عطر وألحان

نشر في 05-11-2016
آخر تحديث 05-11-2016 | 00:00
No Image Caption
في ليلة عاصفة تتخبّط فيها الطّبيعة صخباً، وترعد السّماء غضباً، ويرشُّ البرد وحشته على الأرض، اجتاحتني رائحة صمّاء، خرساء، لا تبثُّ في نفسي ﺇلاّ الرّعب، والغموض في أفكاري، والحشريّة على ملامحي. فأغمِضُ عينيَّ، وآخذ نفساً عميقاً يُفرغُ العطر من الجوّ، ويَخْتَزِنه في ذاكرتي، ثمّ أتابع ترتيب كتبي ودفاتري وتحضيراتي للغد. كم صعب أن يكون المرء تلميذاً وأستاذاً في الوقت عينه! يتخبّط مأموراً وآمراً، جاهلاً وعالماً، أن أُعطي دروساً في الأدب وأتخصّص في الرّياضيّات. غريبٌ هذا التّناقض. أتعنيني الأرقام الجازمة، أم تلك المشاعر المحيّرة، أم أنَّ الاثنينِ معاً يهمّانني، أَوَليس التّناقض من شيم الطّبيعة وطبيعة الإنسان؟

رحل الصّيف، وبدأت المدارس، ودخلتُ على طلاّب جدد. مرّ اليوم الأوّل على خير، فقد كنتُ مرتبكاً إلى حَدّ الضّياع، تماماً كما كان طلاّبي.

وها أنا أجلس مع وحدتي ككلّ يوم في تلك العمارة الّتي لا يسكنها ﺇلاّ الفقراء، وتلك الغرفة الصّغيرة، وكبعض الأيّام تجتاحني تلك الرّائحة نفسها. كم مرّة حاولتُ تعريفها، تشبيهها؟ ولكن عبثاً. وحيدة كوحدتي، تجتاحني ببطءٍ وسرعة، تشلّني وتبثّ الحركة بأطرافي، تشدّني وتبعدني، رائحة غريبة حتماً. لا تشبه البخور ولا الورد، بل الاثنين معاً، مغرية متمنِّعة لا تشبه ﺇلاّ نفسها.

يرنُّ هاتفي، وتتشتّت أفكاري، فإذا بي أُجيب على خالي:

• كيفَ حالكَ يا خالي؟

• الحمد لله. كلّ شيءٍ على ما يرام، وأنتَ؟

• لا جديد، مدرسة وعمل وجامعة... كيفَ الجميع؟

• بخير، كلّهم يسلّمون عليك. ما رأيك لو تأتي هذا الأحد للغداء عندنا؟

• سأحضر، أكيد.

• نراك ﺇذاً. إلى اللّقاء.

• ﺇلى اللّقاء.

ﺇنّه خالي، ذلك الرّجل الحكيم المتواضع القلب. هو كلّ ما بقِي لي من عائلتي بعد وفاة أبي وأمّي منذ تسع سنوات. فقد ساعدني مادّيّاً قدرَ استطاعته حتّى استطعتُ أن أقف على رجليّ، وأتحمّل مسؤولية الحياة وحيداً.

أمّا زوجته، فهي مثال الأمّ الكاملة، تتقنُ دور الأمومة، وتجيد حضن عائلتها بكلّ ما في الأمومة من معانٍ دفينة.

أمّا “كاتيا” ابنتهما الوحيدة المدلّلة، فهي جميلة وذكيّة، ولها كلّ ما تطلب، ولكنّها سريعة في كلّ شيء. متسرّعة في الحبّ، كذلك في البغض. كثيرة الكلام بلا معنى، كلّ شيءٍ معها يبدأ بسرعة، وينتهي بسرعة فلا وقت للتّفكير، ولا وقت للتّحليل، ولا شيء معها يأخذ الوقت الكافي لينضج. تملّ بسرعة، وتسعد بسرعة...

