حكاية أسيل

نشر في 26-11-2016
آخر تحديث 26-11-2016 | 00:00
No Image Caption
حكاية أسيل

وائل وأسيل

ما بين خطواتٍ متسارعة ونظراتٍ حادّة، وأصواتٍ عالية، ونبرةٍ يكتسحها الغضب، وكلماتٍ تتلاشى هنا وهناك، اتّجه وائل إلى بيته، ومن خلفه زوجته أسيل مع طفلتهما الصغيرة مروة ذات السنوات الأربع.

أسيل: وائل، اهدأ قليلاً كي نستطيع التفاهم.

وائل بغضب: كيف تطلبين مني الهدوء بعد ما حدث؟ لقد طلبت منك مراراً يا مدام الانتباه جيداً إلى تصرفاتك، فأنت امرأة متزوجة.

أسيل ودموع عينيها تأبى الصمود: وائل، أرجوك، يكفي اتهاماً، إلى متى ستظل تحاسبني هكذا؟

وائل يشيح بنظره عنها ولا يردّ عليها..

أسيل وهي تنظر إلى طفلتها مروة التي كانت نائمة في حضنها: سأضع مروة في سريرها وأعود إليك.

في الغالب هذا الحوار ليس بجديدٍ على جدران هذا المأوى الصغير، فقد اعتادت هذه الجدران المزينة بألوانٍ بهية ذلك الحوار المألوف باستمرار، هذا الصراخ الذي يوقظها من سباتها العميق، ويشتت أركانها وجوانبها، فتغدو ضعيفةً هزيلة لا تقوى على صدّ هجمات العواصف والأعاصير، فتتكاثر قوانين التنازلات وتنمو على صفير الأصوات العالية، فعلى الرغم من أن حياة كلٍّ من وائل طبيب التجميل الذي يحظى بثقة كثير من الناس، وطبيبة النساء والتوليد الدكتورة أسيل، حياةٌ جميلةٌ بكل ما للكلمة من معنى رائع وسامٍ، فزواجهما كان نابعاً من ينابيع الحب والعشق والغرام، ولكن تجري الأفكار أحياناً بما لا يشتهي القلب.

تعرَّف وائل إلى أسيل أثناء دراستهما الجامعية، عشق كل منهما الآخر إلى حدٍّ كبير، وكانت قصتهما مضرب المثل في جميع أنحاء الجامعة. لم يماطل وائل في التقدم لخطبة محبوبته أسيل حين أحس بنبضات قلبه القوية تجاهها، كان يراسلها بأعذب الكلمات، ويغازلها بأرقى قصائد الشعر، وعلى الرغم من أنها كانت لا تزال تدرس في الجامعة، لكنها وافقت على الزواج من وائل ومتابعة دراستها. لم يعكر شيء مسار هذا الحب، وكأن القدر حاول أن يجمع بينهما من غير منغصات أو متاعب كما نسمع عن بعض قصص الحب الأخرى.

ورد أحمر بروائح زكية، شموع تنير أوردة القلوب، وقصائد نزار قباني الغزلية، كلها عناوين مثالية لقصة وائل وأسيل، فجميع المستويات متماثلة إلى حدٍّ كبير في هذه القصة، سواء المستوى المادي أو الاجتماعي أو الثقافي، أي أنه لا دور لابن العم أو ابنة الخالة كي يضعا بصماتهما ويعكرا نهاية هذا الحب كما في الأفلام والمسلسلات.

كانت قصة حب جميلة، لا توجد فيها تحديات أو مطبات كثيرة، قادتهما إلى الزواج بسرعةٍ ويُسر وفرح جميل يحيطه الأهل والأصدقاء، ومن ثم أثمر هذا الزواج ولادة طفلة جميلة، زينت لهما الحياة وأهدتهما البهجة بابتسامتها العذبة وحركاتها الطفولية.. ولكن مسار الحياة دائماً ما تواجهه تعرجات مهما كانت قوة جذور الحب، وهذا ما كان يُنغّص على أسيل حياتها ويجعلها دائمة الخوف والحذر في تعاملها مع الآخرين، فزوجها وائل كثير الشك فيها، يحاسبها على جميع تصرفاتها مع الجنس الآخر أو بالأصح أدق تصرفاتها، فهو دائم الخوف من هجرانها له يوماً كي تتزوج من آخر، على الرغم من تأكيدها المستمر له بأنه حبها الأول والأخير، وأنه مهما يحصل فلن تفكر بأحدٍ سواه، فهي الآن امرأة تبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً، متزوجة ومسؤولة عن طفلة جميلةٍ، أي أنها لن تضحي بكل هذا من أجل رجلٍ آخر، ولكن وائل لا يفهم هذه الأبجدية، فهو دائم الخوف من شبح الفراق والخيانة.

