«زهرة الصبار»... ملكة الإحساس سناء جميل (3 - 5)

ترنيمة الحب الخالدة

نشر في 08-11-2016
آخر تحديث 08-11-2016 | 00:00
ابتسم القدر لـ«زهرة الصبار»، إذ حصلت على جائزة دولية في مستهل مشوارها الفني من أحد أهم المهرجانات السينمائية، فضلاً عن سهم كيوبيد الذي اخترق قلبها وجمعها بمن اختارته ليرافقها مشوار حياتها حتى آخر لحظة.
فنياً، دخلت سناء جميل عقد الستينيات مدعومة بنجاح لافت حققته في «بداية ونهاية»، فانحسر الكم لمصلحة الكيف وزادت علاماتها المتميزة من السيدة الارستقراطية في «فجر يوم جديد» ليوسف شاهين، إلى المحامية المتحررة التي تحركها دوافعها المادية والحسية كما في «المستحيل» لحسين كمال. انعكس هذا التألق بالتبعية على حضورها المسرحي حيث توالت علاماتها المهمة وجعلت منها سيدة المسرح العربي لاحقاً، لا سيما من خلال «الدخان»، و«تاجر البندقية»، و«مصير صرصار»، و«المهزلة الأرضية»، و«شهرزاد»... وغيرها من أعمال ستظل شاهدة على عمق موهبتها.
في صباح أحد الأيام دق جرس الهاتف في منزل سناء جميل، وسمعت على الطرف الآخر:

هي: ألو مدام نفيسة موجودة؟

سناء: مدام نفيسة مين؟ لا يا ستي النمرة غلط.

اقرأ أيضا

هي: مش 20148؟

انتبهت سناء وردت: أيوه يا فندم الرقم صحيح.

فقاطعها الصوت: معاك الهيلتون يا فندم، مدام محجوب خان حتكلمك.

لم تصدق سناء ما سمعته وراحت تطلب من الصوت تكرار الاسم على مسمعيها، فلأول وهلة تصوّرت أن ثمة من يداعبها، ليس لأنها لا تعرف تلك السيدة «مدام محجوب خان«، بل على العكس كانت تعرفها جيداً، لذا راحت تتأكد من حقيقة المتصل لأنها لم تتخيّل أن الحلم ربما يتحوّل إلى حقيقة في لحظة.

تحكي سناء: «أثناء مشاركتي في مهرجان موسكو بفيلمي «بداية ونهاية «تعرفت إلى المخرج الهندي الشهير محجوب خان، صاحب أفلام «آن» و«كلهم أبنائي«، بعدما أبدى إعجابه الشديد بأدائي الدور لدرجة أنه أعرب عن رغبته في أن نتعاون معاً في فيلم من إخراجه. من جهتي، اعتبرت كلماته مجاملة رقيقة رغم حماسته الملحوظة لدرجة أنه كان يناديني بنفيسة كلما شاهدني، مكرراً دوماً رغبته في التعاون الفني. ومع الأيام، توطدت علاقتي به وبزوجته أيضاً وكنا حرصنا في نهاية المهرجان على أن نتبادل العناوين وأرقام الهواتف كي نتمكّن من التواصل دوماً، لذا تعجّبت عندما سمعت الاسم، إذ لم أتخيّل إطلاقاً أن يتذكرني المخرج الكبير وزوجته ويحرصان على زيارتي في مصر».

تسويق

رغم موهبة سناء جميل الفنية التي أشاد بها الجميع، فإنها كما اعترفت مراراً لم تكن ناجحة في انتهاز الفرص التي تتاح لها، والأهم لم تكن «ناجحة» في تسويق موهبتها، وإلا لكان لها شأن آخر وتمكّنت من الوصول إلى العالمية. تقول في هذا المجال: «موريس اسكونت مدير مسرح «الكوميدي- فرانسيز» كان في إحدى زياراته مصر ووجهت إليه دعوة لحضور عرض «زواج الحلاق» الذي كنا نقدمه على خشبة المسرح القومي، وفي الختام حرص على التعرف إليّ وسألني إن كانت لي مشاركات سينمائية، فأجبته بنعم. حينها لم يكن «بداية ونهاية» عرض تجارياً بعد فطلبت من المخرج صلاح أبو سيف أن ينظم عرضاً خاصاً كي يتمكّن اسكونت من مشاهدة الفيلم من ثم يتعرف إلى السينما المصرية وما وصلت إليه، وليس ليشاهدني في أحد أهم أدواري فحسب».

