عتمة الذاكرة

نشر في 12-11-2016
آخر تحديث 12-11-2016 | 00:00
No Image Caption
يدوّي هذا الصوت في رأسي كقنبلة توشك على الانفجار، أحاول أن أفتح عيني الثقيلتين فلا أقدر، أحرك أصابع يدي فلا تستجيب، كُل ما أشعر به هو صوت “التيت تيت” وظلام دامس، والكثير الكثير من الخوف والنسيان والفزع.

لا أعرف أين أنا، وكيف وقعتُ في هذا الظلام! لا أعرف إن كان هذا الموت أم أنا عالق تحت مبنى منهار أو سيارة منقلبة، كل ما أعرفه أنّني أسمع لكنني لا أرى ولا أقدر على الحركة.

أهذا هو الموت؟!... يبدو كالموت! لكنني لا أظنّ أنني سأسمع في موتي صوتاً كهذا الصوت، أصوات الموت مفزعة وإن لم أسمعها، أمّا ما أسمعه الآن فيبدو كصوت سيّارة تجاوزت حدود السرعة، أو ربما كصوت شاحنة نقل كبيرة، شاحنة! صحيح! .. هو صوت شاحنة! رأيت تلك الشاحنة!

كنت في سيارتي أقرأ رسالة زوجتي الغاضبة التي قالت لي فيها أنها لن تشاركني يوماً آخر في حياتها وإنها تمقت اليوم الذي تزوجتني فيه، وإنها باتت تكرهني كما لم تكره أحداً في هذه الحياة.

حينها رفعت عينيّ عن شاشة هاتفي ورسالة زوجتي الناقمة تلك، شعرت بشبح ضخم يقترب على يساري، التفتُّ فالتقت عيناي بعيني سائق الشاحنة الهادرة المقبلة باتجاهي، كانت عيناه مرتعبتين وهو يتقدّم نحوي بسرعة جنونية وقاتلة، اقترب واقترب وانتهى المشهد!

أنمتُ أم متُّ؟! لا أعرف، كل ما أعرفه أنه كان المشهد الأخير في ذاكرتي، عينا السائق كانتا آخر صورة في ذاكرتي، صوت الشاحنة كان الصوت الأخير قبل نومي/ موتيّ.

هل أنا ميت حقاً؟! أهذا هو الموت الذي لطالما تخيّلته؟! لا، لا أريد أن يكون هذا هو العرض الأخير، لطالما دعوت الله خاتمة حسنة، أموت فيها في المسجد وأنا أصلي بين جموع المؤمنين، أو في بيتي بينما أقرأ القرآن في غرفتي وبوجود زوجتي، لكنني رحلت وحدي بعدما قرأت رسالة منتهى تلك، الرسالة التي قالت لي فيها لأول مرة وبعد ثماني سنوات من الزواج إنها تكرهني “جداً” وإنها تمقت اليوم الذي أصبحت فيه زوجتي!

كيف متّ فجأة؟ أحقاً متّ؟ أليس النسيان نعمة عظيمة من نعم الله؟

نطلب من الله دائماً أن يهبنا الكثير من النسيان، وحينما نسقط في هوّة النسيان، نشعر بأننا محض فراغ، أثير، سديم.

نشعر كأننا بلا ثقل ولا وزن، وكأننا نطير بأرجلٍ لا تعرف الجاذبية ولا تستجيب لها ولا لقوانينها. أدرك أنني أبتعد الآن بالنسيان بعيداً عن هذه الحياة، أحاول أن أتذكّر شيئاً فلا يحضرني سوى المشهد الأخير كاملاً، ومشاهد أخرى متقطعة ومبهمة لا تفهم.

كلّما استعصت الذكرى عليّ، تمسّكت بالمشهد الأخير المفزع، شاحنة مهيبة، سائق مفزوع وفاقد للسيطرة، وزوجة يؤلمني قلبي حينما أسترجع اسمها الذي يصرّ على أن يقف في وجه النسيان آبياً أن ينجرف مع أمواجه العاتية، متشبّثاً بالذكرى بمخالب أنثى فهد متوحشة.

منتهى! أيّ منتهى هذه التي يبدو أنني أحبّها لدرجة أن أنسى كل ما في حياتي عداها! هذا الوجع الذي يعتصر قلبي حينما أسترجع رسالتها الأخيرة تلك، ينبئني بأنها المرأة الأهم في حياتي كلها.

أين هذه المنتهى؟ لا أعرف كم مضى على سقوطي في هذا الفراغ لكنني أعرف أنني هنا منذ وقت ليس بقريب، ربما أحيا في هذا الظلام منذ زمن بعيد، زمن لا أقدر على تحديده الآن، فأين هذه المنتهى منّي؟ كيف تجعلني أسعى في هذا الظلام وحدي، من دون أن تشاركني إيّاه أو حتى أن تنتشلني منه؟

تيت.. تيت! يعلو صوت التيت ولا يردّ على صداه سوى الكثير من الألم وملامح بعيدة لشبه ذكرى!

