هل يبكي الرجال؟... نعم !

نشر في 26-10-2016
آخر تحديث 26-10-2016 | 00:02
No Image Caption
كان من الممكن لتلك اللحظة أن تبدّل حياة ابني.
دخل نيكولاس (5 سنوات) بسرعة من الباب بعدما كان يلهو في الخارج، حيث سقط وجُرحت ركبته. لكن الضمادة لم تكن غايته الوحيدة. أراد البكاء والارتماء بين أحضاني أنا أمه.
عندما دخل المطبخ، وضع الجار الذي كنت أدردش معه يده على كتف ابني. ظننت أنه سيواسيه، لكنه صدمني بما تفوّه به. قال لابني بكل جدية: «لا يبكي الصبية الكبار».
أخبرت نيكولاس أن جارنا مخطئ، وأن التعبير عن المشاعر بطريقة صائبة، سواء كانت سعادة، أو حزناً، أو خوفاً، أو قلقاً، خطوة جيدة ومرحب بها في هذا المنزل. ولست الوحيدة التي تؤيدها.

يتناول بحث سريري أخير وفيلم وثائقي صدر عام 2015 مخاطر وتداعيات حضّ الفتيان على كبت مشاعرهم وخنق عواطفهم، من ثم تبني فكرة «الرجل القوي» النمطية. في الوقت عينه، بدأ الخبراء في مجال علم النفس، الاختلافات بين الجنسين، ومعالجة الأطفال النفسية، يدركون أننا حين نمنع الفتيان من التعبير عن مشاعرهم وفهمها، نسمح لهم بالتأخر في الحياة. حتى إننا نعرّض صحتهم للخطر.

تذكر الدكتورة جوديث جوردن، مديرة معهد ميلر للتدريب في مركز المرأة في جامعة ويلسلي: «يبدو الأمر أشبه بالطلب من الفتيان الضغط على دواسة الوقود والمكابح في آن».

جوردن الرائدة في مجال الدراسات الجنسية، خصصت جزءاً كبيراً من بحوثها لصحة الرجال والفتيان العاطفية والجسدية. تذكر: «للفتيان مشاعر وعواطف، ويحتاجون إلى التعاطف والتفهُّم. إلا أننا نقول لهم: لا تكونوا مدللين، أو لا تبكوا. وهكذا نولّد تصادماً بين حاجة الفتى العصبية- الحيوية والبشرية إلى علاقات طبيعية وبين ثقافة تعتبر أن على الصبي ألا يُعرب مطلقاً عن الضعف».

نتيجة لذلك، يتحوّل الصبية، وفق جوردن، إلى رجال معزولين يعانون القلق، الكآبة، والوحدة. ولا شك في أن هذا الأمر ينعكس أيضاً على صحتهم الجسدية.

في السياق نفسه، يشير الدكتور مات إنغلار-كارلسون، مدير في مركز كال ستايت فولرتون للصبية والرجال («محور» سريري وبحثي في قسم الاستشارة في هذه المدرسة)، إلى «علاقة وثيقة بين صحتنا العقلية وصحتنا الجسدية».

يشدّد المركز على البحوث والوعي الاجتماعي المرتبطين بصحة الصبية والرجال العقلية، خصوصاً تأثيرات الصدمات في الصبية وانعكاسات علاقاتهم الاجتماعية، السلبية منها والإيجابية، في مراحل لاحقة من حياتهم.

سلّط الضوءَ على هذه المشاكل فيلم The Mask You Live In عام 2015، مركّزاً على الضرر النفسي الذي يلحق بالصبية الذين لا يفهمون مشاعرهم، ولا يُسمح لهم بالتعبير عنها بطريقة سليمة.

أسر الفيلم المشاهدين في مهرجان ساندانس للأفلام، وأطلق نقاشاً حول أهمية فهم حاجات الصبية العاطفية الفريدة.

يحتاجون إلى المواساة

يؤكد الخبراء أن الحل يبدأ من المنزل. توضح الدكتورة أنجو حورية، بروفسورة سريرية متخصصة في علم النفس والسلوك البشري في جامعة كاليفورنيا بإرفاين: «يجب أن تقوم الأسرة على الصراحة العاطفية. لكنّ فتياناً كثراً يتلقون رسائل محددة في الأسرة مفادها أن مشاعرهم سيئة».

تتابع الدكتورة مؤكدة أن فكرة «الرجل القوي» هذه تؤدي إلى صبية يعجزون عن التعبير عن مشاعرهم، يعانون الكآبة والقلق، ويفتقرون إلى العزم للنهوض مجدداً بعد مواجهة الصعاب.

توضح حورية أيضاً: «لا داعي لأن نعلّم الصبية «الشدة». على العكس، يريد الفتيان علاقة عاطفية مماثلة لما نقيمه مع الفتيات، لا بل هم بأمس الحاجة إليها».

