الغيرة من رجل ميت

نشر في 12-11-2016
آخر تحديث 12-11-2016 | 00:00
No Image Caption
كانت القاعة مكتظة بالطلاب الذين قدموا لينصتوا لمحاضرة الدكتور {صبحي كريم} في علم الإدارة.

صبحي في منتصف العقد الخامس من العمر، طويل القامة ذو وجه عريض وشعر فحمي ناعم بفارق على جانبه الأيسر، كثيراً ما كان يضطر إلى إعادة خصل شعره الأمامية بكفه إلى الخلف حتى لا تحجب عنه رؤية ما حوله بانزلاقها على عينيه السوداوين الواسعتين أسفل حاجبيه العريضين، أما شفتاه الصغيرتان فيعلوهما شاربان أسودان خفيفان.

كان من سمات وجه صبحي الإشراق، عكس طلابه الذين اتسموا، فيما عدا قلة منهم، بوجوه مرهقة، ربما لأن كثيراً منهم لا ينامون بقدر كافٍ لقرب اختبارات نهاية العام، أو لأنهم يبدأون رحلتهم اليومية الشاقة مبكراً جداً حتى يصلوا في الموعد المناسب إلى كلية التجارة بجامعة القاهرة مع زحمة المرور، وندرة الأماكن الشاغرة في المواصلات العامة في الصباح الباكر.

سبب آخر هو أن صبحي يغلق أبواب الدخول إلى قاعة المحاضرات في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً، ولا يسمح مطلقاً بدخول أي طالب، أو طالبة بعدها مهما كان عذره.

قد تكون وجوههم بهذا الاكفهرار لأن الطلاب لم يحلقوا لحيتهم، أو يهذبوا شواربهم، كما لم تقم الطالبات بمراعاة مناسبة زينتهن لوقار الحرم الجامعي.

من المؤكد أن غالبيتهم لم يتناولوا بعد طعام إفطارهم، أو أن الدكك الخشبية التي يجلسون عليها خشنة، وأجسادهم تكاد تتلامس في قاعة غير مكيفة ورديئة التهوية.

وقد يكون السبب الأرجح هو الضوضاء، وشعورهم بالاختناق الناجم عن تجمع مئات الطلاب يتنفسون ويتحدثون جميعاً في الوقت نفسه.

سيتحدث الدكتور صبحي اليوم عن مستقبل إدارة الموارد البشرية؛ وهي الإدارة التي كان يطلق عليها مسمى إدارة شؤون الموظفين، أو شؤون العاملين، أو شؤون المستخدمين، أو القوى العاملة، رغم أنه لا يبدو أن شيئاً قد تبدّل مع تغيّر مسمياتها في المؤسسات العربية، حيث بقيت الأنشطة والواجبات والمسؤوليات كما هي من دون تغيير يذكر.

موضوع اليوم أصعب ما في منهج السنة الأخيرة لنيل شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال، حيث سيتطرق الدكتور صبحي لاستشراف مستقبل إدارة الموارد البشرية في العام 2014 وما يليه من أعوام. لذلك أمضى الأسبوع الفائت كله في الإعداد لهذه المحاضرة المهمة والتي ستكون موضعاً لعدد من أسئلة اختبارات نهاية العام. لهذا السبب ازدحمت القاعة الصغيرة بذلك العدد الكبير من الطلاب الذي يفوق قدرتها الاستيعابية.

استهل الدكتور صبحي محاضرته قائلاً:

- عادة ما يراجع المهنيون المتخصصون في إدارة الموارد البشرية كل ما حدث خلال الأعوام الماضية، ويدرسونه، ثم يستشرفون الغد على أساسه. والسؤال المُلِح الذي يطرح نفسه عليهم دائماً هو: ماذا يعني كل هذا؟ لقد تناولنا خلال المحاضرات السابقة، الاتجاهات التي سادت مكان العمل في عام 2013م، سواء أكانت قواعد ساعات العمل الإضافية، أو ابتكارات إدارة الأداء، أو تطور فكرة العمل المرن. ما أطلبه منكم الآن هو أن نتقاسم التفكير، ونناقش توقعاتنا للمستقبل، من خلال تخيلكم القفز داخل آلة للزمن، واستشراف ما هو أبعد من وقتنا الحاضر. أريدكم أن تتوقعوا، وأن تصفوا لي الوضع الذي ستكون عليه إدارة الموارد البشرية في العام 2025م، توقعوا ما قد يستجد من بدائل التوظيف وإدارة المواهب في المؤسسات المستقبلية، وصفوا المهارات والمعارف والاتجاهات التي ينبغي توافرها في العاملين في مجال إدارة الموارد البشرية في ذلك الوقت.