تتراءى لي مشاهد كثيرة ما بين الظلام، مقاطع سينمائية متداخلة، لحظات فرح حقيقية ومشاهد حزن كثيرة وقاسية.

أشعر حينما أرى هذه الرؤى بأنني على وشك أن أستيقظ من هذا الجاثوم، أن أعود إلى الواقع بعد انتهاء هذا الظلام، لكنني لا أستيقظ ولا يتنهي هذا السواد حتى بعد نهاية الكابوس!

كنت أخرج من كابوس لأسقط في آخر، ولا ينقذني من هذه المشاهد المتقاطعة سوى مشاهد فرح قديمة في بيت أنيق ومع زوجة جميلة، تحتضن قلبي وتشعرني بالحنين لشيء حميم وقديم لم أعد أعرفه ولم أعد أذكر منه سوى بعض المشاهد.

لا أعرف إن كنت تخيّلت يوماً أنّني سأتوه في شيء يشبه هذه المتاهة، لكنني لا أظنّ أن أحداً قادر على أن يظنّ أنّ هناك شيئاً يشبهها، هذا هو الموت لكنه ليس بموت، مكان بين الموت واللاموت، شيء لا نفهم تفاصيل غيابنا فيه وكيف سنخرج منه، شيء لا يمرّ به كل أحد.

كل ما أحتاج إليه الآن هو أن أهمس، أن أصرخ، أن يصدر منّي أيّ صوتٍ يوحي لي أنني ما زلتُ حياً.

أحتاج لأن ألمح نوراً، أو بصيص نور، أحتاج لأن أسترجع الرؤية وأن أتسلل من خرم هذا الظلام الأدهم إلى شيء من نور هذه الحياة.

رأيت منذ لحظات رؤيا شعرت فيها بكل ما يمكن أن يشعر به إنسان. رأيت أنني في بيت قديم بينما كنت طفلاً، أو شعرت بأنني في جسد ذلك الطفل، كان الوقت ليلاً وكنت أحمل في يدي طباشير ملوّنة، أرسم بها على جدار غرفة معيشة قديمة، بأرائكها البنيّة الكئيبة، حينها دلفت امرأة في أواخر أربعيناتها، نحيلة الجسد، شعثاء الشعر، قاسية الملامح، صاحت بغضب وبصوت حادّ كفحيح أفعى:

- مشهور! عسى إيدينك الكسر إن شاء الله! خبّأت رأسي تحت ذراعي وأنا أصيح بخوف الدنيا أجمع: آسف يمه، سامحيني، ما عاد أعودها يمه!

قالت وهي تهزني كجذع نخلة: دامك عارف أن اللي تسوّيه غلط، ليش تسويه؟؟ وين مخك؟

وانهالت عليّ بالضرب، حتى كدتُ أشعر بأن جسدي الطريح المسجّى يكاد يستيقظ من نومته الطويلة هذه.

لا أعرف لماذا انتهى هذا المشهد عند تلك الصفعات، ألم أعد أحتمل رؤية العرض كاملاً أم أن رقابة الإنسان في ذاكرتي خشيت أن أعيش ذلك الوجع مرة أخرى!

فكرت كثيراً فيمن قد تكونه هذه المرأة! ناديتها أمّي، لكنني لم أشعر تجاهها بما يشعر به الأبناء تجاه أمّهاتهم، من المستحيل أن تكون تلك المرأة فعلاً أمي! تلك القسوة التي رأيتها في هيئة امرأة يستحيل أن تتجسّد في جسد أمّ!

ربما تكون زوجة أبي، أبي الذي لم يمرّ على ذاكرتي حتى هذه اللحظة، وكأن ذاكرتي تأبى استحضاره أو بعثه فيها مرة أخرى.

كيف يغيب أبي عن ذاكرتي، وكيف تحضر فيه زوجته؟ أين أمّي منّي؟ الأم التي لا بد من أنها تستعمر الجزء الأكبر من تاريخي وذكراي ومن وجداني، ألا تسكننا أمّهاتنا؟ فكيف غابت أمي عني في ظرف كهذا الظرف، ظرف ما بين الموت واللاموت، ظرف {شبه الموت} هذا الذي يسيطر عليّ ويُطبق على حياتي.

رأيت منذ ذلك السقوط ملامح ومواقف كثيرة، مررت فيها بمشاعر مختلفة، جيّاشة، صعبة، قاسية ولا تُفسر، لكنني لم أسترجع في تلك المواقف أسماءً ولم أميّز فيها طبيعة علاقة بأيّ أحد سوى منتهى.

back to top