام القرآن! وبلهجة عربية غريبة على أهل صلالة ظلّ محتفظاً بها حتى مات. علّم الكثيرين من أهل حارته القراءة والكتابة وختم القرآن. كان حين يسأل عن ماضيه يقول: “تلك أمة خلت” وحتى حين وفاته وكان مستهيل صغيراً وقف عليه خال مستهيل وطلب منه أن يخبره فهذا حق ابنه عليه، كان جوابه غريباً! ابني إذا أراد... سيعرف».

بعد صلاة العشاء جلس مستهيل صامتاً في بيته أمام عشائه المؤلف من الأرز والربيس (وجبة بحرية). نظرت إليه أمّه وقد ملأ عينيها الحزن والخوف على بكرها. تريد سؤاله لكنها تخاف أن تفقده وما أسهل ذلك، فقد غادرهم قبل سنوات دون أن يودعهم وعاد دون أدنى رغبة في الحياة.

- يا مستهيل ما بك؟ الدنيا يا ولدي لا تستحق هذا الحزن.

نظر إليها:

- أنا بخير يامّه، ولا تشغلي نفسك.

ثم سأل عن خاله، ولأنها كانت تنتظر حديثاً منه، نثرت لعدة دقائق حديثها الذي تعيده عليه كلما سنحت فرصة، كيف أن أخاها أصبح من أعيان المدينة وكيف كبرت بنت خاله خديجة وأصبحت جميلة. مستهيل ينظر إلى والدته مبتسماً ليشعرها باهتمامه لحديثها إلاّ أنه كان سارحاً في عالم آخر وبعد حديثها المفعم بالحياة آملة أن يعيد إلى مستهيل ولو بارقة فرح في عينيه قام مستهيل واستأذنها ودخل للنوم. وكروتينه اليومي قام قبل صلاة الفجر بساعة وجلس منتظراً الآذان. الوقت يمر بطيئاً بشكل خانق فبعد حياة الإثارة والمعارك، تبدو كل دقيقة تمرّ عليه كأنها تزحف في مستنقع. بعد الصلاة رجع إلى البيت وشرب قليلاً من اللبن والماء واتجه إلى الغارف (مزرعة أو مجموعة مزارع). المنظر بديع في الصباح وهذه اللحظات هي أجمل ما في حياة مستهيل الجديدة. فهو يشعر وهو يمشي في المقيف بأن كل نخلة نارجيل وكل شجرة موز وفافاي تتناجى مع بعضها به. حتى الأعشاب على ضفة الساقية يشعر بأنها تجتهد في محاولة تسليته عن همه. ليس هناك أقوى سحراً من شمس صلالة صباحاً وأنت تسمع بحر العرب من فم ساقية!

بدأ مستهيل بالعمل. أولاً نظف المطائر من الأعشاب، وهي مساحات مربعة مخصصة لزراعة الأنواع المختلفة من المحاصيل. ثم بدأ بتنظيم السواقي فكل مطيرة لها كمية مياه محددة بالوقت. في الضحى قعد قليلاً. الصمت قاتل هنا إلاّ في رأسه الذي يسمع كل لحظة زخات من طلقات الرشاش وحشرجة المدافع وأصوات الرفاق. أما حوله فلا صوت إلا من ورقة يابسة تحركها نسمة عابرة أو من طائر يبحث عن رزقه. قطع السكون وقع خطوات تتقدم ناحيته، كان أخوه الصغير عبدالله قد أتى ليخبره أن خاله يطلبه لوجبة الغداء.

عاد مستهيل إلى البيت ظهراً ثم اتجه إلى الجامع. عند خروجه رافق خاله سالم. كان خاله سالم مزارعاً بسيطاً قبل وصول السلطان قابوس للحكم، لكنه أصبح مقرباً للحكومة الآن. مستهيل لا يعرف السبب ولا يريد أن يعرف. المهم أنّ خاله أصبح ميسور الحال وكلمته مسموعة بين الناس، وهذا الأمر يسعد أمه كثيراً لذلك هو لا يمانع.

اصطحبه خاله إلى بيته المؤثث أثاثاً حديثاً ودخل معه المجلس. كان الجو بارداً وذلك لأن خاله اشترى مكيفاً كهربائياً ظلّ أهل الحارة يتحدثون عنه مدة طويلة. وبعد غداء دسم لم يأكل منه مستهيل إلا اللمم طلب خاله من أهل البيت الخروج من المجلس ليتحدث إلى ابن أخته:

-مستهيل أنا لم أعد قادراً على إبعاد المخابرات عنك، منذ شهر وهم‏ يطلبون مني إحضارك اليهم لكي يتحدثوا إليك.‎

back to top