تواصل: «وفور انتهاء العرض، أبدى موريس اسكونت إعجابه بالفيلم وبأدائي ودعاني إلى زيارة «الكوميدي- فرانسيز» في باريس لحضور موسمهم المسرحي والاستفادة من خبراتهم والتعلم منهم. كعادتي تعاملت مع كلمات الرجل على أنها مجرد مجاملة رقيقة، لذا سرعان ما نسيت الموضوع. لكن بعد سفره إلى بلاده بأيام وصلتني دعوة رسمية إلى المسرح القومي يستضيفني فيها لثلاثة أشهر فتأكدت أن الموضوع جدي وليس مجاملة. إلا أن انشغالي بالمشاركة في الموسم المسرحي حال دون سفري، وكالعادة أضعت فرصة للتعلم واكتساب الخبرة ربما كانت ستغير مصيري وتذهب بي إلى طريق آخر«.

كان يوم حبك أجمل صدفة

يقولون: «رب مصادفة خير من ألف ميعاد»، هكذا جمعت الأقدار الفنانة سناء جميل بزوجها الكاتب الصحافي لويس جريس قبل أكثر من 55 عاماً، ليظلّ الحب والسعادة عنواني الحياة التي جمعتهما حتى رحيلها في 22 ديسمبر 2002

عن المصادفة وقصة الحب الخالدة يذكر لويس جريس: «كان مصادفة غريبة، فقد دعيت إلى حفلة في منزل سناء جميل على شرف الصحافية السودانية د. خديجة صفوت التي كانت تتدرب حينها على يد الراحل إحسان عبد القدوس بهدف إصدار مجلة نسائية سودانية. وبصفتي واحداً من أبناء مؤسسة «روز اليوسف» التي تدربت فيها وأحد من ساعدوها لإنجاز مهمتها تمت دعوتي إلى الحفلة التي اختارت أن تقيمها في منزل صديقتها الفنانة سناء جميل. لم أكن أعرفها، ولم أشاهد أياً من أعمالها نظراً إلى وجودي خارج البلاد ثلاث سنوات، وهي الفترة التي شهدت ميلادها فنيا».

يتابع: «كان يعرض آنذاك فيلم «بداية ونهاية» فحرصت على مشاهدته احتراماً لصاحبة الحفلة. وفي مساء اليوم نفسه كنت في بيتها أتابعها وهي ترحب بضيوف صديقتها، وكغيري تحدثت إليها بعدما قدمتنا خديجة إلى بعضنا بعضاً، وتبادلنا أحاديث قصيرة حول رحلتي إلى الولايات المتحدة الأميركية ودورها في الفيلم وجائزة التمثيل التي حصدتها من موسكو، ورغم حميمية الحوار فإنها أخطأت في اسمي أكثر من مرة فنادتني بيوسف قبل أن تعتذر وتؤكد صحة الاسم، وعندما اقتربت الساعة من منتصف الليل استئذنت من خديجة فأوصلتني سناء حتى باب الشقة ثم فوجئت بها تسألني: معاك تلات تعريفة؟ فوضعت يدي في جيبي وقلت لها باندهاش: معي قرشين صاغ. قالت والابتسامة تعلو وجهها: طيب عال خالص خليهم معاك بقى علشان تضرب لي مكالمة بكرا، رقمي سهل جداً 20148، حستناك تكلمني الساعة 12».

يواصل لويس: «اتصلت بها فعلاً ونشأت بيننا علاقة طيبة تحولت إلى حب لاحقاً. كانت تنتهي من عملها في المسرح لتمر عليّ في مجلة «روز اليوسف» بسيارتها «الفيات» الصغيرة. لم أكن أملك سيارة حينها، وكانت تحبّ دوماً الذهاب إلى حي الحسين والجلوس في مقهى الفيشاوي حيث كنا نحتسي الشاي ونأكل الساندويتشات، ولاحظت حرصها على ألا تحملني مادياً ما لا طاقة لي به، فقد كانت تدرك أن دخلي في النهاية محدود وربما هذا ما جعلني أؤجل البوح بحقيقة مشاعري تجاهها».

سوء تفاهم

لم تخجل «زهرة الصبار» يوماً من الاعتراف بأنها صاحبة المبادرة في قصة الحب التي كللت بالزواج بعد أشهر عدة من تعارفها بمن اختاره عقلها وقلبها معاً لتقتسم معه الأيام بحلوها ومرها. لم تشغلها نظرته إليها، أو كيف سيتعامل مع جرأتها فحينها لن يستحق قلبها...

تذكر: «منذ أن التقينا لأول مرة شعرت بأن ثمة أمراً يجذبني نحو لويس جريس. إحساس بالراحة كان يتملكني دوماً كلما التقينا، بل كان يزداد مع تكرار اللقاءات، لدرجة أنه إذا مرّ يوم لم يتصل بي لأي سبب، أجد نفسي أدير قرص الهاتف لأسأل عنه، وبمجرد أن أسمع صوته الهادئ أشعر بالراحة تغمرني. ثم أصبحت عادة يومية أن أمرّ عليه بعد انتهاء عمله لننطلق إلى أقرب مكان، والكلام بيننا لا ينتهي وشعوري بالراحة كذلك».