«تُظهر البيانات أن أوجه الاختلاف بين الفتية والفتيات قليلة. رغم ذلك، نقول لأبنائنا إن الإعراب عن المشاعر معيب»، وفق إنغلار-كارلسون.

يعتقد الباحث أن هذا العيب يكون مخفياً وقوياً، موضحاً أن الفتى أو الرجل «القوي» يملك مشاعر، غير أنه يعجز عن التعبير عنها بطريقة سليمة لأنها لم تُحترم وتلقَ القبول.

لكن عدم احترام هذه المشاعر يؤدي إلى عواقب كثيرة. يشير إنغلار-كارلسون إلى أن الفتيان، الذين لا تلقى مشاعرهم القبول والتفهُّم، يواجهون صعوبة في التحكم في ردود فعلهم العاطفية. «لا يُعتبر هؤلاء الصبية أكثر عدائية، بل يلاقون صعوبة في التحكم في رد فعلهم فحسب»، حسبما يوضح.

تبدأ المشكلة في مرحلة باكرة من الحياة. يقول إنغلار-كارلسون: «تشير بياناتنا إلى أن الاختلاف في تربية الفتيان والفتيات يبدأ في مرحلة باكرة من حياتهم. صحيح أن الأطفال الذكور يكونون أكثر تعبيراً عن مشاعرهم، مقارنة بالإناث. إلا أننا لا نسمح لهؤلاء الصبية بمواصلة التعبير عن مشاعرهم فيما يكبرون».

يقدّم الباحث مثال الصبي والفتاة اللذين يجرحان ركبتيهما. تحصل الفتاة عموماً على معانقة، مواساة، وفيض من الكلمات اللطيفة من الأهل والبالغين الآخرين. في المقابل، يسمع الصبية عبارات مثل «اصمت»، «تشجّع»، أو «انسَ الأمر».

«لكن الصبية ليسوا رجالاً صغاراً، وعلينا معاملتهم كأولاد. يحتاجون إلى العناق والمواساة والتفهُّم. يحتاجون إلى التواصل».

فوائد للفتيات أيضاً

لكنّ الطلب من الصبي التصرف «كرجل» يسيء للفتيات أيضاً. عندما نعرّف الرجولة ضمن نطاقها الضيق، نقلص القدرة على التفرّد والتعبير لدى الرجال والنساء على حد سواء.

عن هذه النقطة يقول إنغلار-كارلسون: «عندما تطلب من صبي التصرّف كرجل، يعتقد أن عليه أن يعيش تجارب الحياة كافة من خلال الغضب. وحين يعجز الصبي عن التحكّم في غضبه ومشاعره، يكبر ليصبح رجلاً أكثر عدائية في تعامله مع المرأة».

ولكن حتى لو لم يلجأ إلى العنف، يشعر الرجل أحياناً بخجل إن أعرب عن الرقة. «نتيجة لذلك، تهتزّ علاقاته».

وتؤكد جوردن أن «أسوأ ما قد تقوم به أن تقول لصبي: لا تتصرف كفتاة». فلا تحقق عبارة مماثلة أي هدف غير تعزيز مفهوم أن تصرفات المرأة، بما فيها التعبير عن المشاعر، مخجلة.

حلّ المشكلة

ولكن إن كان حملنا أبناءنا على التحلي بالقوة وإخفاء مشاعرهم يسيء إليهم في مراحل حياتهم المختلفة، فما الحل؟

تشدّد جوردن على أن الدرب أمام الصبية صعب. تقول: «علينا أن نساعد أبناءنا ليعبروا عن مشاعرهم، فضولهم، حنانهم، اهتمامهم، وتعاطفهم. ولكن علينا أن نحرص أيضاً على أنهم يعيشون بأمان بين نظرائهم، وأنهم ليسوا عرضة للاستهزاء والتنمّر. فلا أحد يود إرسال ابنه إلى عرين الأسد».

نتيجة لذلك، تشجّع الأهل على تحويل المنزل إلى مكان آمن للتعبير عن المشاعر والتواصل، معلمين أبناءهم في الوقت عينه أن المنتزه أو ملعب المدرسة لا يشكّلان على الأرجح مكاناً مناسباً للتعبير عن المشاعر.

تقدّم حورية أيضاً نصائح للأهل الذين يودون تربية أبناء أصحاء عاطفياً. فبعد أن عملت مباشرةً مع مجموعة من المراهقين وعائلاتهم في عيادة خاصة طوال أكثر من عقد، استنتجت أن الحلّ يبدأ مع الوالدَين. توضح: «يمكنك تدريب الإنسان وتعليمه كيفية التعبير عن مشاعره. ولا شك في أن الأولاد وأهلهم يتمتعون بالقدرة على تعلّم هذه المهارة».

