إدمان الهواتف الذكية ماكينة قمار في جيبك!

نشر في 31-08-2016
آخر تحديث 31-08-2016 | 00:04
No Image Caption
تكون تطبيقات الهواتف الذكية مصمّمة كي تسبّب الإدمان، فتستفيد من نقاط ضعف البشر كي تجذب انتباه المستخدمين بشكل متواصل. لكن لا تتوقف آثارها عند هذا الحد.
حين نغرق في هواتفنا الذكية أو نلتهي بها، نظن أنه حادث عرضي أو أننا نتحمّل مسؤولية سلوكنا. لكنّ الواقع مختلف لأن الهواتف الذكية والتطبيقات تخطف انحيازاتنا ونقاط ضعفنا النفسية التي نحملها بالفطرة.
جمعتُ المعلومات عن نقاط الضعف في عقولنا حين كنتُ ساحراً. يبدأ السحرة بالبحث عن النقاط العمياء ومكامن الضعف والانحيازات في عقول الناس كي يتمكنوا من التأثير على أفعالهم من دون أن يدرك هؤلاء الأشخاص ما يحصل. حين نجيد التحكم بالناس، يمكننا التلاعب بهم بسهولة. هذا ما تفعله التكنولوجيا بعقولنا! يستغل مصمّمو التطبيقات نقاط ضعفنا النفسية لجذب انتباهنا بأي طريقة.
أريد أن أثبت لكم ما يفعلونه وأؤكد إمكانية أن نطالب شركات التكنولوجيا بمستقبلٍ مختلف.
لو كنتَ تطبيقاً، كيف كنت لتأسر الناس؟ حوّل نفسك إلى ماكينة قمار!
يتحقق الشخص العادي من هاتفه 150 مرة في اليوم. لماذا نفعل ذلك؟ هل نقوم بـ150 خياراً واعياً؟ يتعلق السبب الأساسي بأهم عنصر نفسي يُستعمَل في ماكينات القمار: المكافآت المتغيّرة والمتقطّعة.

لترسيخ ظاهرة الإدمان، يكفي أن يربط مصمّمو التكنولوجيا بين أفعال المستخدم (مثل سحب مقبض ماكينة القمار) ومكافأة متغيّرة: ستسحب المقبض وتتلقى مكافأة فورية ومغرية (تطابق، جائزة!) أو لا تحصل على شيء. يبلغ الإدمان ذروته حين تكون طبيعة المكافآت متغيّرة.

يؤثر هذا الجانب على الناس فعلاً. تكسب ماكينات القمار المال في الولايات المتحدة أكثر مما تفعل قطاعات كرة القاعدة والأفلام ومدن الملاهي مجتمعةً. مقارنةً بأنواع أخرى من المقامرة، “يتورّط” الناس في تعقيدات ماكينات القمار بوتيرة أسرع بثلاث أو أربع مرات بحسب رأي ناتاشا دو شول، أستاذة في جامعة نيويورك ومؤلفة كتاب Addiction by Design (إدمان مدروس).

الشعور بالانتماء

إليكم حقيقة مؤسفة: يملك مليارات الناس ماكينة قمار في جيبهم.

حين نسحب هاتفنا من جيبنا، نلعب القمار لمشاهدة الإشعارات التي تلقيناها. وحين نمسح على الشاشة بإصبعنا لتصفح منشورات “إنستقرام”، نلعب القمار لمشاهدة الصور اللاحقة. وحين نلمس الشاشة لإعادة تنشيط بريدنا الإلكتروني، نلعب القمار لرؤية الرسالة التي تلقيناها. وحين نمسح الوجوه في تطبيقات المواعدة مثل “تيندر”، نلعب القمار كي نعرف بحصول تطابق مع شخص آخر.

يكون هذا الوضع متعمّداً أحياناً: تبث التطبيقات والمواقع الإلكترونية مكافآت متغيّرة ومتقطعة مع مختلف منتجاتها لأن هذه الخطوة تفيد عملها. لكن في حالات أخرى، يكون الوضع عرضياً كما يحصل مع البريد الإلكتروني أو الهواتف الذكية مثلاً.

تخطف التكنولوجيا عقولنا بطريقة أخرى حين توهمنا بأننا قد نفوّت أمراً مهماً حتى لو اقتصر هذا الاحتمال على 1%. لكن تستغل التطبيقات أيضاً حاجتنا إلى القبول الاجتماعي. حين تشاهد إشعاراً مفاده أن “صديقك ذكرك في صورته”، ستشعر فوراً بقبولك اجتماعياً وبالانتماء إلى مجموعة. لكن تكون هذه العملية كلها بيد شركات التكنولوجيا.