وائل بغضب: لقد شاهدتك بعيني وأنت تبتسمين له.

أسيل بنفاد صبر: وائل، كنت معك ويدي بيدك حين خرجنا من المطعم، لقد ابتسمت لضحكات ذلك الطفل، وليس لذلك الرجل الذي لا أتذكر ملامحه.

• إذاً لماذا ابتسم هو لك؟

• ماذا دهاك يا عمري؟ هل يعقل أن تحاسبني على ابتسامة من حولي جميعهم، ما ذنبي أنا في هذا؟

وائل يشعل سيجارته ويبدأ باستنشاق الدخان السام، ربما كي يعاقب نفسه على طريقة تفكيره الدائمة بزوجته..

أسيل وهي تمسك بيد وائل بحنان وتجلس بجانبه: وائل، لقد تزوجنا عن حب وأنجبنا طفلة جميلة. لا تجعل الشك يدمر عائلتنا الصغيرة التي بنيناها معاً بكل حبٍّ وتفانٍ.

وائل ينظر إليها نظرة عشق، فهي حبه الأول والأخير: أسيل حبيبتي، إنني أحبك كثيراً وأنت تعلمين ذلك ولولا هذا الحب لما كنت أغار عليك.. سكت لثوانٍ ثم أكمل: إنني سعيد لأنك تعملين طبيبة توليد، وهذا يعني...

تقاطعه أسيل وهي تضحك: وهذا يعني أنني لن أحتك كثيراً بالجنس الآخر.. أليس كذلك؟ وبصوتٍ هامس: أنت أحبُّ إليّ من رجال العالم كله، وجودك أنت وابنتي إلى جانبي هو سعادتي الكبرى.

وائل بحب وهو يتلمّس خد أسيل: أسيل أنت جميلة، جميلةٌ جداً.

أسيل وهي تضحك: حين تقول لي هذا الكلام وبهذه النبرة، تجعلني أحس وكأنك لست وسيماً، أنت شاب وسيم لم تتعدَّ التاسعة والعشرين وطبيب تجميل ناجح جداً، لا أعلم لِمَ لا تثق بنفسك يا حبيبي.. وبحزن: وربما لا تثق بي أيضاً.

وائل بصوتٍ دافئ: أرجوك يا أسيل لا تقولي هذا، أنا أثق بك ولكن لا أثق بمن حولك، أنت أجمل امرأة رأيتها في حياتي، لو أن النساء كلهن مثلك لخسرنا نحن أعمالنا.

أسيل بابتسامةٍ عذبة وبصوتٍ يتخلله الدلع: أرجوك لا تبالغ.

وائل وهو ينظر إلى عينيها: عيناك الزرقاوان بحر واسع من الصفاء الجميل، ملامحك الجذابة الطفولية، بشرتك البيضاء كبياض قلبك الصغير، شعرك الناعم الحريري، كل ما فيك جميل، لا تحتاجين إلى أي تعديل يا أميرتي الجميلة.

كانت قصة حب وائل وأسيل رائعة، وجميع بنات العائلة يتمنَّين أن يحظين بزوجٍ مثل وائل، فهو في نظرهنَّ الفارس الذي تحلم به كل فتاة، والرجل المثالي والأب الحنون، وهنّ لا يعلمن حجم الضغط الذي تعيشه أسيل يومياً بسبب شك زوجها المستمر فيها، بحيث لا يمكن أن يمرّ أسبوع أو ثلاثة أيام من غير حدوث مشكلةٍ ما، وكأن الأيام تتمرد على خريطة حياتهما وتعبث بها كيفما تشاء، ولكن أسيل تخذل الأيام دائماً وتتصالح مع وائل في اليوم نفسه واللحظة نفسها، فهي قد أخذت عهداً على نفسها منذ تعرفها إلى وائل، بأن لا تتركه ينام يوماً وهو غاضبٌ منها، فالوقاية خيرٌ من العلاج حتى لو كانت على حساب كرامتها وكبريائها.

رسالة من مجهول

في اليوم التالي، استيقظ وائل على أصواتٍ صادرة من حركة أسيل التي كانت منشغلة بتجهيز نفسها للخروج...

