مرشح غير متزن... دونالد ترامب يستهدف جوهر الولايات المتحدة

نشر في 26-10-2016
آخر تحديث 26-10-2016 | 00:02
لكل بلد أسطورة عن نشأته تشكّل أساس هويته الوطنية وجوهرها. صحيح أن هذه الروايات قلما تصمد أمام التدقيق التاريخي، لكن لا يهمّ فهي تساعد الأمم في تحديد مَن ينتمي إليها.

في بلدان كثيرة حول العالم، خصوصاً في أوروبا، تقوم هذه الروايات إلى حد ما على العرق، والإثنية، والقبيلة، أو خاصية أخرى يتحلّى بها الشعب بطبيعته، حسبما يُزعم. على سبيل المثال، تتمحور الرواية في ألمانيا حول معركة وقعت في عام 9 قبل الميلاد في غابة تويتوبورغ، حيث اتحدت القبائل الجرمانية بقيادة أرمينيوس لإنزال الهزيمة بالرومان، ضامنةً من ثم استقلالها وسيطرتها على أراضيها. أما في رومانيا، فتقوم الرواية على فكرة أن الشعب متحدر من الرومان وأنهم استقروا في هذه المنطقة قبل ظهور أي من الأقليات الراهنة. كذلك سعى القوميون الأيرلنديون في القرن التاسع عشر إلى إعادة أصول بلدهم إلى الشعوب السلتية.

لكنّ الولايات المتحدة لطالما خرجت عن هذه القاعدة. في هذا البلد، لا ترتكز الأسطورة المؤسِّسة على خاصية إثنية محدَّدة، بل على وثيقة واحدة: الدستور. لتكون أميركياً يكفي أن تؤمن بالديمقراطية التي يحدّدها الدستور، بغض النظر عن أصولك. العرق، والدين، والإثنية، لا أهمية لها كلها، وفق هذه الرواية. أبقت هذه الفكرة رغم عيوبها هذا البلد موحداً على مرّ القرون. لكن المرشح للرئاسة دونالد ترامب يقدّم راهناً هوية مختلفة تماماً للولايات المتحدة، وربما تكون العواقب مريعة. التفاصيل من «شبيغل».

لا شك في أن التاريخ الأميركي يُظهر بوضوح أن حركة تحديد الهوية متأصلة في هذا البلد، خصوصاً في مسألة الانقسام العرقي. فالحركة المنادية بتميّز الولايات المتحدة، والتلويح بالأعلام، والروح الوطنية البارزة، وتلاوة قسم الولاء في المدارس، وانتقال السلطة سلمياً... تشكل كلها انعكاسات واضحة للإيمان بأن الولايات المتحدة، أقدم ديمقراطية في العالم، توصّلت إلى مسألة لم يبلغ العالم بعد درجة التنوّر الكافية ليفهمها تماماً. وترتكز هذه المسألة على ما كتبه الآباء المؤسسون، الذين نسمع الكثير عنهم، في الدستور.

لكن إحدى الصدمات الكبرى التي تعرضنا لها خلال الدورة الانتخابية الأخيرة كانت اكتشاف أن الأسطورة الوطنية الأميركية، التي تقوم على الديمقراطية الأميركية، ليست بالصلابة التي ظنناها، ويهدد دونالد ترامب بتقويضهما كلتيهما.

يُشكّل ترامب بالتأكيد إحدى التجليات الأكثر بشاعة لتنامي الازدراء بالديمقراطية الذي نما في السنوات الأخيرة في اليمين الأميركي وزكاه الحزب الجمهوري الذي لم يعترف يوماً بباراك أوباما كرئيس أميركي منتخب شرعياً. على العكس، اعتبره نتاج تعطّل الحكومة عن العمل، ومقدمي البرامج الحوارية الإذاعية الذين أمضوا سنوات في حبك نظريات المؤامرة، وجمهوريي حركة حفلات الشاي الذين رفضوا مفهوم الإجماع الديمقراطي، والحركة الانتهازية المناهضة للفكر التي أصبحت متجذرة في الحزب الجمهوري، حتى إن الأخير بات ينظر بريبة وعدائية واضحة إلى كل مَن يتمتع بنوع من الخبرات، خصوصاً الصحافيين.