يمكن أن تتلاعب مواقع “فيسبوك” أو “إنستغرام” أو “سناب شات” بأعداد وسم الصور عبر اقتراح جميع الوجوه التي يجب ذكرها تلقائياً. حين يذكرك صديقك إذاً، يكون قد تجاوب مع اقتراحات “فيسبوك” ولا يقوم بخيار مستقل. لكن من خلال خيارات التصميم هذه، يسيطر “فيسبوك” على عدد التجارب التي يختبرها الناس للشعور بالقبول الاجتماعي.

تتكرر العملية نفسها حين نغيّر صورتنا الشخصية الأساسية. يعرف “فيسبوك” في تلك اللحظة أننا نتأثر بمستوى قبولنا الاجتماعي: “ما رأي أصدقائي بصورتي الجديدة؟”. ويمكن أن يصنّف “فيسبوك” هذه الخاصية في أعلى المنشورات، فتدوم لفترة أطول ويبدي عدد إضافي من الأصدقاء إعجابهم بالصورة أو يكتبون تعليقاً عنها. وفي كل مرة يتفاعلون فيها مع منشوراتنا بهذه الطريقة، سنقع تحت سحر الموقع مجدداً.

يتجاوب الجميع فطرياً مع مظاهر القبول الاجتماعي لكن تكون بعض الفئات الديمغرافية، لا سيما المراهقون، أكثر تأثراً بها. لذا من الضروري أن نتعرّف على قوة المصممين حين يستغلون نقطة الضعف هذه.

إمبراطورية بحد ذاتها

يُعتبر موقع “لينكد إن” طرفاً معتدياً آخر. يريد هذا الموقع أن يقيم أكبر عدد من الناس التزامات اجتماعية متبادلة لأنهم حين يتفاعلون في ما بينهم (عبر قبول التواصل المتبادل أو الرد على رسالة أو دعم مهارة الآخرين)، يضطرون للعودة إلى الموقع حيث يمضي الناس وقتاً إضافياً.

مثل موقع “فيسبوك”، يستغل “لينكد إن” غياب التناسق على مستوى الإدراك. حين تتلقى دعوة من شخص كي تتواصل معه، ستتخيّل أن ذلك الشخص قرر بكامل وعيه أن يدعوك مع أنه يتجاوب بطريقة لاواعية مع لائحة المعارف التي يقترحها “لينكد إن”. بعبارة أخرى، يحوّل الموقع انفعالاتك اللاواعية إلى التزامات اجتماعية جديدة ويضطر ملايين الناس في المقابل للرد عليها. كذلك يستفيد الموقع من الوقت الذي يخصصه الناس لهذه العملية كلها.

أهلاً بكم في إمبراطورية مواقع التواصل الاجتماعي

ترتكز الثقافة الغربية على قيم الاختيار الفردي ومبدأ الحرية. يدافع ملايين الناس بشراسة عن حقهم في اتخاذ قرارات “حرّة” تزامناً مع تجاهل طريقة التلاعب بخياراتهم عبر قوائم لم يختاروها أصلاً.

هذا ما يفعله السحرة تحديداً حين يوهمون الناس بأنهم يقومون بخيارات حرّة تزامناً مع تصميم قوائم تضمن فوزهم بغض النظر عن خيارات هؤلاء الناس.

حين يحصل الناس على قائمة من الخيارات، نادراً ما يسألون: “ما الذي ينقص في القائمة؟” أو “لماذا أشاهد هذه الخيارات دون سواها؟” أو “هل أعرف أهداف الجهة التي تقترح هذه القائمة؟” أو “هل تلبّي هذه القائمة حاجتي الأصلية أم تكون هذه الخيارات مصدر إلهاء؟”.

تخيّل مثلاً أنك خرجت مع أصدقائك مساء يوم الثلاثاء وأردت أن تتابع الحديث معهم. ستفتح موقع “يلب” وتجد مجموعة اقتراحات وتشاهد لائحة بالحانات المجاورة. ستتحوّل مجموعة الأصدقاء إلى وجوه تحدّق بهواتفها وتقارن بين الحانات المقترحة. سيدققون بصور المواقع ويقارنون مشروبات الكوكتيل فيها. لكن هل تتماشى تلك القائمة مع رغبة المجموعة الأصلية؟

حتى لو لم يحتاجوا إليها...

لا يعني ذلك أن الحانات ليست خيارات جيدة، لكن يستبدل موقع «يلب» سؤال المجموعة الأساسي («إلى أين يمكننا الذهاب كي نتابع حديثنا؟»). كذلك، تقع المجموعة في الفخ حين تظنّ أن الموقع يقدّم مجموعة كاملة من الخيارات بشأن الوجهات المحتملة.

