المجتمع الياباني... والانغلاق

نشر في 27-10-2016
آخر تحديث 27-10-2016 | 00:15
يرى الكاتب الأميركي «روبرت كريستوفر» أن المجتمع الياباني مجتمع منغلق، في حين يرى د. مسعود الضاهر أنه يختلف جذرياً عما هو عليه في النظام والتقاليد الغربية، فالفرد في الغرب هو الأساس الذي تبنى عليه كل النظريات السياسية والحقوقية والإبداعية وغيرها، في المقابل تشكل الجماعة قاعدة النظم اليابانية.
 خليل علي حيدر اهتم الباحثون في الشؤون اليابانية بالوصول إلى فهم أعمق للشخصية اليابانية، وبخاصة إن كان الياباني "فرديا" مثل الإنسان الأوروبي، أي Individualist، كما تتطلب قيم الاقتصاد الحر والفلسفة الرأسمالية، أم هو كأغلب الشعوب الشرقية أو كلها، شخص "جماعي"؟

ومن هؤلاء الباحثين في خصائص الشخصية اليابانية الصحافي والكاتب الأميركي "روبرت كريستوفر" Christopher، المتوفى عام 1992 عن 68 عاماً، مؤلف كتاب "العقل الياباني" The Japanese Mind، الصادر عام 1982.

شرح كريستوفر في هذا الكتاب، ضمن 14 فصلا، سمات العقلية اليابانية، من واقع خبرته كعسكري ضمن القوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية التي احتلت اليابان بقيادة الجنرال "ماك آرثر"، ومن زياراته المتكررة منذ ذلك الوقت لليابان حتى وفاته، ويقول في مقدمة الكتاب: "أحد الأسباب التي دفعتني إلى وضع هذا الكتاب، الاعتقاد بأن الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع اليابان ستؤثر في رفاهيتنا well-being القومية أكثر من تعاملنا مع أي دولة أخرى باستثناء الاتحاد السوفياتي".

اعتبر كريستوفر المجتمع الياباني مجتمعاً منغلقاً exclusionary، و"وسيلتك الوحيدة لنيل اعتراف اليابانيين بانتمائك إليهم أن تولد في قبيلتهم". و"هناك مثلا، كما يضيف، قرابة المليونين من اليابانيين المنبوذين يدعون Eta وترجمتها " الملوثون تماماً" full of filth، يسمون اليوم من باب التورية والكياسة Burakumin، أو سكان القرى الصغيرة المتواضعة Hamlets، ورغم صعوبة تمييزهم من الظاهر عن بقية الشعب، فهم يعيشون في عزلة داخل أحياء خاصة ghetos تسمى باليابانية "براكو" Buraku، حيث يتعرضون فيها بانتظام للتمييز الاقتصادي والاجتماعي ويتحاشاهم المجتمع في التزاوج". (P.49-50).

في كتابه "النهضة اليابانية المعاصرة: الدروس المستفادة عربياً"، بيروت، مركز دراسات الوحدة، 2002، يقارن الباحث اللبناني البارز في الشؤون اليابانية د. مسعود الضاهر الشخصية اليابانية بالغربية، وبخاصة مفهوم الفردية أو الإنسان الفرد في المجتمع الياباني، لأن مضمونه "يختلف جذرياً عما هو عليه في النظام والتقاليد الغربية، فالفرد في الغرب هو الأساس الذي تبنى عليه كل النظريات السياسية والحقوقية والإبداعية وغيرها. في المقابل تشكل الجماعة قاعدة النظم اليابانية، سواء في المدرسة، أو العمل، أو المجتمع، ولا يعطى الفرد موقعاً متميزاً على حساب الجامعة في الممارسة العملية".

ورغم وجود أحزاب اشتراكية وشيوعية قوية نسبيا في الحياة السياسية اليابانية فإن الأيديولوجيا السائدة في اليابان، في تحليل د. الضاهر، " قومية محافظة جداً"، ويقول إنها "تبشر بخصوصية اليابان كمجتمع فريد من نوعه في العالم من حيث تجانس أفراده وانتشار الروح الجماعية على نطاق واسع فيما بينهم. ويرى باحثون يابانيون أن النظريات الاجتماعية التي تمجد دور الفرد وطاقاته الإبداعية على حساب الجماعة لم تلق أي نجاح في اليابان لأن روح الجماعة هي القاعدة التي تنبني عليها القومية اليابانية ونظرية "Nihon Jin Ron". وقد تبنت قلة فقط من علماء الاجتماع اليابانيين نظريات غربية تشدد على الحريات الفردية والمبادرات الشخصية، لكن دراساتهم لم تلق نجاحاً كبيرا بسبب غلبة تقاليد الجماعة على كل ما يمت إلى الفردية بصلة".