وائل وهو يتثاءب: إلى أين حبيبتي؟ اليوم إجازة ولا عمل لديك.

• عذراً حبيبي، هل أزعجتك؟

• لا بأس، ولكن إلى أين أنت ذاهبة؟

أسيل وهي ترش عطرها المفضل: سأزور أمي وأفطر عندها.

وائل وهو ينظر إلى الساعة: ولكن الوقت مبكر جداً، الساعة الآن الثامنة صباحاً ومروة لا تزال نائمة، وأنا أيضاً أرغب بمزيدٍ من النوم.

أسيل بتوتر: حياتي.. سأذهب بمفردي هذه المرة، ابقَ أنت مع مروة.

وائل وهو يعدل من وضعيته: لماذا؟ هل يوجد شيء لا أعرفه؟

أسيل بارتباك: لا يوجد شيء مهم، فقط جلسة عائلية.

وائل باستغراب: ولكننا دائماً في عطلة نهاية الأسبوع نذهب معاً إلى أهلك، ما الذي تغير هذه المرة؟

• أعلم.. لذلك فضّلت هذه المرة زيارة أهلي بمفردي، ولن أتأخر.

سكتت لثوانٍ ثم أكملت: سأحضر في وقت الغداء.. لا تقلق.

وائل وفي فمه كلامٌ لا يقوى على النطق به، وإن نطق به قد يفسد على أسيل يومها المشرق، لذلك اكتفى بالنظر إليها.

أسيل وهي تضحك: ما بك؟ هل تغار عليّ من أهلي؟

وائل على مضض: حسناً.. سننتظرك إذاً لتناول الغداء معاً.

قبّلت أسيل زوجها وغادرت المنزل بعد اطمئنانها على مروة التي لا تزال نائمةً كالملاك، وتناست الاطمئنان على أفكار وائل التي تشوشها الظنون الفاسدة، فتبعث بسمومها إلى ذهنه.

لم يستطع وائل مواصلة نومه أو حتى السماح لجفنيه بالتلاقي، وذلك لأنه لم يقتنع بما قالته أسيل، فبدأ الشك يلعب لعبته القذرة مع وائل ويستمتع بها، وكأنه مرض خبيث يتورم يوماً بعد يوم كي يتوغل إلى أعماقه، ويقتلع ما تبقّى لديه من فكر عقلاني ومنطقي، دائماً ما يربح الشك في لعبته معه لأنه ضعيف المناعة تجاه هذه الآفة.

وائل لنفسه: ماذا لو كانت تخونني الآن؟! ماذا لو كانت مع رجلٍ آخر؟ كم أنا غبي؟ كيف سمحت لها بالخروج وحدها حتى لو كانت ذاهبةً إلى بيت أهلها، وما يدريني أنها هناك؟

أحياناً يبرر وائل طريقة تفكيره بزوجته بأن النساء جميعهن خائنات، وأنهن يستغللن أول فرصة لغياب أزواجهن كي يبدأن مشوار الخيانة، ويتربعن على عرشها، ومن ثم يمثلن دور البراءة أمام الزوج المُغفل ويرتدين قناع الطهارة والشرف.

يسترجع وائل تفاصيل خيانة أمه مع رجلٍ آخر، وكيف انهار من منظر أمه التي كان يعتبرها القدوة والأمان. المنظر راسخ في ذهنه وكأنه يعيشه لتوّه بالرغم من مرور سنينٍ عديدة، هذا المنظر الذي تكوّر في عقله الباطني وحاصره إلى الأبد، وحين أصبح في الثالثة عشرة من عمره، سمع بالمصادفة عن خيانة زوجة عمه، وكيف استقال عمُّه من عمله وابتعد عن العالم الخارجي بسبب خيانتها.

مُخْمَلْ

لم يكن مزاج المطر سلساً، ويقيناً لم يكن منساباً، ليناً، ولطيفاً. كما لم يكن رشيقاً، خفيف الوطْء على الأرض.

ضرب المطرُ الحياة العاريةَ بشراسة. تساقطت حبّاته حجارةً صلدةً شقّت قشرة الأرض القاسية. خناجر الماء اخترقت خواصرَ التراب، في طعنات سريعة متلاحقة، كأنها مشحونة عاطفياً، أو مسكونة بكآبة عتيقة، أو مشبّعة بغلًّ دفين.

