تُخمة التعليم العالي في الصين

نشر في 23-08-2016
آخر تحديث 23-08-2016 | 00:02
النظام الحالي في الصين يسيء تخصيص المواهب، ويمنع الخريجين من تحقيق كامل إمكاناتهم، ويعوق قدرة الاقتصاد على تسلق سلاسل القيمة العالمية، والصين على النحو الحالي تتحرك بسرعة أكبر مما ينبغي.
 بروجيكت سنديكيت كانت الصين دوما تقدر التعليم حق قدره، وهو ما يعكس تقاليد كونفوشيوس، التي بموجبها يجب على المرء أن يتفوق دراسيا لتحقيق مكانة مهنية واجتماعية مرتفعة، ولكن اليوم تُبتلى الصين بما يسميه بعض المراقبين "حُمّى التعليم"، مع مطالبة الآباء من الطبقة المتوسطة بالمزيد من الدراسة لأبنائهم، وبحث الشباب عن سبل لتجنب عناء حياة المصنع.

وتغذي الحكومة الصينية هذا الاتجاه بالتأكيد على الحاجة إلى قوة عمل أفضل تعليما لمنافسة الغرب، وهذا العام وحده، خَرَّجَت الجامعات الصينية 7.65 ملايين طالب- وهو رقم غير مسبوق تاريخيا- كما تَقَدَّم تسعة ملايين طالب من حاملي شهادة المدارس الثانوية لامتحان القبول العام بالجامعات في الصين، وهي أرقام مذهلة، حتى في بلد يبلغ عدد سكانه مليار نسمة وتعادل نسبة التحاقهم بالتعليم العالي ثلث مثيلاتها في الاقتصادات المتقدمة. وتتضح لنا تبعات هذا الاتجاه عندما نعلم أن الصين خرجت أقل من 2 مليون شخص في كليات التعليم العالي عام 1999، وكانت نسبة اجتياز اختبار القبول بالجامعات العامة 40% فقط، أي نصف النسبة اليوم.

التعليم في حد ذاته لا يمكن اعتباره أمرا سيئا أبدا، ولكن التحرك نحو "الجامعات الحاشدة" من ذلك النوع الذي ظهر في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية يحدث بسرعة أكبر مما ينبغي، كما وصل في وقت مبكر إلى الحد الذي يجعل الاقتصاد الصيني عاجزا عن استيعابه، فمع عدم اكتمال انتقال الصين إلى اقتصاد ما بعد الصناعة، يصبح توسيع القدرة على الوصول إلى التعليم الجامعي بشكل كبير سببا في تقويض جودة التعليم، كما يفرض تكاليف جانبية مرتفعة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

على سبيل المثال، لتلبية أهداف الالتحاق بالتعليم العالي الطموحة التي حددها الحزب الشيوعي، خفضت المؤسسات التعليمية معايير القبول وسجلت الطلاب في مجالات دراسية لا قيمة لها في السوق، فقط لمجرد استيعابهم. وقد أدى هذا إلى تدهور جودة التعليم بشدة في الجامعات من الدرجة الثانية والثالثة التي تتركز في محافظات الصين الداخلية، وبالتالي توسيع فجوة التنمية بين الساحل الحضري والمناطق الريفية داخل البلاد.

من ناحية أخرى، تنتج الصين في ظل معدل بطالة بين الخريجين بلغ 16% عددا من العمال المتعلمين أكبر كثيرا مما يستطيع الاقتصاد استيعابه، وقد انخفضت علاوة الأجور للعاملين الذين يحملون شهادة البكالوريوس بنحو 20% في السنوات الأخيرة، وكثيرا ما يضطر الخريجون الجدد إلى قبول وظائف- مثل تنظيف الشوارع- أقل كثيرا من مؤهلاتهم التعليمية، وفي ظل هذه الظروف ينضم العديد من الخريجين الجدد الآن إلى الحزب الشيوعي لأن عضويته تعتبر جذابة في نظر أصحاب العمل المحتملين، ولكن من الصعب أن نرى كيف قد تكون سوق العمل فعّالة إذا كان أصحاب العمل يتخذون قرارات التوظيف على أساس المحسوبية السياسية وليس الجدارة.

مع التحاق المزيد من الطلاب الصينيين بالجامعات، يتخرج عدد أقل من الطلاب في المدارس المهنية، التي تعلم المهارات التي يحتاج إليها الاقتصاد بالفعل، والواقع أن الطلب على الموظفين المؤهلين في الأعمال اليدوية مرتفع للغاية حتى إن عمال النسيج في البلاد (23 مليون عامل) بلغ دخلهم في عام 2015 نحو 645 دولارا أميركيا في المتوسط شهريا، وهو ما يعادل متوسط دخل الخريج الجامعي.

