ميلاجرو

نشر في 29-10-2016
آخر تحديث 29-10-2016 | 00:00
No Image Caption
صورة غير شخصية

• ميلاجرو.. اسمها ميلاجرو.

قلت له، وأنا أتأمل معجزتي الصغيرة الوردية اللون وهي تحرك أصابعها الحريرية الفاتنة، وتفتح عينيها الرماديتين الساحرتين على عالم من هلوسة وضباب، فينقشع الضباب.

• ووالدها؟ سألني من خلال ذهوله.

• لقد أحببته أكثر من أي رجل آخر في هذا العالم. أجبت بهدوء.

• أكثر مني؟

• أنت؟

فاجأني سؤاله!

• أنت لست رجلاً من هذا العالم؛ أنت شبح. شبح ينتمي إلى عالم آخر.

جواز سفري، البطاقة الشخصية، رخصة القيادة، سيرتي الذاتية، شهادة الخبرة، وثائق رسمية خاصة بمهنتي وأخرى بالفندق الذي كنت أعمل فيه، بطاقات مهنية (Business cards) لشخصيات متنوعة، قُصاصات أوراق وبطاقات مهمة وغير مهمة كانت منسية في الحقيبة. جَمَعها كلها ووَضَعها في مغلف كبير، تأبطه أثناء وقوفه وأشار إليّ أن أنهض.

• اتبعيني من فضلك.

كان مساعده يعيد إغلاق حقيبة ملابسي بعد أن فتشها تفتيشاً دقيقاً. أنزلها عن الطاولة، رفع المقبض وجرها ماشياً خلف الضابط الأول وتبعتهما بقلب يرتجف. الأول يتأبط مغلفاً يضم كل أوراقي الثبوتية والآخر يجر حقيبة تضم ما تيسر لي جلبه من ملابسي وأغراضي الشخصية. يتأبّطان ويجرّان الإنسانة التي كنتها خلال خمسة وأربعين عاماً، وأنا خلفهما خيال إنسانة، خاوية اليدين، خاوية الوجدان، أمشي خلفهما لا أدري إلى أين، وأشعر بالعري والغربة.

غادرنا المخفر حيث (سلّمت نفسي)، ركبت معهما سيارة شرطة، وتوجها بي إلى مركز تسيير أمور اللاجئين في بلدة قريبة. وصلنا بعد نصف ساعة، طلبا مني النزول، دخلنا المبنى بهدوء وتوجهنا إلى مكتب تلقفني فيه عدد من الموظفين، أولهم أخذ بصماتي، والثاني أسندني إلى حائط أبيض وصورني، والثالث سألني أسئلة عدة واستعان بملف الوثائق الذي قدمه له الضابط الأول، ليطبع بعد دقائق ملفاً جديداً يحمل اسمي وأقبح صورة التقطت لي في حياتي.

أُضيف الملف ذو الصورة القبيحة إلى باقي الوثائق في ذلك المغلف، الذي أعاد الضابط الأول تأبّطه بعد أن أشار إلينا أن ننطلق من جديد.

سارت بنا السيارة، وتوقفت بعد مسافة قصيرة أمام مبنى حكومي ضخم حيث ترجلنا. أنزل الشرطي المساعد حقيبتي وكومبيوتري المحمول، وقادني خلف الضابط إلى الداخل.

في مكتب مشمس هناك، بدأ الضابط نفسه التحقيق معي. على يمينه جلست امرأة شابة مكتنزة وجميلة الوجه، مع حجاب رقيق ألقته بلطف على شعرها، كانت عيناها مكحولتين بكحل شرقي، مع أهداب طويلة وكثيفة. عرفتني إلى نفسها بأنها {أسيل}، المترجمة الخاصة بي خلال هذه المقابلة، عراقيّة الأصل، مقيمة في النمسا منذ سبع سنين. كانت في غفلة من الضابط تحاول أن تتواصل معي بعينيها وحاجبيها وأصابعها، لتفهمني ما يجب أن أقول أو لا أقول، كانت مصدومة لأنني سلّمت الضابط جواز سفري، وتجدّدت صدمتها حين اطّلعت على وثائقي التي تحوي بطاقات الطائرة الإلكترونية، بطاقات مترو في مدريد، وبطاقات VIP لحضور مباراة كرة قدم بين ريال مدريد وليفانتي في السنتياغو برنابيو.