تخيل صبحي خلال إعداده هذه المحاضرة المهمة، سيناريو لما قد يحدث عندما يستحث الطلاب على المشاركة بأفكارهم وتصوراتهم للمستقبل. توقع أن يشرع أحد الطلاب المبادرين بإبداء رأيه، ثم تتبعه بقية الحضور، حيث يقومون بالإدلاء بدلوهم في هذا الموضوع المهم، وفقاً لما يتوافر لهم من معارف عائدة لقراءاتهم المتنوعة في هذا المجال، خصوصاً أنهم بعد أسابيع قليلة سينالون شرف حمل درجة البكالوريوس من هذه الجامعة العريقة.

تفحّص الدكتور صبحي الحضور في القاعة منتظراً بداية الإجابات، التي تصوّر أن تنهال واحدة تلو الأخرى بحماسة بالغة.

إلا أن ما شاهده ولاحظه وأدهشه في الوقت عينه هو ذلك الطالب الجالس عند زاوية القاعة الذي يحكّ حذاءه بمسطرة معدنية كاشطاً عنه الطين الذي التصق به عندما وطأت قدماه الحديقة المبللة في الصباح الباكر وهو يتجه نحو بوابة الجامعة، وتلك الطالبة العشرينية وزميلها اللذان يتهامسان بخجل وربما يرسمان خططاً وردية لحياتهما المشتركة بعد التخرج، وذلك الستيني الجالس بالقرب منه ويكاد يلصق كرسي البحر القابل للطي الذي يجلبه معه بمنصة المحاضر، وهو الذي يطلق عليه الطلاب تندراً لقب “بابا”. أما الطلاب الآخرون فبدت وجوههم للدكتور صبحي ساهمة وشاردة، وربما لم يسمعوا بالأساس سؤاله أو لم يتابعوا ما قال منذ بداية المحاضرة. فهم سيعمدون لاحقاً إلى حفظ كلمات كتابه، أو تلك المذكرات التي يتكسب من ورائها بعض المعيدين، والتي تساعدهم على سهولة حفظ مختلف المواد الدراسية في الكلية.

كان الصمت القاتل في القاعة مبعث إحباط غير متوقع أصاب صبحي، ودفعه إلى الاعتقاد بأن علم الإدارة، وبالتحديد إدارة الموارد البشرية، علم سخيف لا ينبغي تدريسه البتة.

تكرر المشهد أمامه خلال السنوات الخمس الماضية مرات عدة، حيث يتكلّم ويتكلّم والجميع يستمعون، وربما لا أحد ينصت، ما يدفعه في بعض الأحيان إلى الخروج عن سياق المحاضرة، ليروي طرفة أو حادثة لتنشيط ذهن هؤلاء النيام إلى الحد الذي غدت معه طرائفه وحكاياته مملة من كثرة ترديدها.

التكرار الرتيب للأمور جعله يشعر بعدم جدوى ما يفعل. فهو يجزم أن على هؤلاء الطلاب أولاً تعلم أساسيات أخرى قبل علم الإدارة. يجب عليهم أن يتعلموا الأخلاق، والسلوك الحسن، والانضباط، وآداب التعامل مع الآخرين، وكيفية العمل داخل المجموعات، واحترام رأي الآخر. والأهم من هذا وذاك عليهم تعلم كيف يفكرون وليس كيف يحفظون. أدرك صبحي متأخراً أن الطلاب سيحفظون عن ظهر قلب ما يقوله، ثم يتقيأونه في امتحان نهاية العام، ويحصلون على شهادة البكالوريوس، ويلقون بكل ما حفظوه في سلة مهملات أذهانهم الخاوية.

منذ مدة طويلة وصبحي يفكر في تغيير مساره المهني، فهو لم يعد راغباً بمهنة الأستاذ الجامعي، التي لا طائل منها، فهو يشعر بأنه لم يُخلق لمثل هذا العمل، وأنه لا بد له من التغيير قبل فوات الأوان. فكّر كثيراً في التفرّغ لكتابة البحوث والكتب في مجال إدارة الأعمال، ولكنه توقف ما إن بدأ، لأن ذلك قاده إلى مزيد من الملل، والغثيان، والإحساس باللاجدوى.