كلما قدمت لنا وسائل التكنولوجيا خيارات إضافية في كل مجال من حياتنا (معلومات، أحداث، وجهات، أصدقاء، مواعدة، وظائف)، يزيد ميلنا إلى اعتبار هاتفنا أقوى أداة وأكثرها منفعة لاتخاذ قراراتنا. لكن ما صحة هذا الاعتقاد؟ أصبح سؤال “هل من شخص عازب للخروج في موعد غرامي؟” شائعاً على موقع “تيندر” (بدل المشاركة في مناسبات محلية مع الأصدقاء أو خوض المغامرات في المدن). وأصبح سؤال “من يستطيع الخروج الليلة لتمضية وقت ممتع؟” متداولاً بين معظم الناس الذين كتبوا لنا رسائل نصية حديثاً. وأصبحت عبارة “ماذا يحصل في العالم؟” جزءاً أساسياً من القصص الواردة في المنشورات.

تصمّم الشركات التي تتحكم بوقتنا تطبيقات لحث الناس على متابعة استهلاك المنتجات حتى لو لم يحتاجوا إليها. العملية سهلة: لنأخذ تجربة محدودة ومحصورة ونحوّلها إلى فيض متواصل ولامتناهٍ!

أثبت الأستاذ براين وانسينك من جامعة “كورنيل” هذه الفكرة في دراسته التي اعتبرت أننا نستطيع خداع الناس كي يتابعوا أكل الحساء من وعاء لا قعر له ويمتلئ تلقائياً أثناء الأكل. عند استعمال أوعية لا قعر لها، يستهلك الناس سعرات إضافية بنسبة 73%. مقارنةً بمن يأكلون في أوعية طبيعية.

تستغل شركات التكنولوجيا المبدأ نفسه. تُصمَّم المنشورات عمداً لتجديد الأسباب التي تجعلك تتابع التصفح تلقائياً وتتخلص من أي سبب يدعوك إلى التوقف أو إعادة النظر بما تفعله أو يدفعك إلى الرحيل.

لهذا السبب أيضاً تُشَغِّل شبكات الفيديوهات ومواقع التواصل الاجتماعي مثل “نتفليكس” أو “يوتيوب” أو “فيسبوك” الفيديو التالي تلقائياً بعد العدّ التنازلي بدل أن تنتظر المستخدم كي يقوم بخيار واعٍ.

مأساة العموم

غالباً ما تزعم شركات التكنولوجيا أنها تساعد المستخدمين لمشاهدة الفيديو الذي يريدونه بسهولة مع أنها تخدم مصالحها المهنية الخاصة. ولا يمكن لومها لأنها تتنافس على زيادة الوقت الذي يمضيه المستخدمون في مواقعها.

تدرك الشركات أيضاً أن المقاطعة مفيدة في عملها. لو كانت خدمات “واتساب” أو “سناب شات” أو “فيسبوك ماسنجر” تملك الخيار، كانت لتفضّل تصميم نظامها الخاص بتبادل الرسائل كي يقاطع المتلقين فوراً بدل مساعدة المستخدمين على احترام خيارات بعضهم لأنهم سيميلون إلى التجاوب إذا كان التفاعل فورياً. من مصلحتها أن تعزز شعور الإلحاح. يخبر “فيسبوك” المرسِل تلقائياً بأنك “شاهدت” رسالته بدل أن يسمح لك بعدم الإفصاح عن ما فعلته بالرسالة. نتيجةً لذلك، ستشعر بأنك مضطر للرد.

تكمن المشكلة في واقع أن زيادة أساليب المقاطعة خدمةً لمصلحة العمل تنتج مأساة للعموم، فتُفسد نطاق الانتباه العام وتُطلق مليارات المقاطعات غير الضرورية كل يوم.

هل أنت مستاء لأن التكنولوجيا تسرق خياراتك؟ أنا كذلك. عدّدتُ بعض التقنيات لكن ثمة الآلاف منها. لنتخيّل رفوف الكتب والندوات وورش العمل والتدريبات التي تعلّم تقنيات مماثلة لرجال الأعمال الطموحين في مجال التكنولوجيا. لنتخيّل غرفاً مليئة بالمهندسين الذين يتولون يومياً اختراع طرق جديدة تبقي المستخدمين رهينة هذه التقنيات.

لم أكتب هذه المعلومات لإحباط القرّاء أو جعلهم يفكرون بأن الخيار الوحيد أمامهم يقضي بالانفصال الكامل عن وسائل التكنولوجيا. لا داعي ليكون الخيار جذرياً لهذه الدرجة. هل نريد عالماً نضطر فيه للاختيار بين استعمال الهواتف الذكية والتعرّض للخطف المتواصل من جهة والاضطرار للاستغناء عنها نهائياً من جهة أخرى؟

لا مفر من أن يحمل مليارات الناس الهواتف في جيوبهم لكن يمكن أن تكون تلك الأجهزة مصمّمة كي تؤدي دوراً مختلفاً عن خطف عقولنا.

