جان-جاك أوبلان: الأمعاء جعلت الإنسان ذكياً

نشر في 29-10-2016
آخر تحديث 29-10-2016 | 00:00
No Image Caption
الجهاز الهضمي أدى دوراً فاعلاً في كل مرحلة من مراحل التطور البشري.

• جان جاك أوبلان خبير في علم مستحاثات البشر وبروفسور متخصص في الأنثروبولوجيا في معهد ماكس- بلانك في لايبزيغ وفي الكلية الفرنسية. يتحدث فيما يلي عن أهمية الروابط بين الدماغ والجهاز الهضمي وأسباب تفشي السمنة.

ماذا يكشف لنا علم مستحاثات البشر عن الإنسان وعلاقته بالميكروبيوم، إذا تأملناه من وجهة نظر وراثية؟

يلقى موضوع الميكروبيوم رواجاً كبيراً راهناً، ويثير اهتمام عدد كبير من المتخصصين في علم مستحاثات البشر. فتتناول دراسات عدة اليوم عملية تطوره. ولكن من الضروري أولاً العثور على بواقي الحمض النووي لتلك الكائنات المجهرية التي كانت تعيش في جهازنا الهضمي. لم نعثر بالتأكيد على أي أجهزة هضمية قديمة. لذلك يعتمد عمل الباحثين راهناً على جير أسنان أسلافنا القدماء. قد يحتوي هذا الجير على جسيمات غذائية وبكتيريا ما زالت تحتفظ بالقليل من الحمض النووي. فيساعدنا ذلك في تكوين فكرة عن تركيبة ميكروبيوم الفم، الذي لا يشكّل سوى جزء بالغ الصغر من الميكروبيوم الهضمي. فضلاً عن ذلك، نصب اهتمامنا على البراز، وخصوصاً براز الإنسان البدائي (النياندرتال). تشير النتائج الأولية إلى أن هذا الإنسان كان يتناول كمية من الخضر تفوق ما اعتقدناه سابقاً. فهذا ما تكشفه لنا الجسيمات الغذائية في جير الأسنان، إلا أننا لا نملك في هذه المرحلة أي معطيات تتيح لنا تحديد ميكروبيومه.

كشفت لنا مقارنة حمض مجموعات البشر المختلفة النووي الكثير من المعلومات عن انتشار الإنسان على الكوكب. فهل يقدّم حمض البكتيريا في الأمعاء معلومات من هذا القبيل؟

هذا صحيح. تشكل هذه طريقة أخرى لدراسة الماضي: مقارنة ميكروبيوم المجموعات البشرية اليوم. فإن كان السلف المشترك بين سلسلتين من البكتيريا يعود إلى 100 ألف سنة، يعني ذلك أن المجموعات البشرية التي تحمله انفصلت قبل نحو 100 ألف سنة. على سبيل المثال، قدّمت لنا دراسة تناولت تنوع البكتيريا الملوية البوابية الجيني في جهازنا الهضمي معلومات عن هجرة الإنسان وانتشار الإنسان العصري على الكوكب. فضلاً عن ذلك، تمثّل دراسة الميكروبيوم اليوم وسيلة لاختبار النماذج التي وضعناها عن التطور البشري الحديث.

ما الروابط التي نشأت بين الدماغ والجهاز الهضمي بمرور الوقت؟

كما أن دماغنا لم يتمكن من التطور إلى هذا الحد إلا بفضل تعاونه الوثيق مع الجهاز الهضمي، كذلك لم يصبح جهازنا الهضمي فاعلاً إلى هذا الحد إلا بفضل دماغنا. وهكذا يكون التعاون بينهما متبادلاً. فقد تطورا معاً لأسباب أساسية ترتبط بالطاقة. خلال الراحة، يستهلك الدماغ نحو 20% من الطاقة التي ينتجها جسمنا، في حين أنه لا يمثل سوى 2% من وزنه. فمن أين تأتي هذه الطاقة؟ من الأمعاء التي تمتصُ من الطعام الوقودَ الضروري للدماغ.

كيف نجح الإنسان خلال عملية التطور في تخطي هذه الحاجة المتنامية إلى الوقود؟

تطوّرت أسرة الإنسانيات باعتمادها على تركيبة اجتماعية وتقنية أكثر تعقيداً... نتيجة لذلك، احتاجت إلى دماغ أكبر حجماً. لكن الغذاء التقليدي الذي تتبعته القردة العليا لا يلائم إنساناً يملك دماغاً يفوق حجمه بخمسة أضعاف حجم دماغ أي من الثدييات الأخرى التي تملك القامة ذاتها. لنتأمل في مثال الغوريلا التي تتغذى بنباتات لا تقدّم لها طاقة كبيرة. على هذا الحيوان أن يتناول الطعام بكثرة، فضلاً عن أن أمعاءه طويلة جداً وتتطلب الكثير من الطاقة. ومع غذاء مماثل، على الإنسان أن يلتهم الطعام طوال النهار والليل كي يؤمن حاجات دماغه. لكن الإنسان نجح في تخطي مشكلة مماثلة باختياره أطعمة تحتوي على مقدار أكبر من السعرات الحرارية، مثل اللحوم والدهون. ويتجلى هذا التبدل في نظامه الغذائي بشكل واضح قبل مليوني سنة تقريباً. فساهمت هذه الخطوة في الحد من طول أمعائه، مؤمنةً في الوقت عينه الغذاء الضروري للدماغ الذي كان يزداد حجماً. ما عادت الأمعاء تحتاج إلى مقدار كبير من الطاقة لتهضم الطعام، فخُصص هذا الفائض للدماغ. وتنطبق الظاهرة عينها على إنتاج الكتلة العضلية، عندما حل السلاح والأداة محل القوة العنيفة.

