«زهرة الصبار»... ملكة الإحساس سناء جميل (2 - 5)

«ليس لأحد على تمثيلها سبيل»

نشر في 07-11-2016
آخر تحديث 07-11-2016 | 00:00
عاندت سناء جميل وسبحت ضد التيار، خرجت مطرودة من بيت أخيها ليلة 26 يناير 1952 بسبب انجذابها المدهش إلى الفن. القاهرة كانت تحترق، والشابة ذات الأصول الصعيدية تخرج من جلدها القديم لتولد من جديد رمزاً للتمرد على مستويات عدة. عن سيرة وحكايات «زهرة الصبار» نواصل سرد تفاصيل مهمة من مشوارها الفني.
• «أجمل ما في فن سناء جميل حرارة عطائها وهي منفعلة إذ تتدفق الكلمات من بين شفتيها، فتنطلق حروف اللغة عامية أو فصحى كطاقة تعبيرية وجرساً موسيقياً»، كتب عنها الكاتب المسرحي ألفريد فرج قبل سنوات من رحيله مفنداً قدرة الفنانة المذهلة على ترجمة الحروف المكتوبة على الورق إلى نبض ومشاعر. تذكرت سناء كلمات فرج (قدمت من إبداعه عدداً لا بأس به من العروض المسرحية)، وكيف كانت لغتها العربية سواء الفصحى أو العامية متعثرة في صباها وشبابها، حيث أبعدتها دراستها الفرنسية في مدرسة الراهبات عن لغتها الأم، ولولا صداقتها وزمالتها لكل من الفنانة سميحة أيوب، والراحلتين نعيمة وصفي وملك الجمل لما تمكنت من إجادة التعبير باللغة العربية على هذا النحو من الطلاقة. أما الفصحى فدربها عليها الفنان الراحل عبد الوارث عسر بتكليف من أستاذها زكي طليمات، ولولا موهبتها الطاغية لما نجحت في تجاوز اختبار القبول في المعهد الذي خاضته بمشهد باللغة الفرنسية.

الغريب أن سناء جميل في زمن قياسي نجحت في إحكام قبضتها على اللغة العربية لدرجة أنها اشتهرت بأداء الأدوار الناطقة بالفصحى منذ بداياتها، ما جعلها تتميّز بين أقرانها مع أول أدوارها «غزالة» في مسرحية الكاتب محمود تيمور «ابن جلا» عام 1950، كذلك أدوارها «أنطوانيت» في «مريض الوهم»، «مادلين في «المتحذلقات» و«كلود» في البخيل، والمسرحيات الثلاث لموليير ومن إخراج أستاذها زكي طليمات، ما رفع أسهمها فواصلت تألقها مسرحياً.

اقرأ أيضا

كانت سناء اكتشفت موهبتها على مسرح مدرسة «المير دي ديو» من خلال حفلات مدرسية شاركت فيها بناءً على نصيحة من إحدى الراهبات حول ضرورة المشاركة في الأنشطة المدرسية والاندماج مع الجميع، بدلا من العيش منعزلة، تتجرع وحدها مرارة الوحدة.

والمؤكد والأهم أنها أحبت التمثيل كوسيلة للخروج من عزلتها والوحدة التي فرضتها عليها الظروف، فهي كانت بنتاً غريبة جاءت من صعيد مصر إلى العاصمة بلا عائلة، أو بيت خاص ومن دون أصدقاء أيضاً، إلا أن «الذوبان» في تجسيد شخصيات أخرى وأمام جمهور غريب كان هو اللعبة النفسية التي صالحتها مع العالم من حولها وأشعرتها بالأمان رغم أنها لجأت إليها من دون وعي، كما صرحت في أحد حواراتها الصحافية القليلة.

تقول: «في البداية مارست اللعبة من دون وعي لكسر الوحدة التي استشعرتها في أيامي الأولى في المدرسة، ولكن مع الوقت تحولت إلى قدر محبب أسعى إليه بكامل اختياري وإرادتي، وأتحين الفرصة لأحضر من خلاله».

تعاليم الأستاذ

لم تكن سناء جميل تخطط لتتفوق على زميلاتها، بل الأصدق أنها لم تكن تعي أصلاً أنها موهوبة أو أنها ستلفت الأنظار إلى قدرتها على تجسيد تلك الشخصيات بهذا القدر من العمق والفهم مقارنة بسنها آنذاك. الأهم كان يقينها الذي ترسّخ في عقلها وأكّده وجدانها أنها لا تشعر بذاتها إلا على خشبة المسرح، حيث كانت تتحرّر من القيود كافة، وتنسى تماماً من هي، من أين جاءت، لتتذكر فحسب أنها هذه الشخصية أو تلك التي وقفت تؤديها على خشبة المسرح.