أما هو فيعود إلى سوء التفاهم الذي كاد أن ينهي قصتهما قبل أن تبدأ قائلاً: «كانت مرّت ستة أشهر على أول لقاء بيننا، حتى حلّ يوم عيد ميلادها في 27 أبريل، فقررنا أن نحتفل به معاً، وذهبنا إلى مطعم هادئ في حي المعادي. بعد تناول العشاء قلت لها: «أنت عايشة لوحدك، وأنا عايش لوحدي، فأيه رأيك نعيش مع بعض؟»، فضحكت ثم سكتت تماماً، وعليه اعتبرت «الصمت الرهيب» رفضاً مهذباً، فامتنعت عن الاتصال بها لأكثر من شهر ونصف الشهر، حتى فوجئت بها تتصل بي وتسألني: لما قلت لي تعالي نعيش مع بعض كان قصدك إننا نتزوج؟

لويس باندهاش: طبعاً أمال أنت مخك راح فين؟

سناء (ضاحكة): خلاص أنا موافقة على الزواج ويكون أول الشهر الجاي.

لويس: حيلك حيلك...

سناء (مقاطعة): أنت مخضوض ليه؟ مش أنت اللي قلت نعيش مع بعض.

لويس: طيب خلصي بروفة وعدي عليّ نتكلم.

تقابلنا فعلاً وناقشنا التفاصيل كافة وأوضحت لها حقيقة ظروفي المادية، وأنني لا أملك غير راتبي فعلاً، بعدما تسبّب أخي في خسارة ميراثي في تجارة القطن، فردت بأنها لا تملك أيضاً غير راتبها من المسرح، ثم حسمت النقاش قائلة: «خلينا نتعكز على بعض». وسألتني إن كنت أحمل سبعة جنيهات، وفعلاً أخذتها مني وذهبنا إلى أقرب محل جواهر واشترينا خاتمين وكتبنا عليهما التاريخ، وكان في الأول من يوليو 1961».

الصدمة

رغم أن قرار الزواج سبقته علاقة وطيدة امتدت لأشهر، تصوّر خلالها كل طرف أنه على دراية تامة بالطرف الآخر، فإن علامات الاندهاش علت وجه لويس عندما طلبت سناء من الصائغ كتابة اسم ثريا يوسف على الخاتم الخاص به، وحينما سألها متعجباً أخبرته بأن هذا هو اسمها الحقيقي، فيما سناء اسمها الفني الذي اختاره لها أستاذها زكي طليمات. الطريف أيضاً أن لويس حينما ربطه الحب بسناء لم يكن يعرف أصلاً أنها مسيحية...

يقول: «بعدما اتفقنا على موعد للزواج بدأنا في تجهيز الأوراق المطلوبة، من بينها شهادتا الميلاد وأوراق أخرى وإجراءات كثيرة ساعدني في تحضيرها الفنان حسين رياض بحكم عمله كمدير للمسرح القومي، إذ كنت معتقداً بحكم اختلاف الديانة أننا سننجز إجراءات الزواج في الشهر العقاري».

سناء: ليه حنتزوج في الشهر العقاري؟

لويس: علشان أنت مسلمة وأنا مسيحي.

سناء وزاد اندهاشها: وأنت بقى جبت الكلام ده منين؟

لويس: من كلامك... طول الوقت تقولي «والنبي»، و«صلي على النبي» و«لا إله إلا الله «وكل الكلام ده بيردده المسلمون بس.

ضحكت سناء وقالت: يا سلام؟ ما أنت شايفني طول الوقت عايشة مع سميحة أيوب وملك الجمل، وزهرة العلا وهما بيتكلموا كده، فطبيعي أتكلم زيهم.

واصلت ضحكاتها وقالت: بس أنا مسيحية وعايزة أتجوز في الكنيسة.

لويس: برضه مش حينفع ولازم الشهر العقاري علشان اختلاف الملة لأنك من الكاثوليك وأنا أرثوذكس و...

قاطعته مجدداً: برضه مين قالك إني كاثوليك؟

لويس بحسم: لأنك طول الوقت بتتكلمي فرنساوي، وكنت في مدرسة الميردي دييه.

سناء بعصبية: اللي متعرفوش إني صعيدية من ملوي، مسيحية أرثوذكسية، وعايزة أتجوز في الكنيسة.

