أنتظرك

نشر في 26-09-2016
آخر تحديث 26-09-2016 | 00:10
أردت أن أخبرك، أنت يا صديقَ ألمِك، أنني أفهمك، أنني أعرف تماماً ما تمر به، أكتب لك أذكّرك وأذكر نفسي أنه مثلما للألم بداية، فله نهاية كذلك، يتحول عندها إلى ومضة بعيدة، عصرة قلب سريعة، والزمن كفيل، سنصحو يوماً لنكتشف أن الانتظار انتهى.
 د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب يبطش بك الألم أحياناً، تشعر أن قلبك منشفة مبللة تعتصرها يد الألم، تضغط عليها حتى يصبح الشهيق صعود جبل والزفير سقوطاً من عليه. تسبح أحشاؤك في حزن باطش الموج، حزن تشعر به كالصداع النصفي، يقصف أعلى عينيك، يضغط على مخارج أنفاسك، يتكور صخرة تجلس أعلى معدتك. حزن يحوطك كالجدران، كالهواء، حزن يتمسك بقدميك كجاذبية الأرض، لا يمكن أن تفلت منه إلا بصاروخ يخلعك من أصلك الأرضي إلى فضاء ساكن داكن صامت.

لمثل هذا الحزن طعم يأس مريح، يأس يصغر كل الرغبات، كل المحاولات، كل المخاوف. كل شيء يفقد معناه، كل شيء يخسر قيمته، ولا يبقى غير وجه الحزن، تؤمُّه، ترتحل منه وإليه يومياً، تريد أن تبقى بعيداً فتقودك قدماك، يدفعك قلبك، فتدور وتدور في رحى رحلته المكوكية. مثل هذا الحزن يصحبه شعور غريب بطهارة النفس، كأنه يغسل الأحشاء بمغصها، يغسل العيون بدموعها، يغسل القلب بدقاته المتسارعة، كل دقة تضغط موقع الألم، كل دقة تنذر بالمزيد القادم منه، كل دقة تستشعرها نبضة قافزة من قفصك الصدري، هاربة من جسدك إلى عدم لا تستشعر فيه بعدها ألماً أو حزناً. وما إن تختفي هذه النبضة فتعتقد أنها نهاية الألم، حتى تجري خلفها نبضة أخرى، فتبدأ القصة كلها من جديد.

في لحظات هذا الألم، اترك نفسك إليه، دعه يغمرك، اسمح له أن يملأ أحشاء نفسك. شيء ما مريح في صحبته، شيء ما يحررك، يسمح لك أن تصبح ضعيفاً وصغيراً وخائفاً، شيء ما يهبط بك إلى ركبتيك. تقف طويلاً وشامخاً طوال الوقت، ثم تأتي هذه النبضة، هذه الفقاعة من عميق روحك، من ذكرى فقدك، من حسرة عميقة تخمرت فربضت في أعماق صدرك، فتعرف أنها حية ترزق، تدرك أنها مازالت متمسكة بحياتها التي تهدف للقضاء على حياتك، فتصارعها، تقاومها، ثم تستسلم ساقطاً على يديك وقدميك، مسلماً أمرك، راضخاً لقدرك، مقدماً لنبضة الألم أعز ما تملك...كرامتك.

تسمح للألم أن يغمرك، تفسح له أن يمر في أحشاء أحشائك، تعاقب نفسك به، تقول أنك لا تستحقه، تشعر أنك تستحقه، تحلم بما كان يجب أن يكون وما كان. وعندما يخفت صوت الألم تناديه، تفتقده، لا تعرف كيف تسير حياتك دونه. لا تغادر أيها الألم، تستصرخه، فأنت راحة الضمير، أنت العذاب الذي أستحق، أعرف كيف أعيش معك وبك، ولا أعرف كيف أستمر دونك، فعلى إيقاعك تمر الأيام، وبدونك تتكون في الروح فجوة لا تمتلئ، وجودك أفضل من العدم، حرقتك أهون ألف مرة من اللاشيء الذي تخلفه عندما تغادر متخلياً عن النفس التي تسكن والقلب الذي عليه تتغذى وبنبضه ودمائه تحيا وتستمر.

من أنت عندما يعرٍف الألم حياتك، عندما تصبح أنت هو وهو أنت؟ هل أنت إنسان تحمل ألماً أم ألم تشكل في هيئة إنسان؟ وقع القدر وقرر الوجود، أنت وألمك صحبة، يعطي لحياتك معنى، يريحك بشكل ما، يخفف من شعورك بالذنب، يطهرك، يعرٍفك، يصبح ونيسك في الليالي التي لا تنامها، ويصبح وليفك في الصباحات التي لا تستطيع أن ترى نورها. أحياناً يبدو نقمة وأحياناً يبدو رحمة، ولكن المؤكد أنه موجود، مع كل نبضة تنبضها ونفس تسحبه وضحكة تغتصبها ونفي تؤكده وسعادة تمثلها، هو هناك في أعماقك يتربص بك، وأنت هنا تدرك تربصه وتنتظره بدموعك... مُرحِباً.

أردت أن أخبرك، أنت يا صديق ألمك، أنني أفهمك، أنني أعرف تماماً ما تمر به، أكتب لك أذكرك وأذكر نفسي أنه مثلما للألم بداية، فله نهاية كذلك، يتحول عندها إلى ومضة بعيدة، عصرة قلب سريعة، والزمن كفيل، سنصحو يوماً لنكتشف أن الانتظار انتهى، وأن الألم لن يعودنا ضيفاً ثقيلاً، وأن مروره سيكون مرور كرام غرباء، فنسامح أنفسنا ونسامح الدنيا... فلننتظر.

back to top