أعداء التراث الإنساني

نشر في 29-08-2016
آخر تحديث 29-08-2016 | 00:04
 د. عبدالحميد الأنصاري القيادي في تنظيم أنصار الدين المتطرف في مالي، قاد في منتصف عام 2012 عصابة شنت هجوماً على تسعة أضرحة ودمرتها في مدينة تمبكتو، مدينة الـ333 ولياً، وهي آثار تاريخية مدرجة على لائحة التراث العالمي للإنسانية، حتى وقع في يد العدالة، وها هو اليوم أمام المحكمة الجنائية الدولية، كأول متهم يحاكم لجرائم حرب تتعلق بتراث ثقافي، ليقر بذنبه، ويبدي ندمه، ويطلب العفو والصفح من الشعب المالي على كل الأضرار التي سببها لأهله ووطنه والإنسانية، آملاً أن تسمح له سنوات السجن بتطهير نفسه من الأرواح الشريرة التي سيطرت على نفسه.

بالأمس دمر «داعش» والتنظيمات المتطرفة مئات المواقع والكنوز الأثرية والرموز الثقافية والدينية العريقة للطوائف الدينية التي استوطنت المنطقة منذ العصور السحيقة في العراق وسورية وليبيا والجزائر وأفغانستان، هذه الآثار والمعالم بقيت شواهد تاريخية ناطقة على مر القرون والأزمان، لم يفكر أحد بالتعرض لها، حتى قيض لها شياطين التطرف، في العقدين الأخيرين، فانطلقوا لتدميرها!

كانت بداية السوء على يد جماعة طالبان- وهي جماعة دينية متعصبة استولت على السلطة خمس سنوات شكلت كابوساً ثقيلاً- التي ارتكبت جرائم كبرى بحق الأفغان والتراث الإنساني، أبرزها: تدمير تمثالي بوذا العملاقين في باميان، بإصرار عجيب وعداوة بالغة، عن طريق قصفها بالدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ، وكان سبق ذلك، تدمير كنوز متحف كابول الوطني، 2750 تحفة فنية، على يد وزير الثقافة الطالباني!!

ولا تقتصر عداوة المعالم التاريخية على التنظيمات المتشددة، بل تمتد إلى جماعات عقائدية مثل الميليشيات الحوثية التي لم تغادر وتنسحب من مدن عدن ولحج والضالع إلا بعد أن عاثت بمعالمها الأثرية والروحية والتاريخية والثقافية، عبثاً وخراباً ونهباً وتدميراً غير مسبوق في التاريخ الحديث، فما من مدينة مرت بها جحافل تتار القرن إلا تركت خلفها دماراً وخراباً مهولاً، طال أهم المعالم والمنشآت التاريخية والدينية والسياحية.

لماذا تعادي التنظيمات العقائدية الآثار والمواقع التاريخية وتسعى إلى هدمها وتدميرها؟!

تنطلق كل هذه الجماعات، وقطاع من العلماء والمشايخ والمفتين، وبعض المناهج الدينية في المدارس والجامعات، من أفهام ضيقة لنصوص دينية يسيئون تفسيرها، ليروا أن كل هذه الآثار ما هي إلا بقايا ومخلفات وثنية، وأصنام محرمة دينياً، ومن ثم تجب إزالتها قياساً بما فعله الصحابة بعد فتح مكة، حيث حطموا ما فيها من أصنام كانت رموزاً للشرك قبل الإسلام.

لكن هؤلاء جميعاً يغفلون عن أن العلة أو الحكمة التي من أجلها حطم الصحابة تلك الأصنام في مكة هي اتجاه النفوس وقتها إلى تعظيم تلك الأصنام وعبادتها، إذ كان الناس قريبي عهد بالوثنية، إضافة إلى أنه من المنطقي تطهير مهبط الوحي ومعقل الدين من الأوثان، فهو حكم خاص بزمن معين، وبمكان معين، ولا يجوز تعميمه بدليل واضح وقاطع، أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم خاصة والمسلمين عامة، فتحوا بلاد الشام وفارس ومصر والهند وأفغانستان، ورأو هذه التماثيل والأصنام والمعابد، فلم يثبت أن أحداً منهم تعرض لها أو مَس معبوداتها بسوء.

ختاماً: لله تعالى در الشيخ محمد عبده الذي يعد إمام المجتهدين في العصر الحديث، عندما سئل عن حكم الصور والتماثيل، وكان مفتياً للديار المصرية، أصدر فتوى عام 1903، يقول فيها: انظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الأكبر، تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسداً، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم، وشكر الصنعة على الإبداع فيها... ما حكم هذه الصور- التماثيل- في الشريعة؟ أقول إن الاسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم الصورة أو التمثال قد محي من الأذهان، فإذا أوردت حديث «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة»، فالذي يغلب على ظني، أن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ للتبرك بمثال أحد الصالحين... إلى أن يقول: وبالجملة إن الشريعة أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقق أنه لا خطر فيها على الدين.

* كاتب قطري

back to top