مرّت الأعوام وكانت تتأكد موهبة سناء، وأدركت أن التمثيل هو الأمر الوحيد الذي يربطها بالحياة، ويدفع بالدماء إلى عروقها، كذلك يشعرها بالتميز والتفرد، ما دفع عميد الأدب العربي طه حسين إلى أن يصف موهبتها لاحقاً بجملته الشهيرة «ليس لأحد على تمثيلها سبيل»، تلك الجملة التي لخص فيها الأديب الكبير خصوصية موهبتها، موضحاً أنها تنتمي إلى مدرسة متفردة في الأداء، فرغم كونها ابنه المسرح بأساليبه الكلاسيكية كافة، فإنها كانت عندما تعتلي خشبته تبدع بأسلوب مغاير لكل من سبقوها أو عاصروها أو لقنوها.

هكذا رآها طه حسين بإحساسه وتواصل مع موهبتها منذ أكثر من نصف قرن، فرغم أنه يدين بإحساسه الدرامي إلى تراث أسبق لظهورها، فإن لحظات تجليها الخاصة دفعته وآخرين إلى أن يرونها ناظرة مدرسة الإحساس.

تذكر سناء: «كأن القدر كان يدربني على تلك اللحظة التي أهلتني للتتويج لاحقاً على خشبة المسرح، إذ زاد الاهتمام بي في المدرسة، سواء بين زميلاتي، أو وسط المعلمات والراهبات، خصوصاً مع نجاحي في تجسيد أدوار متعددة في كثير من الروايات العالمية التي أفادتني حينما احترفت الفن. بل وبصراحة أعترف بأن مشاركتي في تلك العروض المسرحية في المدرسة ساعدتني كثيراً في خطواتي اللاحقة، لأنني كنت قدمت بعض هذه الأدوار سلفاً، الأمر الذي ساعدني أيضاً في اجتياز اختبارات القبول أمام أساتذة المعهد حيث جسدت واحدة من تلك الأدوار ولكن باللغة الفرنسية، ومن جانبهم تفهموا أسبابي ولم يعترضوا كما لم يصروا على تقديمي مشاهد باللغة العربية فصحى أو عامية».

تحقق تميّزها لاحقاً عبر إدراكها فن المسرح الحقيقي، ووعيها بآلياته ومجمل تفاصيله، والذي تعلمته في قاعات الدرس الصاخبة، وعلى خشبة المسرح ووسط كواليسه وعلى يد أستاذها زكي طليمات.

توضح: «كان أستاذاً ومربياً بالمعنى الحرفي للكلمة. منه تعلمنا القيمة التعبيرية للحرف العربي، وتدربنا على اكتشاف أدوات الممثل صوتاً وحركة وإيحاءً وانفعالاً، ومنه تعلمنا الصدق الفني، وكيف يمكن تحقيقه من خلال العلاقة الوطيدة بين سلوكيات الممثل والشخصية الفنية، وتعلمنا أيضاً كيف نقرأ النص المسرحي قراءة محترفة سواء كممثل أو كمخرج، وكيف نضع أيدينا على مقومات الشخصيات التي نجسدها ونحكم قبضتنا على صراعاتها الدرامية، وتفاصيل أخرى كثيرة أدّت دوراً رئيساً في تشكيل وعي ووجدان جيل من العمالقة اكتشفهم المبدع زكي طليمات، ودربهم جيداً قبل أن ينطلقوا إلى فضاءات الفن الرحبة.

وهكذا التقت رغبتها في استمرار «لعبتها النفسية» مع أحلام زكي طليمات في تخريج مواهب جديدة تثري الساحة بإبداعها، وفعلاً شكّلت الدراسة في المعهد فضلاً عن انضمامها إلى فرقة المسرح الحديث ميلاداً جديداً لموهبتها، تماماً مثلما كانت ليلة 27 يناير ميلاداً آخر لثريا يوسف عطا الله التي خرجت «قهراً» من بيت أخيها مدفوعة بقيم التمرّد على الأفكار التقليدية، مؤمنة إيماناً مطلقاً بالفن كونه يداعب الروح والوجدان.

تقول: «لم أعتقد يوماً أن الفن أمر معيب، ومنذ اللحظة التي أدركت فيها موهبتي وأن الفن عشقي الأول والأخير، أدركت أيضاً أن الإنسان تتشكّل ملامحه وشخصيته وفقاً لما يؤمن به من قيم وما نشأ عليه من عادات وتقاليد، ويكفيني أنه طيلة سنوات عملي في هذا المجال لم تكتب عني كلمة سيئة أخجل منها، وكنت أعتبر نفسي دوماً سفيرة بلدي فلم أشن يوماً مهنتي ولا زملائي.