كذلك تشير حورية إلى فيلم آخر صدر حديثاً، معتبرةً إياه فرصة تعلّم كبيرة. يدور Inside Out من إنتاج «ديزني» حول مشاعر تعتمل داخل فتاة في الحادية عشرة من عمرها. لكن هذه المشاعر لا تختلف في حالة الفتيان. وهكذا يمكن استغلال الفيلم كنقطة انطلاق لمناقشة المشاعر المعقدة.

تقول عن الفيلم: «يستخدم كلمات بسيطة لوصف المشاعر. ولا شك في أنه يساعد الفتيان، الذين لا يُشجَّعون على التعبير عن مشاعرهم، على تحديد ما يدور داخلهم وفهمه».

في حالات كثيرة، يميل الفتى تلقائياً إلى تصنيف ما يشعر به على أنه غضب، مع أنه يعاني الحزن، الاستياء، الكآبة، أو القلق. «ولكن من الصعب التعاطي مع شعور لا تنجح في تحديده»، وفق الباحثة.

توصي حورية أيضاً الأهل بالاستماع جيداً إلى أبنائهم، مستغلين تلك اللحظات القصيرة (أثناء المشي مثلاً أو التنقل بالسيارة) التي يعرف خلالها الصبي أنه يستطيع التكلم بحرية وأمان.

بالإضافة إلى ذلك، من المهم أن يحوّل الأهل الحوار إلى جزء لا يتجزأ من روتينهم اليومي، فلا تقل هذه الخطوة أهمية عن تقبلكم ما يقوله ولدكم بعد ذلك. إذ «يحتاج الفتى إلى دعمكم. يريد أن يشعر أنكم تؤيدونه. لا داعي لأن تصلحوا المشكلة. بل عليكم أن تصغوا إليه وتدعموه فحسب».

كذلك تعتبر حورية أن سعي الأهل إلى حماية صحة أبنائهم العاطفية يعود بالفائدة عليهم هم أيضاً. توضح: «عندما يعبّر الرجل عن مشاعره ويتحدث عنها، يشجّع ولده على استكشاف ما يحسّ به وتطوير صحته العاطفية الخاصة».

وتوافقها جوردن الرأي، مؤكدةً أننا لا نستطيع تجاهل قوة وتأثير رسم نموذج عاطفي صحي لأبنائنا. تقول: «إن كان في المنزل رجل، فبإمكانه أن يرسم مثالاً حسناً ببنائه علاقات رقيقة، مشاركاً سائر أفراد الأسرة قراراته، والتعبير بشكل سليم عن مشاعره».

أما إنغلار-كارلسون، فيحضّ الأهل على الإظهار لأبنائهم أن أمامهم خيارات عاطفية صحية كثيرة تتيح لهم التعبير عن مشاعرهم وفهمها، وأن كتابة يوميات تشكّل أحد هذه الخيارات، خصوصاً إذا رفض الولد الكلام. ويؤكد الباحث أن الفتيان، الذين لا يملكون وسيلة يعبرون من خلالها عن مشاعرهم ولا يعرفون السبيل إلى التعاطي معها، يقعون في المشاكل غالباً. «فيحاولون البحث عن متنفس سواء من خلال الإدمان أو السلوك العنيف» .

اختلاف في النمو

من الضروري أن يفهم الأهل خصوصاً والمجتمع عموماً أن جسم الفتى وعقله ينموان بوتيرة مختلفة، مقارنة بمعظم الفتيات.

يقول إنغلار-كارلسون: «تنمو الفتاة عموماً بسرعة أكبر من الفتى. تتعلم اللغة، تعابير الوجه، وضبط النفس في مرحلة أبكر. لذلك من الضروري أن يكون الأهل أكثر تقرّباً من ابنهم، الذي ما زال يتعلّم هذه المهارات، وأكثر تنبهاً وتفاعلاً معه».

بالإضافة إلى ذلك، علينا مع تقدم الفتى في السن ألا نربط نضوجه العاطفي بعمره. يوضح الباحث: «يحصل الفتيان الذين يبدون أكبر سناً ويرتكبون الجرائم على أحكام أطول، مع أنهم لا يزالون صغاراً وغير ناضجين عاطفياً.

اذاً، قد يبدو فتى في الثانية عشرة من عمره رجلاً. ولكن من الضروري أن ندرك أنه يبقى في الثانية عشرة من عمره، وأنه ما زال ولداً وليس رجلاً بالغاً».

تأثير واسع

لا يقتصر تأثير طلبنا من ابننا أن يكون رجلاً بشكل مبالغ فيه على الفتى بحد ذاته، بل ينعكس أيضاً على مجتمعنا ككل. تذكر جوردن: «تكمن قوة مجتمعنا في تواصلنا. فلا يستطيع كل مَن يود تغيير المجتمع تحقيق ذلك بمفرده. حتى مارتن لوثر كينغ وروزا باركس شكلا جزءاً من حركة».