خطاب ديكتاتور

يمكننا أن نستشف المدى الذي يبدو ترامب مستعداً لبلوغه عندما نتأمل الانسحاب الفاتر الذي أقدم عليه عدد من الجمهوريين البارزين حين أدركوا أنهم ما عادوا قادرين على تجاهل أن مرشحهم مفترس جنسي. ولكن بعد «تحرره»، حسبما ذكر ترامب بنفسه، يتضح جلياً أن الثامن من نوفمبر لن يشهد على الأرجح نهاية ما اعتاد وصفه ب«حركته الوطنية».

يبدو الخطاب الذي بدأ ترامب باستخدامه بشكل متزايد (أنه سيسجن هيلاري كلينتون إن فاز، وأن الانتخابات غير نزيهة، وأن على أنصاره مراقبة عملية الاقتراع عن كثب و«الحذر من المجتمعات الأخرى»، وأنه سيكبح لجام وسائل الإعلام «الفاسدة») خطاب حاكم مستبد. إلا أنه يلقى الترحيب من شريحة كبيرة من المجتمع، هذه الشريحة التي تشعر بأن قيادة بلدها تخلّت عنها، وأن العولمة سبقتها بأشواط، وأن التبدلات السكانية تهدّدها.

ربما يشير شعار حملة ترامب «جعل الولايات المتحدة عظيمة مجدداً» إلى أنه يلتزم برواية التميّز الأميركي، من ثم بأسطورة تأسيس الولايات المتحدة. لكن معظم ما يتفوه به (منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وتعزيز المراقبة المحلية، وتوسيع استخدام عمليات التعذيب) يتناقض مباشرة مع الدستور. اتضح أن «العظمة» التي يود ترامب العودة إليها لا تشمل المهاجرين والسود. يرغب المرشح في عظمة لا يواجه فيها الرجال الأميركيون أي مشقة، ما يسمح لتفوّقهم الطبيعي المزعوم بأن يبرز. وهو يقترح رواية مختلفة تماماً للهوية الأميركية، تقوم على العرق والدين.

في الثالث عشر من أكتوبر، أدلى ترامب بأحد خطاباته الأقل اتزاناً على الإطلاق. في حدث أُقيم في غرب بالم بيتش في فلوريدا، أعلن وجود «بنية قوى عالمية» تسلب الطبقة العاملة الأميركية. كذلك ذكر أن كلينتون «تلتقي سراً مع مصارف دولية بغية التخطيط لتقويض سيادة الولايات المتحدة»، وأن الانتخابات «تخضع لتحكّم مجموعة صغيرة من المصالح الخاصة العالمية التي تفسد النظام». الادعاءات التي تحمل صبغة مماثلة مناهضة للسامية شائعة في حركة «اليمين البديل»، لذلك لا عجب في أن تصل إلى خطابات ترامب، إذ أشارت Buzzfeed إلى أن ستيفن بانون، المدير التنفيذي في حملة ترامب، ساهم في كتابة الخطاب وهو أخذ إجازة من منصبه كرئيس مجلس إدارة موقع Breitbart News (أكّد بانون نفسه أنه «منصة لليمين البديل») للمشاركة في حملة المرشح الجمهوري.

تشمل الشخصيات البارزة الأخرى في مجموعة «التفوق الأبيض» هذه ألكس جونز، وهو مقدِّم برامج إذاعية يميني وخبير في نظريات الموأمرة يحظى بعدد كبير من المتابعين. نال أخيراً شهرة واسعة لادعائه بأن هيلاري كلينتون وباراك أوباما شيطانان تفوح منهما رائحة الكبريت. وفي شهر ديسمبر عام 2015، شارك ترامب في برنامج جونز وذكر أن مضيفه يتمتّع «بسمعة مذهلة».

رؤية مشوّهة

دبّر تلك الزيارة روجر ستون، استراتيجي جمهوري كان مستشار حملة ترامب حتى أواخر شهر أغسطس، علماً أنه ما زال نشطاً في هذه الحملة. ساهم في تنظيم «مسيرة منع السرقة» في مؤتمر الحزب الجمهوري التي هدفت إلى وقف جهود المؤسسة الجمهورية المزعومة لسلب ترامب ترشحه. كذلك تصدّر عناوين الأخبار هذه السنة حين نعت شخصية متحدرة من أصول لاتينية على شبكة «سي. إن. إن» ب«العاهرة الكبيرة» في إحدى تغريداته، وأشار إلى شخصية أخرى ب«الزنجي الغبي».