ظلت شرايينُ الأرض تنزفُ مياهاً سوداء. أغرق الماءُ الهادرُ الشوارع، ارتفع حتى غمرَ أعناق الأرصفة، دَفَقَ في الأزقّة، فتشكّلت جداول متثاقلة من الطين، فيما دلقت شبكاتُ التصريف قذارات بطونها في الطرقات.

انهال الماءُ، كوابلٍ من الرصاص، على النوافذ الفزعة. تسلّل بعضُ الرصاصات من حوافّ الشبابيك التي انزاحت أُطرُها، مترخرِخة جرّاء تقادم العيْش. شقّت البروقُ السماء، وتداخلت بالرعود التي زجرت البشر المكشوفين في شوارع الليل، فيما احتمى بشرُ البيوت، غير المحصّنة تماماً من تبعات الطبيعة غير المتعقّلة، بشاشات التلفزيون الخالية من الإثارة، وأكواب الشاي المصبرة، الماصّة النقمة المختمَرة، العابقة بميرميّة الشتاء والأنفاس المحتقِنة لصوبّات الكاز.

كان ذاك في يوم المطر الأول. لم يمنع الناسُ أنفسَهم من الشعور بالغدر. فالشمس في النهار الذي سبقه تفتحّ صفارُها اليانع مفترشاً نصف السماء، فتراجع ذاك الإحساس العام الكئيب بالشتاء، وإن ظلّت لسعة برد مراوغة تتسرّب إلى الأجساد التي تقسّت جلودُها. من أين جاء كلُّ هذا الماء الغاضب؟ سارع بائعو البسطات إلى لملمة بضائعهم المكتظَّة من الأمشاط وفراشي الشعر والميداليات والنظارات الشمسية ومحافظ الفلوس الجلدية وحافظات الموبايل التي افترشت جوانب الطرقات بعدما تفجرت الأرض من تحت بسطاتهم ينابيع من الماء، فيما هرول الخضرجيّة لإنقاذ صناديق البندورة والخيار والليمون والبصل والبطاطا ورؤوس الملفوف والتفاح والكستناء والبطاطا الحلوة والبرتقال والمندلينا وحبّات البوملي الريانة، التي استعرضت اكتنازها الأموميّ فوق مصاطب العرض المائلة.

في اليوم الثاني للمطر، كانت السماء أكثر قتامةً، والطرقات أكثر طينيّة واسوداداً. تراكض الناس بوجوه شاحية، مدثِّرين رؤوسهم ووجوههم المكشوفة أمام عصف الماء وصفع الريح بالشالات والكوفيّات، وإن ثقلت خطواتُهم آخر النهار مع ثقل المطر الهاطل فوق ظهورهم.

وفي اليوم الثالث للمطر، الذي لم تفتر همَّته، صحت السماء في الصباح مكفهرّة الروح، مظلمة تماماً، وتفتّحت جراح الأرض الغائرة؛ صديدها فاض في الشوارع الإسفلتية المهملة أصلاً، والتي ذابت زفتتها منذ زمن. مشى الناس خائري الأنفس، مقوِّسي الظهور، مرهقين؛ يصفق المطر جنباتهم فلا يقاومونه كما لا يبذلون جهداً ملموساً في تفاديه. لم يتوقف المطرُ عن الانسكاب سبعة أيّام في النهارات التي قصُرت شمسُها، فبُحَّ فيها الضياء إلى درجة التلاشي، وفي الليالي التي غلظُت ظلمتُها، وأطبقت سماواتها على أقمارها ونجومها، وغابت في إغماءة ممتدّة. ساعات، كان المطر يتسارع، كما لو أنه يريد أن يفرغ كلَّ ما في رحم السماء ويتخلّص أخيراً من عبئه أو ربما من خطيئته؛ وساعات، يتباطأ أو تهنُ إرادته، فتطول المسافة وتعرض بين قطرة مطر وأخرى، كأن السماء نشف ريقُها، قبل أن يستعيد الماء المتساقط غضبته وزخمه وصلفه.

فاضت البحيراتُ على أسطح البيوت، وتناثرت البرك في مساحات المشي، في حين جرت أنهار ملتوية في الأزقة الضيقة، فألف الناس التقافز في الطرقات المطيّنة، طوال أيام المطر، من دون أن يتجنبّوا تماماً التخويض في البرك التي كانت تتفتّق في طريقهم فجأة، وهو أمرٌ من المرجّح أنه جعلهم نزقين أكثر من المعتاد.

العزفُ الوئيد الرتيب للماء وانهمار الغيث الوابلي، تخلّلهما توقّفٌ وجيزٌ كي تلتقط السماء أنفاسَها حاشدةً طاقةً مائية متجدِّدة. ظلّ نشيشُ المطر حقيقةً ثابتة، متواصلة، كأنه دهري.