لدينا فرصة جيدة للمطالبة بمستقبل مختلف من قطاع التكنولوجيا مثلما جعلتنا “حركة الأغذية العضوية” نطالب بمستقبل مختلف من قطاع الزراعة الصناعية الذي يُعنى بالصحة والاستدامة. أسمّي هذا المفهوم “الوقت المثمر”.

إنترنت «الوقت المثمر»

بدل تفعيل “الوقت المثمر” (خدمةً للحملات الإعلانية)، لنتخيّل أن تقدّم التطبيقات نسخاً بديلة وهجينة أو مدفوعة من الخدمات التي تُفعّل “الوقت المثمر” وتُصَنَّف في هذه الخانة في متاجر البحث والتطبيقات. لنتخيّل أن تصمّم شركتا “آبل” و”غوغل” هواتف للوقاية من خطف العقول وتمكين الناس من اتخاذ قرارات واعية بدل الاكتفاء بإصدار هواتف لامعة كل سنة. لنتخيّل أن يظهر “قانون حقوق” رقمي لتحديد معايير تصميم التطبيقات والمواقع الإلكترونية، مثل وضع معايير تُجبِر التطبيقات على إعطاء الناس طريقة مباشرة لتصفح ما يريدونه (البحث عن حدث معيّن على “فيسبوك”)، بغض النظر عن ما تريده التطبيقات (من دون الغرق في فيض المنشورات). لنتخيّل أن تتحمّل الشركات مسؤولية تخفيف آثار المقامرة عبر تحويل المكافآت المتغيّرة والمتقطعة إلى مكافآت تحمل طابعاً متوقعاً إضافياً ولا تسبّب القدر نفسه من الإدمان وتقدّم تصاميم محسّنة. قد تُمكّن الناس مثلاً من تحديد أوقات متوقعة خلال اليوم أو الأسبوع للتحقق من تطبيقات “ماكينة القمار” ثم تعديل توقيت وصول الرسائل الجديدة بناءً على ذلك.

لنتخيّل أن تساعدنا شركات التكنولوجيا بطريقة استباقية على تعديل علاقاتنا مع الأصدقاء والشركات عبر تحديد معنى “الوقت المثمر” في حياتنا بدل التركيز على الأمور التي يمكن أن نفوّتها. لنتخيّل أن تنشأ منظمة مستقلة تخدم مصالح الرأي العام (مثل اتحاد صناعي فيه خبراء متنوعون أو نسخة تكنولوجية من “إدارة الغذاء والدواء”) وتساهم في تحديد تلك المعايير وتراقب شركات التكنولوجيا لمنعها من استغلال تلك الأحكام المنحازة.

لنتخيّل أن تعتني متصفحات الإنترنت والهواتف الذكية (أي البوابات التي يستعملها الناس للقيام بخياراتهم) بالناس بكل صدق وتساعدهم على توقع عواقب النقرات. حين نكشف عن “الكلفة الحقيقية” للنقرة أمام الناس، سنحافظ على كرامة المستخدمين واحترامهم. في ما يخص إنترنت “الوقت المثمر”، يمكن تحديد الخيارات على مستوى التكاليف والمنافع المتوقعة كي يتمكّن الناس من القيام بخيارات افتراضية بدل بذل جهود إضافية.

تكون الحرية المطلقة مرادفة للعقل الحر ونحتاج إلى تكنولوجيا تصبح حليفتنا وتساعدنا على العيش والشعور والتفكير والتصرف بحرية.

نحتاج إلى هواتفنا الذكية كي تكون بمثابة هياكل خارجية لعقولنا وعلاقاتنا الشخصية التي تركز في المقام الأول على قيمنا وليس انفعالاتنا. يجب أن نحمي عقولنا بالزخم الذي سعينا فيه إلى حماية مبدأ الخصوصية والحقوق الرقمية الأخرى.

ملايين الناس يدافعون بشراسة عن حقهم في اتخاذ قرارات «حرّة» تزامناً مع تجاهل طريقة التلاعب بخياراتهم عبر قوائم لم يختاروها أصلاً

التكنولوجيا تخطف عقولنا حين توهمنا بأننا قد نفوت أمراً مهماً إن تجاهلنا أحد التطبيقات

الشركات التي تتحكم بوقتنا تصمّم تطبيقات لحث الناس على متابعة استهلاك المنتجات حتى لو لم يحتاجوا إليها
back to top