أضف إلى ذلك ادعاء ترامب الأخير أن هيلاري كلينتون كانت «متحمسة» خلال المناظرة الثانية بسبب تناولها المخدرات. يعود هذا المفهوم أيضاً إلى اليمين البديل، إذ ذكر ذلك على موقعه الإلكتروني Mad World News قبل وقت طويل من تأكيد ترامب السخيف هذا، علماً أن الموقع عينه عاد أخيراً إلى النظرية العنصرية المفضلة لدى اليمين عن أن ميشيل أوباما في الواقع رجل.

لا شك في أن اللائحة تطول. لكن الأدلة واضحة: لا ترتكز رؤية ترامب عن الولايات المتحدة على الدستور، بل على مفهوم أن الولايات المتحدة البيضاء تتعرّض لهجوم على الجبهات كافة ومن الضروري إنقاذها من المؤسسة. إذاً، تشكّل حركته الوطنية حملة ترتبط بالهوية تستقبل كل مَن يحلم بدولة أميركية لا تضمّ ديمقراطيين يؤيدون الحرية، بل من يدعمون ثورة ذكورية بيضاء للاستلاء على السلطة.

سلّح ترامب بخطابه هذه الحركة بكل ما تحتاج إليه لتمضي قدماً بعد انتخابات الثامن من نوفمبر. فرفضه التام لهيلاري كلينتون كمرشحة شرعية اختارها ديمقراطياً حزب سياسي يمثّل نصف الناخبين الأميركيين أو أكثر، فضلاً عن تحذيراته المتكررة من أن الانتخابات غير نزيهة، يزوّد اليمين الأبيض بالأعذار كافة التي يحتاج إليها ليواصل حملته بعد يوم الانتخابات. ومن الصعب العثور على تفسير للخطة التي كُشفت أخيراً، وهدفت إلى تفجير مجموعة تطلق على نفسها اسم «الصليبيين» مجمعاً سكانياً صومالياً في كنساس في اليوم التالي للانتخابات، غير أنه رد فعل تجاه دعوة ترامب الواضحة إلى النضال.

هل يستسلم؟

بعدما انتهت الحملة الضارية التي واجه فيها آل غور جورج بوش الابن عام 2000 بعملية إعادة فرز للأصوات في فلوريدا ومنح المحكمة العليا الرئاسة لبوش، أدلى غور بخطاب. ذكر فيه: «قالت المحكمة العليا الأميركية كلمتها. صحيح أنني أعارض بشدة قرارها، ولكن كونوا على ثقة بأني أقبله. أقبل ما آلت إليه هذه المسألة. ولأجل وحدة شعبنا وقوة ديمقراطيتنا، أقدّم الليلة موافقتي».

تشير استطلاعات الرأي إلى أن نتيجة الانتخابات لن تكون متقاربة إلى هذا الحد. ولكن بالنسبة إلى ترامب وأعوانه، ستشكّل هزيمته دليلاً إضافياً على أن الأميركيين الحقيقيين، أي البيض، تعرضوا للسلب مجدداً. ولا شك في أن تبديله الرواية الأميركية من بلد يقوم على الدستور إلى وطن متخَيَّل حديثاً للبيض المضطهدين لن يسمح له بالإدلاء بخطاب مماثل.

وبعدما نشر ترامب الوعد بولايات متحدة يسيطر عليها البيض، من المستبعد أن يتراجع أنصاره عقب الانتخابات. حتى لو رفض المرشح دور الرجل القوي الذي رسمه لنفسه، ستتواصل هذه الحركة التي قدّمت تعريفاً بديلاً للولايات المتحدة.

يعلّمنا التاريخ أن تبديل تعريف مماثل وتغيير الأساطير الوطنية يشكلان خطوة بالغة الصعوبة، تكون دموية غالباً. لكن هذا، فضلاً عن العواقب التي تترتب بالتأكيد على تبديل مماثل، سيشكّل إرث ترامب الفعلي. ولا شك في أنه إرث مريع.

back to top