وفي اليوم الثامن، توقف المطر فجأة، هكذا، من دون تباطؤ أو تناقص تدريجي يمهِّدان للتوقف. تصحّرت السماء من أدغال السحب دفعةً واحدة، وطلعت شمسٌ كبيرةٌ وسط الكون، وتحوّلت أنهارُ الطين إلى طرقات إسمنتية قاسية، متكسِّرة، كما لو أن بللاً لم يغشَها على مدى أيام طِوال عراض، تداخلت فيها مساحات الصباحات الواهنة بمسافات المساءات الممتدّة، الموحشة. لكن رائحة الماء الموصول ظلت لابثةً في الأجواء، مترسّبة في كل الأماكن، عالقة في أبدان البشر، الذين أنهكتهم أيام الماء تماماً، كامنةً في شعر القطط التي استلقت بكسل على مصطبات البيوت الملساء، متمكِّنةً في البيوت التي تكدّس فيها العرق والكاز وزيت القلي المعاد استخدامه، الذي تكوّم بخاره في فضاء البيوت المغلقة على اكتظاظ بشري خاصم لحمُه، أو بعضه، ماء الاستحمام الدافئ، مستمكنةً في الحيطان التي تشقق لحاؤها، نازّةً طلاءها المتآكل. لم تكن الرائحة طيبة، إذ تعشقت بالرطوبة والعفونة المبيّتة، وامتشقت الهواء الذي تتنفّسه الكائنات؛ ما جعل مزاج الكون آسناً، عكراً، وظل أثرٌ لشيء يشبه الانحلال عالقاً في أطراف الماء كما الهواء.

كانت الشمس صفراء جداً، وكانت دانيةً جداً من المخيّم والناس، أقرب ما تكون إلى شمس صيفيّة لكنها لم تكن لاهبة. كانت الشمس أقرب إلى اكتشاف، فبان في نورها الفاضح كم أنّ البيوت متهالكة. تبدّى في النهارات التي سطعت الإعياء الذي أصاب الأحذية التي تماسك جلدها الرخيص بصعوبة، والشلالات الصوفية البائتة، والمعاطف المنهكة التي غفل بعض أصحابها عن حبّات نفتالين مندسّة في بطانات الجيوب الداخليّة.

لكن، ورغم الوهن الجليّ، وحالة الاهتراء العامة التي طفت فوق الحياة خلال حقبة ماء الكون العنيفة، وشبه الموات الذي زرعه المطر في أيامه القاتمات، لم ترتفع شكوى إلى السماء أو تأفّف علني من ماء الله. دارى الناس نوبات الحمّى التي استوطنت كياناتهم، وتحاملوا على تراخي مفاصلهم وتخلخل أطرافهم، وأغلقوا أفواههم على رذاذ سعالهم العنيف والجاف.

في العموم، ظلت مشاعر الناس مضمرة.

لكن مشاعر حوّا ظلت متفتِّحة في المطر، الذارب، العنيف؛ توّاقةً للماء، ولمزيد من الماء. تحب حوّا الشمس، لكنها تحبّ الغيم أكثر. وبينما يروم الناس السماوات المشمسات، المشرقات، الصافيات فإنها تنحاز لتلك الهائجات، المتلبِّدات، المقطبات، التي تسحّ سحّاً.

هذا صباحٌ جميل على أي حال؛ تقول لنفسها من وراء نافذة بيتها التي فتحتها على أفق غير مبلول، ونهار صحت فيه الشمسُ بعد غفوة طويلة. اليوم شمسٌ ووهمُ صيف وضياء، وغداً ماء وشتويّة أنيسة، محمّلة بالوعد. إذ تُنصت حوّا قليلاً، تستطيع أن تسمع زقزقات مبتهجات، وصخباً بشرياً في بيوت المخيّم التي تتثاءب فيها الحياة، واصطكاك أرواح متململة، وفيروز. “طيري يا طيّارة طيري، يا وّرّق وخيطان، بدّي إرجَعْ بِنْتِ صغيرة على سطح الجيران”. تصدح الأغنية في الراديو، وقد توشّى صوت فيروز ببهجة نقية.

تبتسم حوّا في سرِّها. تحبُّ طيارة فيروز الورقيّة، لكنها، بكل تأكيد، لا تريد أن ترجع بنتاً صغيرة.

back to top