الداعية غولن يناقش: هل الإنسان مُسيَّر أو مُخيَّر؟ (2- 2)

نشر في 30-09-2016
آخر تحديث 30-09-2016 | 00:18
ما يمكن التوصل إليه، في ضوء كثير من الآيات والأحاديث، أن «الجبر والاختيار»، قضية غيبية ومسألة إيمانية تستعصي على الفهم والتفسير والعقلنة، وتقوم على التسليم الكامل لظواهر النصوص دون نقاش أو تفسير أو تأويل.
 خليل علي حيدر

كيف تكون الهداية

في إحدى المناسبات وجه الحضور إلى الداعية التركي فتح الله غولن سؤالاً أعقد في مسؤولية الهداية واختيار الإيمان، فقد سأله جمع منهم السؤال الآتي:

"ورد في القرآن الكريم: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ" (الزمر: 36 و37)، ثم يَرد في مواضع أخرى: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" أي أعطيت له إرادة الاختيار، فكيف نستطيع التوفيق بين هذين النصين؟" (ص48) أي أن الله يهدي ويضل... فكيف "يشاء" الإنسان؟

ويجيب غولن بأن الهداية، هي الطريق الصحيح وطريق الأنبياء، أما "الضلالة"، فهي الطريق المنحرف والابتعاد عن الاستقامة، وفي كلتا الحالتين يعود الاختيار إلى الخالق. ثم يضيف بجرأة: "إن أمعنا النظر نرَ أن كلاً منهما عمل وفعل، ويعدان من الوجهة البشرية فعلاً عاملاً، لذا وجب إرجاعهما إلى الله تعالى، لأن كل فعل- كما قلنا سابقاً- يرجع إلى الله تعالى، وليس هناك أي عمل لا يرجع إليه، أجل! هو الذي يعطي كليهما".

ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد للعبد أي دخل وأي كسب، وأنه إما أن يدفع إلى الضلالة من قبل الله جبراً، أو يساق إلى الهداية سوقاً، فيكون ضالاً ومنحرفاً في الحالة الأولى، ومهتدياً وراشداً في الحالة الثانية، ونستطيع أن نفهم بإيجاز هذا الأمر، كما يلي: "إن كان الوصول إلى الهداية أو السقوط في الضلالة عملاً بوزن عشرة أطنان مثلاً، فلا يملك الإنسان منه عشر المعشار، بل العمل كله لله تعالى".

مرة أخرى، أين الإرادة الإنسانية إذن؟ يجيب "غولن" ويوضح رده بمثلين فيقول: "لأذكر مثالاً ملموساً: إن الله يهدي، والهداية وسائلها مثل الذهاب إلى الجامع... الاستماع للنصائح، تنوير العقل وتثقيفه.. كلها من وسائل الهداية، الاستماع إلى القرآن الكريم وتدقيق معانيه والتعمق فيها من وسائل الهداية أيضا، التتلمذ في مدرسة الرسول والاستماع إلى أقواله بقلب حاضر، والاسترشاد بمرشد وأخذ الدروس منه، والدخول إلى الجو الروحي للرسالة والنبوة، وفتح القلب لكل نسائم تجلياته طريق من طرق الهداية، حيث يستطيع الإنسان المباشرة بالطرق المؤدية إلى الهداية، أجل! مع أن المجيء إلى الجامع مباشرة أمر بسيط، إلا أن الله تعالى يجعله وسيلة للهداية، أي أن الهداية من قبل الله، ولكن للعبد كسباً معيناً في طرق باب الهداية".

الإنسان يطلب الضلال أو الهداية

وقد يعرض الإنسان نفسه للضلال، بدلاً من الهداية! يقول الداعية: "فقد يطرق الإنسان أبواب الخمارات والبارات والأصنام، أي يطرق باب الضلال، ويطلب الضلالة لنفسه فإن شاء الله أضله وإن شاء جعل أمامه عوائق تمنعه من الانحراف والضلالة، إذن يتضح أن ما في يد الإنسان من شيء ضئيل لا يكفي ولا يستطيع أن يكون سبباً للهداية أو للضلالة".

ويورد مثلاً ثانياً حول دور الإنسان في توفير ظروف ومستلزمات الهداية، فيقول: "لأضرب هذا المثل: قد تصغي إلى القرآن الكريم وإلى المواعظ والنصائح، وقد تقرأ كتاباً علمياً جيداً فتحس وكأن الأنوار تشرق في قلبك، بينما عندما يستمع شخص آخر الى الأذان المحمدي أو المواعظ أو إلى المناجاة والأدعية الضارعة الخارجة من القلب يحس بضيق، ويقول: ما هذه الأصوات المنكرة؟ أي يشكو من أصوات الأذان" (ص 49).

