أوصال الرواية

نشر في 28-09-2016
آخر تحديث 28-09-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي هادئاً جاءني صوته يطلب اللقاء بي؛ "أهلاً وسهلاً"، رحبت به لحظة دخل مكتبي. بدا شاباً في نهاية العشرين من عمره. مدَّ لي يداً يدبُّ شيء من الخوف بين أصابعها.

أفهم موقفه، فلقد مررت يوماً برهبة اللقاء الأول. بادرني يقول: "ربما، الجلوس مع روائي كبير".

"ليس من كبير للكتابة"، قاطعته قبل أن يُكمل جملته، وأضفت: "كلنا صغار أمام الكتابة، وكل كتابة جديدة هي مغامرة جديدة لأي كاتب".

"معي مخطوطة روايتي الأولى".

"مبروك".

"أنا خائف، ولا أدري إن كانت تصلح للنشر أو لا".

"أنا مثلك" قلت له، ولأنه راح ينظر إليَّ أوضحت: "أنهيت قبل أيام المخطوطة الأولى لرواية جديدة لي، وأنا خائف، لا أدري إن كانت جيدة أو لا".

تحدثنا في أمور القراءة والكتابة. تسرب الهدوء لنظرة عينيه ونبرة صوته.

"أول رواية تجربة مخيفة" قال لي؛ "طوال الوقت أتصور روايتي منشورة وأنا أمام نظر القراء".

"الخوف من القارئ وتحري الوصول لكتابة مقنعة أمر جيد بالنسبة للكاتب، لكنه يجب ألا يكون عائقاً، فأنا أعرف أشخاصاً ظلوا يدبجون كتابهم الأول، ولم ينتهوا منه أبداً".

شرحت له أن كتّاباً عظاماً كانوا لا يرجعون لنصوصهم بعد كتابتها بصيغتها الأولى، خوف أن تجور الصنعة على العفوي والأصدق. لكن هناك كتّابا أيضا حول العالم يعاودون الكتابة مرة ومرتين، ولحين يطمئنون لجودة كتاباتهم قبل الدفع بها إلى الناشر.

"ماذا عنك؟".

سألني، فابتسمت له قائلاً: "أنا أعيد الكتابة أكثر من مرة، وأحياناً أكثر من عشر".

ولأنه يحمل روايته الأولى تكلمنا عن عناصر الرواية؛ الفكرة والحدث والزمان والمكان والشخوص واللغة. توقفنا عند أهمية كل عنصر على حدة. وكيف أن الكاتب وحده يجب أن يدرك عناصر روايته مفككة، ومن ثم يقوم بتجميعها بالصيغة الأصح والأجمل.

"كتبت روايتي دون أن أضع في ذهني وجود كل هذه العناصر".

"حسناً فعلت. الفكرة تقود الكتابة في أي عمل إبداعي. ويجب ألا يشعر القارئ بأوصال الرواية مقطعة أمامه، بل يجب أن يقرأ عملاً يشبه الحياة".

كنتُ أتكلم، وكان صديقي الروائي الشاب يستمع باستحسان ظاهر؛ "أجمل المخلوقات في الطبيعة، لو قطعت أوصالها، وتمَّ النظر إلى أجزائها منفصلة، فستغدو بلا معنى، وقد تبدو منفرة. وكذا العمل الإبداعي السردي في القصة والرواية. مهمٌ جداً أن يمسك الكاتب بفكرة العمل الأساسية، وتالياً يحدد ويُدرك جميع العناصر، لكن الأهم من ذلك كله، هو الكتابة السلسة المرتهنة للضرورة المدروسة والبعيدة عن الصدفة".

صديقي الشاب تخلص من تردده الأول، وبدا محاوراً نبهاً "الأعمال الروائية الكبيرة لا تترك لك فسحة لتأمل عنصر بعينه، بل تقدم جميع عناصرها في تداخل ساحر".

انتظرته يقول كلمة محددة، ولأنه نظر إليَّ قلت له: "الحبكة. الروائي صانع سجادة الحياة. هو يقدم للقارئ حكاية تشبه حكايات الحياة. لكنها وخلافاً لحكايات الحياة التي تحدث مرة واحدة في لحظة حدوثها. فإن أحداث الرواية تتشكل في يد صانعها وله وحده أن يعيد تشكيلها وتدوير زواياها الحادة مرة ومرتين، حتى يضاهي بقطعة سجادته قطع سجاد الحياة العامرة بحيواتها".

"لن أترك لك مخطوط روايتي"، ابتسم لي، وأضاف: "أنا بحاجة للمرور عليها والنظر في أوصالها".

ابتسمت له وودعته على أملِ لقاء قادم.

لحظة جلست لوحدي، غامرني شيء من نشوة وصل الكاتب بالكاتب، وصل المعرفة الإنسانية الأجمل، ودار ببالي كم هي صعبة الكتابة. فالواقع مليء بمواقف عجيبة يصعب على أعظم الكتّاب مجاراة حدوثها. لكنها الكتابة وحدها قادرة على التقاط الحدث الإنساني وتخليده على لوح الزمن العابر، وربما هذه هي أعظم مهمة يقدمها الكاتب لمجتمعه.

back to top