أشغال شاقة

بدأت استعدادات الزواج، وفي مقدمها البحث عن شقة مناسبة. ساعدهما الفنان عبد المنعم إبراهيم، في استئجار شقة جاهزة في العمارة التي كان يقطن فيها، ثم بدأ رحلة البحث عن أثاث مناسب وفي حدود إمكاناتهما المادية طبعاً.

تحكي سناء: «في يوم الزفاف ذهبنا إلى الكنيسة بصحبة كل من فايز شقيق لويس والفنان آدم حنين وكانا الصديقين الأقرب إليه، إلا أننا فوجئنا بالقسيس يرفض إتمام الإجراءات لعدم وجود حضور، فخرج لويس متوجهاً إلى مؤسسة «روز اليوسف» وجاء بالزملاء الذين تصادف وجودهم إلى جانب عمال المطابع وأتممنا الزواج. ثم استقلّ السيارة إلى جواري وتوجهنا إلى المنزل لنكون في شرف استقبال الضيوف من أصدقائنا. استمرت حفلة الزفاف حتى الساعات الأولى من الصباح، وبعد انصراف الجميع ظللت أنا ولويس نغسل الأطباق و«الطقم الصيني» الذي أعارته لي إحدى الجارات، وبقية أدوات المطبخ، ثم أعدنا ترتيب المنزل قبل أن نتوجه إلى السوق لشراء ما تبقى لنا من أغراض كالأطباق وبعض المفروشات، وذلك كله بنقود «النقطة» التي جاءتنا من الأصدقاء».

أما عن شهر العسل فيقول الزوج الكاتب الصحافي لويس جريس: «بعد انصراف الضيوف وحرصي على مدّ يد العون لسناء في مجمل أعمال المنزل ومنذ اللحظة الأولى، تصوّرت أنني سأخلد إلى النوم فور أن أنهي مهمتي، خصوصاً أنني كنت مستيقظاً ما يقرب من 30 ساعة متواصلة. إلا أنني فوجئت بها تستعد للذهاب إلى التمرين في المسرح، فتعجبت من أين لها بهذه الطاقة كلها، كذلك تعجبت من أنها لم تحصل على إجازة زواج ولو لأسبوع، وصدمني جوابها «أن المسرح لا يحصل على إجازة مهما كانت الظروف»، فأسقط في يدي ولم أستطع إعلان الرفض أو حتى التذمر، إذ كنت وعدتها باحترام عملها ودعمها مهما كانت المصاعب أو العوائق».

الطريف أن الفرقة تقرّر سفرها في اليوم التالي إلى رأس البر وبورسعيد في رحلة عمل لتقديم عروضها، وفعلاً سافرت معهم إلى رأس البر، وأمضينا أسبوع العسل في «عشة»، وعندما انتهى العمل في رأس البر سافرت مع الفرقة مرة أخرى لبورسعيد، حيث البروفات في الصباح والعروض في المساء ومن دون تذمر أو امتعاض حتى أثبت لها احترامي وعدي».

يختم: «وفي نهاية الرحلة وعندما طلبت منها أن تأخذ أسبوعاً عطلة نسافر فيه إلى أي مكان وحدنا، رفضت لارتباطها بعروض الفرقة في القاهرة، حيث كنا في «عز» الموسم المسرحي، وهكذا طار شهر العسل بين غسيل الأطباق والسفر مع الفرقة المسرحية إلى بورسعيد ورأس البر والإقامة في «عشة».

اختارت النجاح لا الأمومة

«سنؤجل الإنجاب راهناً حتى أنتهي من أعمالي«، قالت سناء وبحسم قبل إتمام مراسم الزواج. من جانبه وافق لويس، خصوصاً بعدما أقنعته بخوفها من أن تلقى مصير صديقتها نعيمة وصفي التي عطّلها الإنجاب فنياً ولأكثر من 10 سنوات، حيث رزقت بابنتين وصبي، خصوصاً أن سناء ووفقاً لتصريحاتها كانت ترفض الاستعانة بمربيات، مؤكدةً أن الأم هي التي يجب أن ترعي أطفالها، لذا أسقط في يد لويس، وتأجل قرار الإنجاب عاماً تلو الآخر حتى حدثت نكسة 1967 فـ «انسدت نفسنا تماما»، على حد توصيف الراحلة.

غير أن البعض يفسر هذا القرار كنتاج طبيعي لما عانته في طفولتها وافتقادها الأهل، من ثم قررت ألا تنجب أطفالاً لا تستطيع رعايتهم كما ينبغي لأن «فاقد الشيء لا يعطيه».

الغريب أن «ملكة الإحساس» لم تبدِ ندماً صريحاً على هذا القرار حتى في آخر سنوات عمرها، مشيرة دوماً إلى أنها ربما لو أنجبت وتفرغت لأمومتها لأصبحت ثريا يوسف عطا الله وليس سناء جميل.

back to top