ويختتم غولن توضيحه في مسألة الجبر والاختيار، والتسيير والتخيير، بالقول: "إذن الله تعالى هو الذي يعطي الهداية أو الضلالة، ولكن إن سلك أحد طريق الضلالة بعناد فإن الله تعالى يخلق له ما يتبقى من 999.9% من العمل العائد له تماماً، كعملية الضغط على زر لتشغيل آلة ضخمة، ثم يقوم بمحاسبة الإنسان، لكونه مال إلى الضلالة ورغب فيها فيعاقبه أو يعفو عنه" (ص49).

تقييم محاولة غولن

هل وفق غولن في توضيح هذه المسالة؟ إن محاولته "لتفسير مسؤولية الإنسان عن عمل الخير والشر، والعلاقة بين الإرادة الإلهية من جانب والإرادة الانسانية، وعمل الخالق وعمل الإنسان، في مجملها، محاولة مضطربة متعارضة كما رأينا بوضوح، فإذا كانت الإرادة الإلهية أساسية في حياة وعمل الإنسان، وإرادة مطلقة شاملة في أي حدث أو عمل بنسبة 99.99% كما يؤكد غولن، فإن الإرادة البشرية تفقد أهميتها ودورها وتأثيرها، حيث لا وجود لأي إرادة مستقلة، كما تؤكد النصوص وتفسير "غولن" وغيره، سوى الإرادة الإلهية، في حين تلعب أي إرادة أخرى دوراً أدائياً أو إسهاماً في غاية الثانوية والجزئية.

فلو قام طرفان بإنجاز مشروع ما، أو عمل ما، أو غير ذلك كتأليف كتاب مثلاً وبذل الطرف الأول 99.99% من الجهد ورأس المال والمواد والمتابعة، وساهم الطرف الثاني بعشر المعشار المتبقي، كافتتاح المشروع أو توقيع الكتاب أو تنظيم توزيعه، لا يمكن القول بأن الطرفين ساهما في الإنجاز بشك متساوٍ.

وما يمكن التوصل إليه والإجماع عليه في ضوء الكثير من الآيات والأحاديث المتعلقة بالجبر والاختيار، أن هذه، كقضايا غيبية أخرى كذلك، مسألة إيمانية تستعصي على الفهم والتفسير والعقلنة، وتقوم على التسليم الكامل لظواهر النصوص دون نقاش أو تفسير أو تأويل، فكل هذا سيثير بدوره أسئلة لا تنتهي، ويعيد النقاش إلى نقطة البداية، ولا سبيل لتقبلها دينياً إلا باعتبارها مسائل غيبية إيمانية لا تناقش.

انقسام المسلمين

ولهذا انقسم أغلب المسلمين إلى تيارين، أحدهما يرفض تفسير أو تأويل النصوص في القرآن والسنة، المتعلقة بصفات الخالق وحدود إرادته، وغير ذلك من الأمور الغيبية، وهو التيار الذي يسمى في عصرنا هذا التيار السلفي.

والثاني يشمل الأغلبية الكبرى من المسلمين، وهو تيار المذاهب والتفاسير والتأويلات والفرق والطوائف من أهل السنة والشيعة.

وقد اتصف التيار السلفي، الذي لم يكن معروفا دائماً بهذا الاسم، بقبول الآيات القرآنية والسنة النبوية، وخصوصاً ما يبدو منها صعب التفسير وغامض التأويل، على ما هي عليه من ظاهر النص من قرآن وسنة، وما نقلت كتب الحديث والسنن عن فهم مسلمي الجيل الأول لهذه النصوص، ورفضت السلفية استخدام العقل البشري في التفسير والتأويل وتقريب النص للأفهام، واعتبرت المنهج العقلاني في التفسير خطأً.

وبذلك لم تقم "السلفية"، مهما كان تعريفها كتيار، بحل أي مسألة غيبية شائكة أو تقديم رؤية في فهمها قائمة على رفع الغموض. بل تجاهل هذا التيار، ولا يزال، كل التعقيدات والغوامض والقضايا التي حاول "غولن"، ولا يزال، تفسيرها لشباب تركيا.

وقد تقبلت أغلبية المسلمين تفسيرات واجتهادات "الأشعري" (873-941) "والماتريدي"، (توفي عام 944) في مذاهب أهل السنة والجماعة، وتبنى الشيعة تفسيرات الأئمة من أهل البيت، وأبرزهم للشيعة الإثني عشرية الأمام جعفر الصادق (699-765).

كما تناول الداعية فتح الله غولن مسائل اجتماعية وأبرزها ضرب الزوجة، ومسألة طاعة أولي الأمر، ونظرية داروين... وسنبحث بعض هذا في مقالات قادمة.. إن سنحت الفرصة.

محاولة غولن تفسير مسؤولية الإنسان عن عمل الخير والشر والعلاقة بين الإرادتين الإلهية والانسانية محاولة مضطربة متعارضة في مجملها

«السلفية» لم تحل أي مسألة غيبية شائكة أو تقدم رؤية من شأنها رفع الغموض
back to top