ساعد الدماغ، الذي ازداد حجماً وذكاءً طبعاً، الإنسان على اختيار طعامه بفاعلية أكبر.

نعم، أتاح له الاصطياد بمهارة أكبر وتطوير أسلحة أكثر تعقيداً... وهكذا كانت الفائدة متبادلة. صحيح أن الدماغ الكبير يحتاج إلى الكثير الطاقة التي تؤمنها الأمعاء، إلا أنه يسمح أيضاً للإنسان بالحصول على طاقة أكبر من محيطه. وخلال عملية التطور، ابتكر الإنسان أساليب عدة لتوفير الطاقة بغية تخصيصها للدماغ.

هل يشكّل استعمال الأدوات جزءاً من هذه الإستراتيجية؟

يتطلب تناول قطعة لحم نيء الكثير من الطاقة لتقطيعها، مضغها، ومن ثم هضمها. نتيجة لذلك، تعلّم الإنسان قبل نحو مليوني سنة تقطيع اللحم، سحقه، وفرمه وتحضير الطعام، ما سمح لجسمنا بتوفير الطاقة.

وماذا عن طهو اللحم؟

يشكّل الطهو مرحلة بالغة الأهمية، إلا أن الإنسان لم يتعلمه إلا بعد وقت طويل. تعود الإشارات الواضحة والمنتظمة إلى استعمال النار إلى 400 ألف سنة فقط. حتى تلك المرحلة، كان الجسم يكبر مع نمو الدماغ. ولكن مع انتشار الطهو، واصل الدماغ وحده النمو. صحيح أن هضم الطعام المطهو تطلب تبدلات جسدية ضخمة، إلا أن المكاسب التي حققناها في مجال الطاقة كانت كبيرة أيضاً. لذلك صارت كل المجموعات البشرية تمارس طهو الطعام بطريقة أو بأخرى.

لمَ نشهد، إذاً، تفشي السمنة اليوم؟

دفعتنا مئات آلاف السنين من التطور إلى إنتاج الدهون وتخزينها، وتبدأ هذه العملية منذ الولادة... يحتوي جسم طفل الإنسان عند الولادة على كمية من الدهون تفوق ما نراه لدى صغير أي نوع من الرئيسات. وتُعتبر هذه الدهون مخزوناً ضرورياً للنمو من دون تعريض الدماغ لأي خطر. إذاً، تشكل وسيلة حماية في أوقات الشح. بالإضافة إلى ذلك، يملك الطفل المولود حديثاً دهوناً بنية يستخدمها الجسم لإنتاج الجزيئات الضرورية لنمو الدماغ في بداية حياته. أما حيوان الشمبانزي، الذي لا يقوم بالكثير خلال أيامه في حديقة الحيوانات، فيبقى نحيلاً لأن نمو دماغه وتطوره لا يتطلبان تخزين الدهون. ولكن في حالة الإنسان، يُعتبر الشح والحرمان بالغي الخطورة بالنسبة إلى دماغ هش يحتاج إلى مقدار كبير من الطاقة. في الماضي، كان الإنسان يبذل جهداً كبيراً ليؤمن غذاءه. ولكن في الدول الصناعية اليوم، يمضي الإنسان الجزء الأكبر من وقته بالجلوس أمام شاشة من دون أن يخسر شيئاً من طعامه أو يكفّ عن تخزين الدهون التي لا تتسنى له فرصة حرقها.

لا شك في أن تبدل النظام الغذائي أدى إلى تغيرات في ميكروبيوم الإنسان.

هذا مؤكد لأن الكائنات المجهرية التي تعيش في جسمنا تؤدي دوراً مهماً في عملية هضم الطعام وإنتاج الطاقة الضرورية. لا بد من أن أنواع الإنسانيات المنقرضة امتلكت ميكروبيوماً خاصاً بكل منها يتلاءم مع نظامها الغذائي، سلوكها، ودماغها... تبقى هذه صفحة من علم مستحاثات البشر لم نتوصل بعد إلى حل ألغازها.

دماغنا لم يتمكن من التطور إلا بفضل تعاونه الوثيق مع الجهاز الهضمي كذلك لم يصبح جهازنا الهضمي فاعلاً إلا بفضل دماغنا
back to top