استقلال تام

باتت ليلتها الأولى في بيت زميلها في الفرقة الفنان سعيد أبو بكر وزوجته الإيطالية، وفي صباح اليوم التالي كان أستاذها وأبوها الروحي ينهي بنفسه أوراق إقامتها في منزل الطالبات «كونت هاوس» في شارع «الانتخانكة» (بالقرب من ميدان التحرير)، وسرعان ما تركته بعدما اختنقت داخل جدرانه ربما رغبة في أن تكون لها جدرانها المستقلة في بيت جديد، وربما لأن أبوابه الموصدة ذكرتها بأيامها في المدرسة الداخلية فقررت أن يكون استقلالها كاملاً غير منقوص، اجتماعياً ومادياً خصوصاً بعدما عينها أستاذها طليمات بأجر ثابت في الفرقة إضافة إلى مكافأة دراسة قدرها ستة جنيهات كانت تصرف للطالبات تشجيعاً لهن للدراسة في المعهد. فانتقلت إلى شقة في شارع عبد العزيز في حي العتبة بمساعدة زميلتها الفنانة نعيمة وصفي التي كانت تسكن في العمارة وبإيجار قدره أربعة جنيهات (كان مبلغاً كبيراً آنذاك).

كذلك ساعدتها زوجة أبو بكر الإيطالية في إيجاد عمل إضافي في تطريز الفساتين والمفارش في محل شهير آنذاك هو «ميزون سيلي»، حصلت منه على أجر ساعدها على تحمل نفقاتها، فكانت تطرّز المفروشات وتبيعها للمتجر، وهكذا تعلّمت أن العمل شرف، وأن الحرية والاستقلالية لا تعنيان الانفلات من التقاليد، بل التمسك بها مهما كانت الصعوبات أو المغريات.

تحكي سناء قائلة: «كان لدي اعتزاز كبير بما تنسجه يديّ، لذا عمدت إلى تدوين أول حرفين من اسمي «s g» بشكل يبدو فنياً وكأنه ماركة مسجلة قبل بيع ما أطرزه، وبعدما أقلعت عن هذا العمل تفرغاً للفن وبعد سنوات طويلة، كنت مدعوة على العشاء ذات يوم مع زوجي لويس جريس في بيت الأديب الكبير إحسان عبد القدوس وأثناء تناولنا العشاء تعرفت إلى مفرش المائدة، وراحت عيني تبحث عن توقيعي حتى وجدته فهمست لزوجي باكتشافي ورحنا نتأمل المفرش حتى لاحظ إحسان وزوجته فرويت حقيقة الأمر، فما كان منهما إلا أن أصرّا على أن أصطحبه معي في نهاية الزيارة. وفعلاً، ظلّ المفرش ولسنوات طويلة يزين مائدة بيتي، إذ اكتشفت أنني لم أحتفظ قط بأي قطعة مما طرزته يداي».

نشاط

في أكتوبر 1953، صدر قرار بضم فرقة «المسرح الحديث» و«الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى» وتكوين فرقة واحدة من أعضاء الفرقتين الحكوميتين باسم «الفرقة المصرية الحديثة»، وعينت سناء فيها، غير أنها لم تستطع التأقلم مع المناخ الجديد المليء بالصراعات، فالتحقت بفرقة إسماعيل ياسين «الخاصة» لتشارك في أول عرض «حبيب كوكو» وكان ذلك عام 1954 (العام نفسه الذي تخرجت فيه من معهد التمثيل)، وشاركها الانضمام إلى الفرقة لفيف من النجوم من بينهم تحية كاريوكا، وشكري سرحان، وعبد الوارث عسر، وعقيلة راتب، وحسن فايق، وعبد الفتاح القصري، وعبد المنعم إبراهيم، ومحمود المليجي، وزينات صدقي ونجوم آخرون.

إلا أنها تركتها بعد انضمامها إليها بعشرة أشهر فقط نتيجة لخلاف شخصي مع زوجة إسماعيل ياسين (لأنها لم تحضر عيد ميلاد ياسين الصغير) وعادت إلى فرقتها الأصلية معلنة اعتزال العمل نهائياً في المسرح الخاص.

في السنوات الأربع التالية، تنقلت سناء بين عروض عدة فقدمت تيني في «سقوط فرعون» لألفريد فرج ومن إخراج حمدي غيث، ورقيقة هانم المرأة غير القادرة على تغيير عقليتها الأرستقراطية المتعالية رغم تغيير الزمن وقيام الثورة الاجتماعية في «الناس اللي فوق» لنعمان عاشور ومن إخراج سعيد أبو بكر. كذلك شاركت في مسرحية «عودة الشباب» التي كتبها توفيق الحكيم وأصرّ على أن يدون حوارها بنفسه محولاً إياه من الفصحى إلى العامية، وأخرجها نور الدمرداش عام 1959.