وقد اعترفت الحكومة الصينية جزئيا بهذا الخلل وتقول إنها تعتزم تحويل نحو 600 كلية إلى مدارس مهنية بحلول نهاية العام المقبل، ولكن هذا الإصلاح على جانب العرض لا يعالج مطالب الطبقة المتوسطة المزدهرة في الصين. وبعد أن أصبح الوصول إلى الجامعات متيسرا للغاية، ستستمر الأسر الصينية في تفضيلها وتقديمها في المرتبة على ما يعتبرونه مدارس من الدرجة الثانية.

الواقع أن الوضع مؤسف لجميع المشاركين، ففي سعيها إلى تحقيق هدف التعليم العالي الشامل والمكانة العالمية، تجعل الصين شبابها يتعلقون بوعد الوظيفة المهمة العالية الأجر بعد التخرج، وهو الوعد الذي لن تتمكن الصين من الوفاء به لفترة طويلة.

فبادئ ذي بدء، تواجه الصين ظروفا اقتصادية عالمية خارجة عن سيطرتها، وتريد الصين تحويل نموذجها الاقتصادي بعيدا عن التصنيع ونحو الخدمات، حيث يمكن توظيف خريجيها الكثيرين في وظائف مجزية؛ لكنها في الوقت الحالي أصبحت حبيسة وضعها في قاع أغلب سلاسل القيمة العالمية.

عندما تنمو سلاسل القيمة العالمية وتُخلَق وظائف جديدة، يجري توزيع هذه الوظائف وفقا للميزة التنافسية التي تتمتع بها كل دولة، ولأن الصين تخصصت لفترة طويلة في مهام لا تتطلب مهارات عالية، فإن هذا هو نوع العمل الذي سيُترَك للعمال الصينيين. فإذا توسعت صناعة الهواتف الذكية، على سبيل المثال، فستستأجر شركات وادي السليكون المزيد من المهندسين، وستستأجر مدينة شنتشن المزيد من عمال التجميع لبناء ما يصممه المهندسون في وادي السليكون.

وإذا كانت الصين راغبة في الانتقال إلى مرتبة أعلى على سلسلة القيمة، فيتعين عليها أن تعمل على توسيع قدراتها التكنولوجية، ولهذا السبب كان الإبداع في صميم أحدث خططها الخمسية، لكن أغلب استثمارات الصين في التكنولوجيا الفائقة حتى الآن كانت في الخارج- في قطاعات تتراوح بين الإلكترونيات والتكنولوجيا الحيوية إلى البرمجيات وتكنولوجيا النانو- وهو ما لن يغير مرتبتها على سلسلة القيمة. وبوسع الصين أيضا أن تعمل على توسيع قطاع التكنولوجيا من خلال المشاريع المنشأة محليا، ولكن الاقتصاد الصيني لا يوفر القدرة على الوصول إلى الائتمان بسهولة ويعاني العراقيل المتمثلة بالقيود التنظيمية المفرطة التي تجعل من الصعب بدء أي عمل تجاري تنافسي.

إن إعادة هيكلة الاقتصاد الصيني مشروع طويل الأمد، وفي الأمد القريب ينبغي للصين أن تجعل الوصول إلى التعليم العالي أكثر صعوبة، حتى يتسنى له أن يحقق الغرض منه، وينبغي للجامعات الصينية أن تحرص على تخريج طلاب أعلى جودة وبمعدل أبطأ، وينبغي لكل الطلاب الآخرين أن يلتحقوا بالبرامج المهنية، والتي ستفقد وصمتها الحالية عندما تصبح الخيار التعليمي الأولي.

الواقع أن النظام الحالي يسيء تخصيص المواهب الصينية، ويمنع الخريجين من تحقيق كامل إمكاناتهم، ويعوق قدرة الاقتصاد على تسلق سلاسل القيمة العالمية، والصين على النحو الحالي تتحرك بسرعة أكبر مما ينبغي، ولكن يقول المثل الكونفوشيوسي القديم: "لا يهم إن كنت تتحرك ببطء ما دمت لن تتوقف".

إدواردو كمبانيلا

* خبير اقتصادي في منطقة اليورو في يوني كريديت (UniCredit)، وزميل معهد إسبن.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

هذا العام وحده خَرَّجَت الجامعات الصينية 7.65 ملايين طالب

9 ملايين طالب من حاملي شهادة المدارس الثانوية تقدموا لامتحان القبول العام بالجامعات في الصين
back to top