الأماكن... (2)

نشر في 27-09-2016
آخر تحديث 27-09-2016 | 00:10
قضيت في اليونان فترة فيها كثير من المخاطرة، فكنا نواجه خطر الاغتيال في أي لحظة وأي مكان، لاسيما أنه كان صعباً علينا حينئذ أن نمحو من الخاطر حادث الاغتيال الذي تعرض له الزميلان نجيب الرفاعي ومصطفى المرزوق، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.
 يوسف عبدالله العنيزي بعد المقال الأول بهذا العنوان، بدأ يتوارد على الذهن العديد من الأماكن الرائعة التي عملت فيها أو زرتها، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من السنين, من تلك الأماكن الرائعة جمهورية اليونان، بلد العراقة والتاريخ، بلد العلم والفلسفة، موطن أفلاطون وأرسطو وسقراط, قضيت في ذلك البلد الرائع أكثر من أربع سنوات في الفترة ما بين 1980 و1984، حيث كانت حافلة بالتحدي والمخاطرة, ففي عام 1982 شهدت مدينة أثينا مرحلة في غاية الخطورة، إذ غدت ساحة لتصفية الحسابات بين بعض الدول العربية، بما سمي "حرب الاستخبارات"، والتي أدت بالضرورة إلى اغتيال عدد من الدبلوماسيين العرب، كما تعرض القائم بالأعمال السعودي لمحاولة اغتيال، حيث تم تفجير سيارته، وقد نجا من الحادث بأعجوبة.

في ظل هذه الأوضاع الأمنية الصعبة، صدرت لنا الأوامر باتخاذ عدد من الإجراءات منها ضرورة مغادرة سعادة السفير صالح المحمد، رحمه الله، اليونان, مع إعادة عائلات أعضاء السفارة إلى البلاد، وتغيير مقر السكن بشكل مستمر، مع تغيير لوحات السيارات، وتم تزويدنا بسترات واقية من الرصاص ومسدس من نوع "كولت". كانت فترة فيها الكثير من المخاطرة فكنا نواجه خطر الاغتيال في أي لحظة وأي مكان، لاسيما أنه كان من الصعب علينا في ذلك الوقت أن نمحو من الخاطر حادث الاغتيال الذي تعرض له كل من الزميلين نجيب الرفاعي ومصطفى المرزوق، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.

في الفترة من 1980 إلى 1982 كان رئيس البعثة الدبلوماسية سعادة الأخ السفير محمد سالم البلهان، وكانت مدينة أثينا هادئة، وليس هناك ما يكدر الحياة، مما أتاح لنا فرصة للتجول في ذلك البلد الرائع, خطرت على البال تلك الأمسية عندما دعاني أحد الأصدقاء إلى تناول العشاء في المطعم الذي يقع على جبل "بارناسوس" ويبعد عن أثينا بحوالي الساعة، وللوصول إلى ذلك المطعم يمكننا استخدام المصعد الكهربائي (التلفريك)، عند دخولنا إلى كابينة المصعد فوجئنا بوجود فوج من السياح الإسرائيليين، وبعضهم يعتمر الطاقية السوداء, عندما تبادلت مع صاحبي الحديث أدرك مرافقونا أننا عرب، فساد بعض التوجس والتوتر الذي زال عندما ألقى احدهم تحيته "شالوم" فرد صاحبي التحية بكلمة "سلام"، بعد الوصول تبادلنا بعض العبارات، ومضى كل منا إلى وجهته... فماذالو وقعت هذه الحادثة الآن في ظل هذه الأوضاع الأمنية التي تسود العالم؟ اثنان من العرب المسلمين مع فوج من السياح الإسرائيليين في كابينة مصعد كهربائي معلق في الفضاء! حقا ما أروع الأمن والسلام.

في أثناء عملي رئيساً للبعثة الدبلوماسية في فنزويلا كلفت بالانظمام إلى الوفد المشارك في مؤتمر دول الـ"77" الذي عقد في مدينة سان خوسيه، عاصمة جمهورية كوستاريكا، والذي ضم كلاً من سعادة الشيخ السفير سالم عبدالله الجابر الصباح، سفير دولة الكويت في واشنطن، والسكرتير الأول بالسفارة في فنزويلا المغفور له بإذن الله الشيخ فيصل بدر المالك الصباح رحمه الله، استمر المؤتمر يومين، بعدها قمت بزياره لمنطقة البراكين الخامدة، والتي مازالت الأبخرة تتصاعد منها بمنظر رهيب يشعرك بضخامة وحجم الحمم أو "اللافا" والتي أدت بالضرورة إلى ربط شمال أميركا بجنوبها، وبروز أميركا الوسطى، كما أدت إلى إثراء التربة وظهور مساحات شاسعة من مزارع البن "الكوستاريكي" الذي يعتبر من أجود أنواع البن في العالم، وليس بعيدا عن ذلك تقع الغابات المطرية الهائلة بأشجارها العملاقة والمعمرة والتي تتخللها الشلالات الرائعة المنتشرة في تلك الغابات.

في عام 1989 صدر مرسوم كريم بتعييني سفيراً غير مقيم لدى جمهورية النيجر الصديقة، بعد تقديمي لأوراق اعتمادي لفخامة الرئيس "علي ديبو"، رحمه الله، سألني مدير المراسم السيد اهمادو إن كان هناك مكان أرغب بزيارته في النيجر، وقد وجدتها فرصة، فأبديت رغبتي في زيارة أدغال إفريقيا التي مازالت كما خلقها الله دون أن يدخل عليها الإنسان أي تعديل، في اليوم التالي غادرت مدينة "نيامي" العاصمة بسيارة جيب مع أحد الأدلاء، وقد عبرنا تلك الأدغال الهائلة في أوقات لن تمر مثلها حتى وصلنا إلى نهر النيجر العظيم، وكم هالني ذلك النهر الذي يهدر بالسيول الضخمة في الوقت الذي يعيش فيه السكان الأصليون في تلك المناطق وهم يرتدون أسمالاً بالية لا تكاد تستر أجسادهم، وأقدام حافية وبطون خاوية, وانتشار للمجاعات، على الرغم من هذه المياه الهادرة منبع الحياة, وخطرت على البال الآية الكريمة "وجعلنا من الماء كل شيء حي"... حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

كم هالني مشهد نهر النيجر وهو يهدر بالسيول الضخمة بينما يعيش السكان الأصليون وهم يرتدون أسمالاً بالية لا تكاد تستر أجسادهم

أكثر من 4 سنوات قضيتها في اليونان... بلد العراقة والتاريخ والعلم والفلسفة وموطن أفلاطون وأرسطو وسقراط

عام 1982 غدت أثينا ساحة لتصفية الحسابات بين بعض الدول العربية فيما سمي بـ"حرب الاستخبارات" والتي نجم عنها اغتيال عدد من الدبلوماسيين
back to top