تألقت سناء جميل أيضاً في دور سوزان خطيبة فيغارو في «زواج الحلاق» لبومارشيه، من إخراج فتوح نشاطي، وهو دور أشاد به عميد الأدب العربي طه حسين قائلاً: «أما سوزان فمثلتها السيدة أو الآنسة، لا أدري، سناء جميل تمثيلاً لا غبار عليه»، كذلك أدّت دور «أنيسيا» في مسرحية «سلطان الظلام» لتولستوي، ومن إخراج فتوح نشاطي.

أما السينما فجذبتها أضواؤها كغيرها من نجوم جيلها، فظهرت في بداياتها بأدوار صغيرة من خلال أفلام «حكم القوي»، و«طيش الشباب»، و«شريك حياتي» و«يا ظالمني». إلا أن الشخصيات كافة التي جسدتها فيها لم ترض طموحها الفني كونها لم تكشف عمق موهبتها، اللهم إلا دورها في «حرام عليك» قبالة كل من إسماعيل ياسين وإستيفان روستي، ومن إخراج عيسى كرامة.

نقطة التحول

مع توالي نجاحات سناء جميل على خشبة المسرح في نهاية الخمسينيات، خصوصاً بعد مسرحية «سلطان الظلام»، كان من الضروري أن تلفت أنظار صانعي السينما وهو ما حدث فعلاً، فعرض عليها المخرج الراحل صلاح أبو سيف دور عمرها، وهو «نفيسة» في «بداية ونهاية» بعدما اعتذرت عنه أول مرشحة.

كان أبو سيف رشح الفنانة فاتن حمامة لأداء دور «نفيسة». في البداية، كما يؤكد الكاتب الصحافي لويس جريس، تحمست النجمة للدور ولكنها سرعان ما اعتذرت عنه لأنها لا تريد أن تؤدي دور فتاة تبيع نفسها.

وهكذا حكمت النظرة الأخلاقية المحافظة اختيارات سيدة الشاشة العربية، رغم أنها سبق وقدمت الدور نفسه في فيلم «طريق الأمل» لعز الدين ذو الفقار، فيما سناء جميل كانت أجرأ في قبوله، بل كانت ترى أن «نفيسة» إحدى أجمل شخصيات نجيب محفوظ، كما صرّحت مراراً.

تقول: «أيقنت أن نفيسة التي حرمها القدر من الجمال، والتعليم، ورغد العيش و...، رغم هذا الحرمان كله لديها القدرة على العطاء وإسعاد الآخرين من حولها، والذين دوماً لا يلتفتون إلى أبسط احتياجاتها من العطف والاهتمام، لذا فإن مقاومتها السقوط كانت أضعف وأشد أثراً. نموذج كنفيسة لا يستطيع مقاومة الانحدار فيساق إلى مصيره المحتوم».

ووفقاً لتصريحات صلاح أبو سيف، كانت سناء في خياله ومنذ البداية وهو يسكن الشخصيات، لكنه ولأسباب تتعلّق بالانتشار عرض الدور على فاتن حمامة، وحينما لم تتحمّس حسم قراره وذهب الدور إلى سناء جميل وحازت عنه جائزة التمثيل الثانية من مهرجان موسكو.

وفي العرض الخاص للفيلم، حرص أبو سيف على دعوة حمامة، بل جلس إلى جوارها، وفي نهاية العرض همست في أذنه قائلة: «كان عندك حق يا صلاح»، وكانت تلك أكبر تحية تلقاها أبو سيف.

السفر إلى موسكو

لم يستطع المخرج صلاح أبو سيف الحصول على تذكرة السفر إلى الاتحاد السوفياتي للمشاركة بفيلمه «بداية ونهاية» في مهرجان موسكو، إلا أن سناء جميل ومعها فاتن حمامة التي عرض فيلمها «نهر الحب» في الدورة نفسها، قررتا عدم السفر من دون مخرج الواقعية أبو سيف، ما اضطر الخارجية المصرية إلى التدخل لدى السفارة الروسية ليحصل على التذكرة ويسافر مع أبرز نجمتين سواء في مصر أو العالم العربي.

عميد الأدب العربي طه حسين أشاد بموهبتها

حصدت جائزة التمثيل من موسكو عن «نفيسة»

زكي طليمات كان أستاذها وأباها الروحي
back to top