الهاوية

نشر في 27-08-2016
آخر تحديث 27-08-2016 | 00:00
No Image Caption
تقلّب سهيل كثيراً في سريره، لكنّه لم يستطع أن ينام. قرّر نهاية مغادرة السرير، وتوجّه إلى المطبخ ليشرب كوباً من المياه. ألقى بيديه على حافة حوض غسل الصحون وأرخى برأسه نزولاً لعلّ العاصفة في رأسه تهدأ قليلاً فيعاود النوم. بعد دقائق، كان سهيل لا يزال متكئاً على الحوض حائراً. لا يريد العودة الى الغرفة التي تنام فيها زهرة. حضورها ثقيل حتّى وهي نائمة.

أعدّ لنفسه كوباً من الشاي، وارتدى سترة فوق البيجاما وخرج إلى الشرفة. كان الهواء يداعب نباتاته بلطف. حاول سهيل أن يُدخل بعضاً من سكون منطقة المصيطبة في الواحدة فجراً إلى نفسه، لكنّه لم يستطع. الهدوء والصمت أخافاه على غير عادة، هذه المرّة. لم يكن الصمت المطَمئِن الذي جُبِل به، بل كان سكوناً جعله يشعر بألم في صدره.

أحضر كتابه وحاول أن يلهي نفسه بالقراءة وهو يرتشف الشاي. لكنّ طعم الشاي، هذه الليلة، كان غريباً أيضاً. كلّما نزلت قطرة منه الى معدته تشنّجت، وازداد ضيق نفسه كلّما ارتفع الكتاب كجدار أمام عينه. وضع ديوان «أشعار خارجة عن القانون» على الطاولة البلاستيكيّة، إلى جانب كوب الشاي، وعاد ليفكّر في ما يقلقه. خضر لم يأتِ اليوم. يزعجه أنّ خضر لم يظهر. لكنّ زهرة تقول إنّه أفضل حالاً من دونه وإنّ عليه أن يكون سعيداً حين لا يأتي لزيارته. «على الأقل، يبقى البيت هادئاً»، تقول. ويردّ هو عادة على هذه «النصائح» بإيماءات برأسه أو بهمهمات غير مفهومة.

لا يحبّ سهيل أن يُفصح لزهرة عمّا يجول في خاطره ولكنّ جزءاً منه يعرف أنّها على حقّ وأنّه سيكون أفضل حالاً لو قطع علاقته بخضر، إذ إنّ خضر خبيث ويحبّ استفزازه وإثارة أعصابه، وكلّما غادر منزله، شعر سهيل بالمرض وبألم في رأسه من كثرة الشجارات التي تدور بينهما. لكنّ العاطفة تعود لتغلبه مجدّداً ويعود للتفكير بأنّ خضر يظلّ أخاه الكبير في النهاية. وهو، حتّى لو تشاجر معه قليلاً، لم يعد لديه صديق اليوم أو إنسان يشعر بالأمان بحضوره أكثر من خضر. أفكار سيّئة كثيرة تراوده حين يغيب عنه أخوه. «حسناً» قال سهيل لنفسه، «إنّها الساعة الواحدة فجراً. أكيد لا داعي لانتظاره أكثر اليوم».

انزلق قليلاً في كرسيّه، وضع يديه على معدته ووهب عينيه للسماء، فنام بعينين مفتوحتين. استيقظ من غيبوبته على صوت الساعة وهي تعلن حلول الثالثة فجراً.

حمل سهيل نفسه مجدّداً إلى السرير، واعداً إيّاها بأنّه سيحاول النوم، هذه المرّة، بجديّة أكبر. حين ألقى برأسه على الوسادة، شعر بوحدة فظيعة. كان قد عاش عمراً وحيداً، لكن في بعض الأحيان تداهمنا الوحدة في وحدتنا. لا يدري سهيل ما هو تحديداً هذا الشعور، إلاّ أنّه فجأة لا يعود مرتاحاً في وحدته، فجأة يشعر ببرد وخوف شديدين. كأنه كان يجلس إلى جانب صديق وحين أنعم النظر في تفاصيل وجهه، اكتشف فيه شكلاً مخيفاً. لكنّه على الأرجح يعرف السبب: غياب خضر يجرّده من الأمان.