أمّا برأيي أنا، فكلّ شيءٍ يحتاج إلى وقت، فالجنين يحتاج إلى تسعة أشهر لينمو ويصبح مهيّئاً للولادة. ونحن البشر جميعاً نقضي عمرنا ننتظر وينتظروننا. فكما نولد بعد انتظار ونكبر بعد انتظار، كذلك نفعل كلّ شيءٍ ونحن ننتظر في الوقت ذاته. ترانا ننتظر مرور العمر... منشغلين بأشياء كثيرة... بينما {كاتيا} لا تعرف معنى الانتظار.

وما ﺇن أقفلتُ الهاتف مع خالي حتّى انقضّ التّعب عليَّ، وأخذ مني صحوتي فغرقتُ في النّوم.

الأيّام تمرّ بسرعة، الوقت كالضّوء. لا يطلّ صباح ﺇلاّ وحلَّ مساء، وكأنّ صراعاً عمره من عمر الزّمن يدور بين اللّيل وظلامه والنّهار وشمسه. لكلٍّ منهما رائحة مختلفة، ونكهة مغايرة، صامدان حتماً دوماً... نهاري يمرُّ بين الأساتذة والتّلامذة، أحمّل رأسي معلومات من جهة وكأنّني أشرب العلم، ثمّ أعطي تلامذتي ما تعلّمته بشغف.

كم أحبّ مراقبة تلامذتي! أشعر بأنّ في المراقبة شيئاً من العلم ليس بإمكان أحد أن يعلّمه! إنّه تعليم ذاتيّ! فيه استكشاف لغموض النّوايا والأفعال والأفكار. لطالما شعرتُ بأنّ لكلّ تلميذٍ قصّة فريدة خاصّة به وحده، نتائجها شخصيّته، وتطوّراتها انفعالاته، وأحداثها مزاجه.

فقد كان {سميح} من أشدّ الطلاّب اجتهاداً وذكاءً، ولكنّه كان دائماً منشغلاً يُركّز بطيشٍ، ويفهم ويتحرّك بسرعة. حاولتُ فهم ذلك الشّاب، فهو في سنّ السّابعة عشرة، وعلى الرّغم من أنّه محاط بأصدقاء كثر، فإنني أشعر بأنّه وحيد. يسهو مراراً وتكراراً في سياق الدّروس، ولكنّه دائماً أبداً حاضرٌ للإجابة عن أسئلتي. خلاّق، مبتكر، وسريع البديهة، وملامحه جميلة. غريبٌ أنّني لا أفهم سبب حركته الدّائمة، وسهوته أحياناً كثيرة، وكأنّ به شيئاً يشبهني.

عدتُ إلى منزلي الصّغير المؤلّف من غرفة فيها سرير كبير يسعُني أنا ووحدتي، ومطبخ فيه بعض اللّوازم الضّروريّة وحمّام. كان ذلك المنزل يؤمِّن لي دائماً الرّاحة والسّكون. أقصده بحثاً عن الطّمأنينة والوحدة. أجلس فيه وأبحث في عمق نفسي وأحلّلها. لطالما كان ملجئي، ولكنّه لم يعُد. كلّما مرّت سنة، زاد وحشةً وغربة. غادرني النّوم على الرّغم من ﺇرهاق النّهار وتعب المسؤوليّات. كم الوحدة متعة، ونقمة في الوقت عينه! لا أجد من يهتمّ لأمري، لتعبي، لوجعي، لجوعي، لرجوعي ورحيلي ولا حتّى لرجولتي. كنتُ اُكمِّل هذا الأثاث الرّثّ فقط. أرتّبُهُ وأكلّمه، وهو يشهد على مللي. وكم غدت لحظة النّوم مخيفة، فلا حضن يضمّني، ولا رأس ينام على صدري، ولا حنان يداوي غربتي، ولا متعة تحرّك كياني. لا شيء سوى أصوات المارّة قرب النّافذة، وصمت الأثاث، ولحافٍ يلفّني فأتخيّله امرأة، وأضمّه بشدّة وبين صحوةٍ وتعب، يأتي النّوم منقذاً يريح جسدي ويطلي أفكاري بألوان الأحلام.