• كيف ومتى دخلت الأراضي النمساوية؟ باشر الضابط استجوابي.

• 21 آذار.. من مطار فيينا. أجبت.

• معك سمة دخول نظامية.. شينغن.. لمدة عامين.. صادرة من السفارة الإسبانية في بيروت.. كيف حصلت عليها؟

• بطريقة نظامية أيضاً.

• لمدة عامين؟ أي سوري يحصل على فيزا لمدة عامين اليوم؟

• أنا لم أحصل عليها اليوم، حصلت عليها منذ عامين، ولم يكن هدفي أن أستعملها للهروب من سوريا أو للهجرة، طلبتها بقصد السياحة، كنت أعمل في سوريا مديرة لفندق في مدينتي حلب. وكان الموظفون في السفارة الإسبانية في بيروت من أهم زبائن الفندق، وتطورت علاقتي بهم إلى مودة وصداقة. حين طلبت الفيزا لم يترددوا في منحي إياها لمدة عامين بضمانتهم الشخصية استناداً إلى معرفتهم بي ووفقاً لسمعتي الحسنة.

• لماذا تركت سوريا؟ وتوقفت عن ممارسة مهنتك؟

• بسبب الحرب طبعاً. توقفت عن ممارسة مهنتي في نفس اليوم الذي اندلعت فيه الحرب في أزقة حلب القديمة... وهي اليوم مدمرة كلياً كحال معظم المنطقة الأثرية القديمة في حلب حيث كان يقع الفندق، الذي هو عبارة عن دار حلبية أثرية أُعيد ترميمها مع المحافظة على طابعها الشرقي القديم.

بوجه خال من أي تعبير، وعينين مسمرتين على شاشة الكومبيوتر، كان يطبع ما يسمع مني عبر المترجمة بسرعة فائقة، وينتقل من سؤال إلى آخر:

• ما دمتِ حاصلة على فيزا من السفارة الإسبانية، لماذا لم تتقدمي بطلب لجوء إلى إسبانيا؟ ألست مطلّعة على اتفاقية {دبلن}؟ هذه الاتفاقية هي نظام قانوني وضعه الاتحاد الأوروبي لتنسيق التعامل الموحد في قضايا اللجوء ببلدانه.

• لقد فعلت، عندما وصلت إلى النمسا استشرت محامياً حول نيتي التقدم بطلب لجوء، أفادني أنه حسب اتفاقية {دبلن} تلك يجب أن أتقدم في إسبانيا وليس في النمسا، حيث أن الأمل ضعيف بأن توافق النمسا على منحي حق اللجوء كون الشروط الواردة في {دبلن} لا تنطبق عليّ، وعليه توجهت إلى مدريد لأتقدم بالطلب هناك اختصاراً للوقت.

• كيف ذهبت إلى مدريد؟

• بالطائرة، كانت الفيزا ما تزال سارية المفعول.

• ولماذا رجعت؟

• لأنني عندما ذهبت إلى المكتب المختص في مدريد لأتقدم بأوراقي، أفادوني بأنه عليّ أولاً أن أتصل لأحدّد موعداً لمقابلة مبدئية. عندما اتصلت حدّدوا لي موعداً بعد خمسة أشهر، لم أصدق في البداية واعتقدت أن في الأمر سوء فهم، لكنني بعد الإلحاح والاستفهام عرفت أن تاريخ الموعد صحيح بسبب الأعداد الهائلة من الطلبات التي تنتظر دراستها والبت بأمرها، وعندما قلت لهم إنني لا أملك مأوى في مدريد ولا ميزانية كافية لأبقى طيلة هذه المدة في انتظار المقابلة، وإن مدة الفيزا ستنتهي بعد أيام وسيصبح وجودي غير شرعي على الأراضي الإسبانية. لم أحصل على ردٍّ شافٍ، قال لي الشاب المختص بالخدمة الاجتماعية للاجئين إنه يتفهم وضعي، ويدرك صعوبته، ولكن! عليّ أن أنتظر.

• وإذاً؟

• إذاً!! كان من المستحيل أن أبقى هناك وأنام في الحدائق العامة، فضّلت العودة إلى النمسا لأحاول أن أتقدم بطلب اللجوء فيها، ما دام الوقت ضائعاً في كل الأحوال.