كيف يفسر الفكر السياسي الياباني صلة التجربة اليابانية بالاقتصاد الحر، وقيم العولمة والنظام الرأسمالي؟

"وجد بعض الباحثين اليابانيين في مقولة الطبقة الوسطى العريضة في اليابان مخرجا لصرف النظر نهائيا عن دراسة الحريات الفردية إلى دراسة أوضاع الطبقة الوسطى التي يفخر اليابانيون بأنها الأوسع حجما قياسا إلى جميع البلدان الأخرى، المتطورة منها والنامية على حد سواء، وقد توصل باحثون يابانيون إلى استنتاجات طريفة تقول بخصوصية الرأسمالية المطبقة في اليابان استنادا إلى خصوصية الطبقة الوسطى العريضة فيها، والتي تزيد على 90 في المئة من عدد السكان، ونشر بعضهم مقولات تؤكد أن نمط الرأسمالية المطبق في اليابان أكثر من الأنماط المطبقة في البلدان الأخرى، وأن هذا النمط من الرأسمالية "الإنسانية" يتلاءم مع طبيعة المجتمع الياباني، وقد يصبح نموذجا يحتذى لكثير من الدول المتطورة في عصر العولمة".

ولا يجد د. الضاهر أي مشكلة في الانطوائية المهيمنة على المجتمع الياباني، بل يشير إلى مبررات يراها مقنعة أو مقبولة لعزلتها فيقول: "يشكل المجتمع الياباني المعاصر واحداً من أكثر مجتمعات العالم تجانساً وتعقيدا في نهاية القرن العشرين، ولعل أهم الأسباب لتمايز اليابان في هذا المجال هو أن غالبية دول العالم تشكلت أساسا أو فتحت أبوابها لاحقا لهجرات كثيفة من الدول الأخرى، بحيث باتت تضم كتلا كبيرة من القوميات، والأعراق، والأديان، واللغات، والثقافات، والتقاليد. وبقدر ما كان ذلك التنوع مصدر غنى ثقافي وحضاري في بعض تلك الدول، كان أيضا مصدر نزاعات داخلية وحروب أهلية في دول أخرى".

ماذا عن حقوق المرأة اليابانية في تجنيس أبنائها من زوج أجنبي بالجنسية اليابانية، كما هي الحال في الغرب؟

يقول الباحث: "لقد حافظت اليابان بدقة على "نقاوة" العرق الياباني لدرجة أن الحصول على الجنسية اليابانية ما زال أمرا صعباً جداً، حتى لو بقي مستحقوها عشرات السنين مقيمين في اليابان بشكل متواصل، وتزوجوا من نساء يابانيات، ونال أبناؤهم الجنسية اليابانية وبأسماء يابانية وليس أجنبية، وهي مسألة معقدة جداً، ولا تجد تفسيرا لها إلا بحرص اليابان على تقاليدها الموروثة التي كانت تنظر إلى الأجانب (Gaijin) كأعداء محتملين أكثر مما تنظر إليهم كأصدقاء دائمين". (النهضة اليابانية، ص321).

يفسر باحث ياباني يدعى ناوهيرو أمايا Noohiro Amaya في مقال عام 1980 تناقضات مجتمعه إزاء قيم الحداثة بالقول إن اليابان منذ أن تم فتحها للمؤثرات الغربية قبل أكثر من قرن، بات للمجتمع طيتان أو طبقتان كالدماغ البشري. القيم الغربية والأساليب الحديثة بما تتضمن من احترام لحقوق الفرد، يقول "أمايا"، تهيمن على "الطبقة الخارجية" من هذا المجتمع، والتي تماثل في الدماغ البشري شريحة Neopallium الخارجية، في حين تهيمن أخلاقيات القرية اليابانية التقليدية على الشريحة الداخلية paleopallium من الدماغ، حيث ينبع السلوك الفطري.

ويضيف أمايا "أن مجموعات كالمثقفين التقدميين، ومبجلي أميركا وأوروبا، ومعظم الصحافيين وأحزاب المعارضة التقدميين، يؤمنون فيما يبدو، أن الشريحة الخارجية تمثل هنا "اليابان المثالية" أو النموذجية Ideal Japan، في حين لا يزال مركز الدماغ الياباني، شئنا أم كرهنا، حياً نابضاً. وفي هذا الجزء من الدماغ تتفوق قيم المجتمع والجماعة Community values على القيم الفردية".

(The Japanese mind, P.302).

الباحث الياباني ناوهيرو أمايا يؤكد أن اليابان منذ أن فُتحت للمؤثرات الغربية بات للمجتمع فيها طبقتان

اليابان حافظت بدقة على نقاوة العرق الياباني لدرجة أن الحصول على الجنسية اليابانية ما زال أمرا صعباً جداً. ضاهر
back to top