وجاء ذلك الصّباح مقدِّماً لي يوماً جديداً، كهديّة ملفوفة بألف ورقة تحتاج إلى اثنتي عشرة ساعة لتمزيقها واستنتاج ما إذا كانت تروقني أو لا.

“فؤاد كامل”، ذلك الأستاذ الّذي يظنّ أنّنا، أنا وهو في ساحة قتال، حيثُ لا بدّ لأحدنا أن ينهزم حتّى يستمرّ الآخر. لم يعادِني يوماً، بل على العكس كان يَذكرني أمام الأساتذة بكلِّ خير، ولكنّني كنتُ أشعر بأنّ فيه رغبةً لإلغائي، ولكن بهدوء وبصمت، من دون أصوات ولا صراخ. كنتُ أشعر بأنّه يلبس قناع الطّيبة، وبذلك يزداد شرّاً. صبّحته وأنا أتابع السّير نحو صفّي، فهزّ برأسِهِ موافقاً، وكأنّه يقبل سلامي ثمناً لطيبته المصطنعة. تراه خبيثاً متحجّراً لئيماً أو طيّباً؟ لم أفهمه يوماً، لم يكن من النّاس الّذين يغضّون النّظر عن أيّ شيء استناداً إلى اعتباراته هو عن الأشياء.

وككلِّ يوم يأتي المساء، فهل من يوم لا يحمل مساء؟ فلأنّني تعبتُ من تكرار نفسي كلَّ يوم أعترف أنّ الغربة والوحدة والملل والحرمان تجالسني في كلِّ مساء وتعزّي جنوني.

رحت أنظر إلى المرآة أتأمّل ملامحي كالنّساء، بكلّ بساطة نسيتُ شكلي، ونسيتُ أنّني ما زلتُ شابّاً، وتذكّرتُ للتّوّ مقولة لـ Alain Delon: {لستُ جميلاً، ولا وسيماً، أنا رجل فقط!} وأنا أحدّق ببعض التّجاعيد على ملامحي تشبقني تلك الرّائحة عينها برصاصة خدّرت دماغي، وسمّرتني متنشّقاً، وكأنّها امرأة تلهو بالعواطف فتبثّها وتبتعد، وﺇذا بك تلهثُ راكضاً وراءها وترتمي على قدميها، فتراها بخوراً يلوح بين الرّغبة والصّلاة، وبين العطر والعرق.

لم أعرف يوماً عطراً يجتاح الأبنية والبيوت، الأبواب والنّوافذ، الرّجال والنّساء ولا أدري إذا كانت النّساء يرَيْنه عطراً ثميناً أم رخيصاً؟ وككلب يثق بأنفه لحقت العطر الغريب، وفتحت باب غرفتي المسكينة، وصرت مدمناً على رائحة تسري في كلّ أفكاري، وتذوّب جسدي كشمعة بطيئة. صرت مدمناً على رائحة وتمتمة انتظرتهما بعض الأُمسيات. لم أدرك يوماً الحروف الّتي كانت تطرب سمعي، لم أكن سوى تائه بين عطرٍ ونغم.

ذهبت إلى بيت خالي في فيطرون ذلك الأحد، لأمضي اللّيلة هناك، فاستقبلتني “كاتيا” بترحيبها البعيد، وقبلاتها القريبة، وسلّمت على العائلة، وانفردنا بأحاديثنا “كاتيا” وأنا بينما يحضّر الآخرون الطّعام.

• أخبرني ما عندك، هات (قالت {كاتيا}).

• لا شيء جديداً، فلا أحد يزورني ﺇلاّ الرّوتين.

• حبّ جديد؟ أصدقاء؟

• لا جديد ولا قديم، وليس لديّ أصدقاء.

• لماذا أنتَ {برّي} ﺇلى هذا الحدّ؟

ضحكتُ كثيراً وسألتها:

• {برّي}؟! لماذا؟! ما هذا التّعبير؟!