• ولماذا النمسا؟

• لأن لي أصدقاء فيها مقربين وقدامى، صديقة طفولتي في حلب، تعيش هنا منذ حوالى عشرين عاماً مع زوجها وأولادها، وهي تحمل الآن الجنسية النمساوية. عرضت استضافتي وتقديم المساعدة. قبلتُ عرضها بسرور لأنه لا بديل عندي. تعرّفت من خلالها على عدد من الأصدقاء هنا وأحببت المدينة، وأتمنى أن أؤسس لحياة جديدة فيها.

المترجمة العراقية، أضافت على لساني باجتهاد شخصي منها شيئاً عن احترام النمسا لكرامة وحقوق الإنسان كسبب إضافي لرغبتي بالاستقرار فيها، وشيئاً آخر عن الظروف الاقتصادية الصعبة والبطالة في إسبانيا.

• وماذا تفعل في حقيبتك بطاقات مباراة كرة القدم بين ريال مدريد وليفانتي؟ هي غالية الثمن أليس كذلك؟

حاول أن يكون حيادياً أيضاً عندما طرح هذ السؤال، لكنني لم أغفل عن سخرية لئيمة وشيء من الاستهجان بدا واضحاً في سؤاله كما لو أن أشياء كهذه لا يليق أن تكون موجودة في حقيبة طالب اللجوء! وسألت نفسي ما الذي يجب أن يكون موجوداً فيها إذاً، كسرات من الخبز اليابس أم مناديل قذرة لتجفيف الدموع؟!

• لم أدفع ثمنها، صديق لي في إسبانيا دعاني للحضور. هو معتاد على دعوة زبائن الشركة التي يعمل فيها (كجزء من عمله) لحضور المباريات ببطاقات مخفضة الثمن حسب اتفاقية بين الشركة ونادي ريال مدريد. وقد صادف أن دعا أحد الزبائن أثناء وجودي في مدريد وسألني إذا كنت أحب مرافقتهما، فوافقت بكل سرور، وكنت سعيدة جداً بالذهاب إلى السنتياغو برنابيو، فاحتفظت بالتذاكر للذكرى.

• قلت إن لا أصدقاء لك في إسبانيا!

• عفواً، لم أقل هذا، عندي في إسبانيا أصدقاء وقد دعموني كثيراً، لكنها صداقة حديثة العهد لم تصل إلى درجة من الحميمية تسمح بأن أقيم عندهم لمدة خمسة أشهر.

مضت حوالى ثلاث ساعات وأسئلة مختلفة ومتنوعة تنهال عليّ. ما اسم صديقتي في النمسا؟ وأين تقيم؟ كم دفعت ثمناً لتنقلاتي بين سوريا ولبنان والنمسا وإسبانيا؟ ما هي البلاد الأوروبية التي زرتها خلال تلك الفترة مستخدمة هذه الفيزا؟ وما سبب الزيارة؟ هل عندي أقارب في أوروبا؟ وأين؟ هل عندي عائلة في سوريا وممن تتكون؟ هل سبق لي الزواج؟ هل أنجبت أطفالاً؟...

الشرطي المساعد، الذي فتش حقيبتي سابقاً، والذي كان يفتش في جهازي المحمول (Laptop)، تدخل بتردد في الحوار وسألني مشيراً إلى الشاشة أمامه:

• هل هذا هو الفندق؟

قمت إليه، ونظرت إلى القاعة الشرقية المسترخية بجلال على سطح الشاشة، بسجادها ذي النقوش البديعة، ووسائدها المخملية الخمرية المقصبة الحواشي، وستائرها الحريرية وفوانيسها النحاسية ذات الخرز الملون.

• نعم، هذه إحدى قاعات الاستقبال. قلت، وانتقلت به إلى الصورة التالية، حيث الألوان الخمرية والعاجية والنحاسية استحالت سوداء ورمادية.

• هذه هي القاعة نفسها اليوم.

نظر إليها مجدداً، حمل الجهاز إلى الضابط وأطلعه على الصور، هزّ الاثنان رأسيهما بتجرّد، بينما كانت تصدح في رأسي ألحان شرقية يرتّلها ناي حزين، وتعبق عيدان البخور وروائح المسك والعنبر، ويتكاثف دخان أسود فوق جمر مستعر، ويفوح الموت والبارود.

back to top