ولكن عندما «نلغي الفريق»، على حد تعبير جوردن، ونطلب من ابننا أن يتصرف «كرجل» بمفرده، نسلبه قدرته على التعاون، بناء فريق، وإحداث تغيير اجتماعي إيجابي. نتيجة لذلك، «نعاني كلنا»، وفق جوردن.

الخجل يؤدي إلى ألم عاطفي

«لا يزدهر الإنسان من دون تعاطف وتواصل. لذلك علينا أن نساعد أبناءنا على الشعور بأننا نتفهّمهم، وأن نحفز فضولهم حيال مشاعرهم. يلزم ألا نولّد في داخلهم خجلاً منها أو نجعلهم يشعرون بسوء حيالها. تؤذي الرجولة المفرطة والفردية الفتيان خصوصاً لأنهما تتضاربان مع ميلنا الطبيعي إلى التواصل»، وفق جوردن.

يُعتبر الخجل الناجم عن ذلك مدمراً، فالفتيان أكثر عرضة للموت انتحاراً بنحو أربعة أضعاف، مقارنة بالفتيات. واللافت، وفق إنغلار-كارلسون، أنهم أكثر عرضة أيضاً ليكونوا ضحايا العنف أو مرتكبيه.

بالإضافة إلى ذلك، لا تقتصر التأثيرات السلبية الناتجة من دعوتنا ولدنا إلى التصرف «كرجل» على سنوات المراهقة. يوضح إنغلار-كارلسون أن هؤلاء الرجال يقدِمون على خيارات في الحياة تعرّضهم للموت المبكر. وتشمل الأمثلة التي يقدِّمها: عدم وضع حزام الأمان أو اعتمار خوذة الدراجة، خوض العراك، عدم استعمال كريم واقٍ من أشعة الشمس، ورفض الخضوع لفحوص صحية دورية. صحيح أن الرجل قد لا يربط أنماط السلوك هذه مباشرةً بالأفكار النمطية التي تدعوه إلى التصرف كرجل قوي، إلا أننا لا نستطيع تجاهل العلاقة بينهما.

تشير جوردن: «عندما تتزعزع صحتنا العاطفية، يختل نظامنا بأكمله. على سبيل المثال، تندرج عزلة الرجل العاطفية وما يعانيه من إجهاد ضمن العوامل المسببة لارتفاع ضغط الدم ومرض القلب».

علاوة على ذلك، تؤدي هذه العزلة العاطفية إلى الوحدة في مرحلة لاحقة من الحياة. يوضح إنغلار-كارلسون أن شبكة الرجل المعزول عاطفياً الاجتماعية تزداد تقلصاً مع تقدّمه في السن ويتراجع إمكان ائتمانه أحداً على مشاعره. «يعجز هذا النوع من الرجال عن حشد الدعم العاطفي الذي يحتاجون إليه. لذلك يبقون وحيدين»، وفق الباحث.

خرافة «ابن أمه»

تشدّد حورية على أهمية تأثير الأم الإيجابي أيضاً. تذكر: «يكون الفتى شديد التعلق بأمه. لذلك تستطيع مساعدته بالإصغاء إليه، التعاطف معه، وبناء الثقة بينهما».

كذلك تشير جوردن إلى الأذى الذي تسببه خرافة «ابن أمه». توضح: «يوصف الصبي الذي تجمعه بوالدته علاقة قوية بالمخنث. لكن علاقة الأم بابنها بالغة الأهمية. لذلك من الضروري أن نشجّع الأم على السماح لابنها بالتواصل معها والتقرب منها لأن ذلك يجهزه لمواجهة العالم».

أما إنغلار-كارلسون، فيشدد على «أن الفتيان يتأثرون ويبكون كالفتيات تماماً. لذلك علينا تفهم ألمهم ودموعهم بالطريقة عينها التي نتعاطى بها مع الفتيات. ومن الضروري أن نتيح لهم المجال والوقت الكافيين للتعبير عن مشاعرهم».

صحيح أن هذه المشكلة كبيرة، إلا أن حلّها بسيط وفق الخبراء: لنسمح لأبنائنا بأن يشعروا، يستكشفوا مشاعرهم، ويعبروا عنها. نعم، لنسمح للفتى بأن يبكي.

فكرة "الرجل القوي" تؤدي إلى صبية يعجزون عن التعبير عن مشاعرهم

حين يعجز الصبي عن التحكّم في غضبه ومشاعره يكبر ليصبح رجلاً أكثر عدائية

الفتيان أكثر عرضة للموت انتحاراً بنحو أربعة أضعاف الفتيات
back to top