• في الحقيقة لم أسمعك يوماً تكلّم صديقاً، ولم أشعر يوماً بأنّك مغرم. فكيف تواصل حياتك من دون حياة اجتماعيّة؟

• بصراحة ليس لديّ كثير من الوقت للأصدقاء. إنّ تلامذتي هم أصدقائي وكذلك زملائي، وبين تحضير الدّروس والدّرس والتّصحيح... يغدرني الوقت... وحتّى الغرام لا أدري لماذا مستثنيني؟! على كلٍّ، الحبّ هو الشّيء الوحيد الّذي يجدنا... أؤمن بأنّه يباغتنا... لا يعطينا موعداً وليس بإمكاننا إعطاؤه... وماذا عنكِ؟

• أنا، يا عزيزي، مغرمة بشابّ تعرّفتُ إليه من حوالى الشّهر تقريباً، وأفكّر في الزّواج به.

• يا ﺇلهي يا {كاتيا} أتظنّين أنّ شهراً كافٍ لتفكّري في الزّواج؟

• ولمَ لا؟ كثيرون من الّذين تزوّجوا بعد سنين من الحبّ فشِلَ زواجهم، وانتهى بالطّلاق، فلا قاعدة لهذه الأُمور.

• أنتِ فتاة مغامرة وسريعة القرار. ﺇنّني خائفٌ عليكِ، هذا كلّ ما في الأمر.

• كن مطمئِنّاً فأنا أعلم ماذا أفعل.

وراحت {كاتيا} تخبرني أشياء وأشياء، أمّا أنا، فأخذني تفكيري إلى {سميح} تلميذي. لا أدري كيف شردتُ فجأة واستحوذتني عاطفة رهيبة تجاهه. فقد تذكّرت أنّ آخر مرّة رأيته كان يبدو كئيباً جدّاً، ولم أستطع أن أسأله ما به لأنّني كنتُ مشغولاً جدّاً.

• “عاطف”! ما بالك أتسمعني؟

• نعم! نعم!

وأكملت {كاتيا} كلامها، وأخبرتني كم هي سعيدة بذلك الشّابّ الّذي يقضي وقته معها، وهو يغازلها وكأنّها أُغرمت بنفسها... أترانا نُغرم بمن يجعلنا نحبّ أنفسنا أوّلاً؟! أم أنّ النّساء هنّ اللّواتي تقيتهنَّ كلمات ليست سوى أحرفٍ تصف جمالهنّ الفاني، الغائب وقت التّعب، ومع السّنين فيسخّرن وقتهنّ في حضرة الكلمات، ونسج الأحلام، وتذكّرت حينها أغنية لـ “ماجدة الرّومي” اسمها “كلمات” من كلمات الشّاعر “نزار قباني”...

لطالما فكّرتُ في أنّني أريد أن أدخل جمعية حقوق المرأة، ﺇذ إنّني أشعر بأنّني أفهمها جدّاً، على الرّغم من أنّني لستُ زير نساء. فالمرأة باقة ورود بألف لون يسقيها الرّجل حناناً، فتتفتح وتورّد، تعشق الكلام المعسول، وتحبّ أن يشعرها رجلها بأنّها جميلة ومرغوبة وبأمان، وبذلك يربحها لا محال. أفكّر كم من الممكن أن تظلّ الرّؤية تصنِّف ذات التّكاوين بالجمال. ألا يعتاد النّظر على الملامح نفسها؟ هل يعقل أن يفلس كلام الغزل؟ لا أدري! لم أواجه موقفاً كهذا بعد، ولكنّني لا أشكّ أبداً بأنّ المرأة سرّ، كلما غُصْتَ بتحليله اكتشفتَ شيئاً جديداً. أتراها مدرسة؟! تعلّم الضّعف والقوّة، الكلام والصّمت، الفرح والحزن؛ إنها تصنع من كلّ شيء، شيئاً آخر! من الطّفل رجلاً، ومن القماش ثوباً، ومن المال منزلاً، ومن الانتماء عائلة... الأشياء معها لا تبقى كما هي... تراها تؤول بالأشياء ليس بالضّرورة إلى الأفضل ولكنْ صعب أن نحدّد الأفضل إلاّ من منظار كلّ امرأة على حدة!!

back to top