تمنّى سهيل لو أنّ باستطاعته إيقاظ زهرة من سباتها، ليحميه صوتها وهي تقول بتعب «شو بييييك؟ شو بدددك؟». لكن الرعب هذه المرّة كان أكبر من أن تمحوه زهرة بصوتها الممتعض. عوضاً عن ذلك، استسلم لما يفعله عادة. رفع الغطاء فوق رأسه وراح يقرأ سورة الفاتحة وبعض الآيات القرآنيّة الصغيرة، إذ كانت هذه كل ما حفظه من القرآن. راح يعيد قراءة الآيات تارة ويعدّ الخراف تارة أخرى، ثمّ يعيد الآيات ويعدّ الخراف مجدّداً حتى غفا مع بزوغ الشمس منهكاً.

في السابعة صباحاً ترك سهيل السرير مجدّداً. لم يستطع أن ينام أكثر من ذلك. أدار رأسه ناحية الشمال فرأى زهرة على عادتها مستلقية هناك في سريرها، لكن هذه المرّة كانت عيناها مفتوحتين، تحدّقان في سقف الغرفة.

«صباح الخير»، قال. لكنّه لم يلقَ جواباً من زهرة. لم تشتمه على عادتها، بل ظلّت صامتة. حاول سهيل مرّة أخرى وسألها: «منشرب قهوة؟». لكنّها أيضاً حافظت على صمتها. «إشبك شي؟ احكيني، بس قوليلي إذا في شي؟». لكنّ زهرة أدارت له ظهرها في سريرها. «طيّب، ماشي. إذا ما بدك تحكيني، رح قوم أضهر شوي لكن».

تمنّى لو أنّه يستطيع الذهاب إلى العمل الآن كي يخرج الجميع من رأسه. نظر إلى الروزنامة على الحائط، إنّه الأحد، لا دوام اليوم. لا بدّ من أنّ بناته لا يزلن نائمات أيضاً. فقرّر أن يمشي حتّى «الجويدي» في طريق الجديدة ليأكل الفول. الفطور، أو الفول على وجه التحديد، كلّ يوم أحد، في مطعم «الجويدي» الصغير، تقليد حافظ عليه سهيل لسنوات كثيرة لدرجة أنّه ما عاد يعرف متى بدأ. ارتدى ملابسه وحين حاول فتح باب المنزل للخروج، وجده مقفلاً. ضرب بيده على جيبه الأيمن، ثمّ الأيسر، لا أثر لأيّ مفتاح فيهما. أين المفتاح؟ تذكّر أنّ زهرة أصبحت تخاف فجأة من لصوص تزعم وجودهم في الحيّ، وأنّها لا تشعر بالأمان سوى بإبقاء الباب مقفلاً. تشاجر معها كثيراً بسبب هذا الموضوع. هو وُلد وكبر في هذا الحيّ، ويعرف أهله أكثر ممّا يعرف نفسه. أخبرها أنّها تهينه وأهل حيّه بقصصها هذه عن اللصوص. وماذا لو عرف أهل الحيّ أنّه أصبح يقفل بابه خوفاً منهم؟ لا، لن يستطيع أبداً أن يخبرهم بما تفعله زهرة. لكنّه اليوم لن يتشاجر معها مجدّداً. لا طاقة لديه على الشجار، بل سيعود ليسألها إن كانت تريد أن تشرب القهوة على الشرفة الصغيرة المطلّة على الشارع. فكّر أنّ بقاءه في المنزل قد يكون أفضل، إذ قد يفاجئه خضر بزيارة، فهو لا يتّصل مسبقاً عادة لينبئه بقدومه، ولدى سهيل أشياء كثيرة ليقولها له اليوم.

back to top