إنه في منتصف الأربعينات، ويقيم في حي الزمالك حيث نادي الجزيرة الرياضي، الذي أمضى بين جنباته نصف حياته، ومتزوج {ياسمين سلام} التي تحمل شهادة دكتوراه في التسويق، وتدرّس المادة في الكلية نفسها. تزوجها بعد قصة حب هادئة من جانب واحد، لم يصارحها في بداية تعارفهما بمشاعره، وإن كانت قد أحست مبكراً بتودّده إليها، بيد أنها اكتفت بصداقته كزميل في العمل، تلتقي معه بشكل منتظم وآمن داخل الكلية، إلا أنه بعد عامين من عملهما معاً تقدم لخطبتها، وكانت بداية سعيدة سرعان ما غدت بعد ذلك غريبة في نظر كثيرين من أصدقائهما ومعارفهما، خصوصاً عندما انفتح باب الرزق من أوسع أبوابه على ياسمين. فبعد زواجها من صبحي بسنة، اكتسبت شهرة مدوية في العالم العربـي من خلال قيامها بتدريب مهارات البيع وخدمة العملاء. ففضّلت المؤسسات التدريبية الخليجية التعاقد معها عوضاً عن التعاقد مع الرجال وذلك بهدف تدريب النساء الخليجيات على تلك المعارف والمهارات، فازدحم جدول أعمالها وغدت دائمة التغيّب عن مصر.

في ظل غياب ياسمين، كان صبحي بعد انتهاء محاضراته اليومية يتوجّه مباشرة إلى نادي الجزيرة، حيث مجلسه في حديقة الشاي. فهناك يتناول كل وجباته الغذائية عدا وجبة الإفطار التي يحرص على تناولها بعد الفجر في شقته القريبة من النادي. ولم يصرح بما يجول بخاطره لأحد إلا لصديق عمره الصحافي {خليل عبد المنعم} الذي يشاركه مجلسه في النادي بشكل شبه دائم.

خليل صحافي في باب أخبار المجتمع في جريدة {الأيام} الاجتماعية. متوسط القامة، طويل الوجه له شاربان رفيعان، رشيق القوام، يحافظ على شعره الرمادي الخشن قصيراً، ويضع بشكل دائم نظارة طبية تقليدية. ويحرص على لياقته البدنية وهو بمثل عمر صبحي، لكن حياة العزوبية طابت له فتمسك بها بعد تجربة خطبة فاشلة. ضحكاته مدوية دائماً لكنه في الوقت ذاته، يكتم مشاعر حزينة تتجسد في شروده الطويل في كثير من الأحيان. وهو يحرص على عدم إظهار أحزانه حتى لأقرب المقربين. ويتفهم صبحي مشاعر صديقه، ويحرص على عدم سؤاله، وإنما يتركه يخرج ما بصدره عندما يشاء.

لا تُعد صداقات خليل ولا تُحصى، حتى إن معظم النساء والرجال من أعضاء النادي يعتبرون أنفسهم أصدقاءه المقربين، بينما في واقع الأمر لا صديق مقرباً له إلا صبحي. يسعى صبحي من واقع الصداقة الوطيدة التي تربطه مع خليل إلى أن يساعده على تغيير مهنته بشكل كامل، إلى شيء جديد. ورغم أنه لم يفكر بمهنة معينة على وجه التحديد، إلا أنه متأكد من عزمه خوض التحديات.

مرّ صبحي بتحديات كبيرة في حياته، لعل أهمها يوم التحاقه بكلية إدارة الأعمال بجامعة كورنيل الأميركية بمدينة إيثاكا في ولاية نيويورك. حيث صمم يومها على نيل درجة البكالوريوس، وحقق أمله في وقت قياسي، ما شجّعه بعد ذلك على التفكير في استكمال تعليمه، ليحصل على الماجستير والدكتوراه مدعوماً بثراء والده، الذي حقق بعض النجاح المادي مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي انتهجها الرئيس محمد أنور السادات في بداية توليه منصب رئيس الجمهورية.

back to top