العرب... بين أنقرة وإسطنبول (2-3)

نشر في 18-08-2016
آخر تحديث 18-08-2016 | 00:05
 خليل علي حيدر بصمة الإخوان المسلمين

عنوان

أشار الرئيس السابق لتحرير صحيفة "الاتحاد" الإماراتية راشد صالح في صحيفة (الحياة 25/ 7/ 2016) إلى سمتين من سمات تحرك الإخوان المسلمين في الانقلاب: "البصمة الإخوانية تبدو في استهداف إردوغان قطاع التعليم تحديدا، إذ فصل بعد خمسة أيام فقط من الانقلاب 15 ألف معلم من وظائفهم، وسحبت رخص العمل من 21 ألف معلم في المدارس الخاصة، ولعلنا نذكر أن التسلل "الإخواني" المخادع في بلدان الخليج العربي وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى بدا من مجال التعليم تحديدا، بهدف السيطرة على عقول الناشئة والتحكم فيها، وهي لا تزال في مرحلة التشكل، وقبل أن تتطور قدرتها على فرز الجيد من الرديء من الأفكار.

إنها ليست مصادفة أن يكون نصف من أبعدهم إردوغان من المنتمين إلى حقل التعليم، فهو لا يتصرف خارج "الكتالوغ الإخواني"، المعهود ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء لتعرف أن مدارس تركيا ستتحول الى حاضنات لفكر الجماعة، وذراعا من أذرع حزب "العدالة والتنمية". ومن ثم لن تكون المدارس مؤسسات اجتماعية لتهيئة الفرد للانتظام في المجتمع والتواؤم معه بقدر ما ستكون مدارس تلقين حزيبة تعلو فيها الأيديولوجية على ما عداها من اعتبارات، ولن تكون المدارس مكانا للانصهار في شعور وطني جامع، بقدر ما ستكرس الانقسام والشقاق، وبالطبع سيؤثر ذلك في نوعية التعليم وكفاءته، كما حدث في كل التجارب التي سيطر فيها "الإخوان" على هذا القطاع، ولكن من قال إن الكفاءة والنوعية ما يشغل رجب طيب إردوغان والإخوان المسلمين".

السمة الثانية في خطوات سيطرة الإخوان على أي وضع أو مؤسسة هي التمكين، فيقول الأستاذ العريمي: "الهيمنة المطلقة والكاملة سمة "إخوانية" أخرى كانت لها مظاهر لدى إردوغان من قبل، لكن تداعيات الانقلاب أتاحت الرغبة الإردوغانية (الإخوانية المنشأ والأصل) في الهيمنة الكاملة والمطلقة أن تبدو سافرة من دون مواربة، فلم يعد الأمر محاسبة لمن تورط في الانقلاب، بل أصبح ذريعة للإبعاد العنيف والتام لكل من يختلفون مع إردوغان في الرأي".

ويضيف العريمي أن إردوغان فيما يبدو، كان قد استعد جيدا لمثل هذا اليوم: "أوضح الانقلاب أيضا أن إردوغان أسس تنظيمات "تحت الأرض" يعتمد عليها أكثر من اعتماده على أكثر من اعتماده على أجهزة الدولة، وهذه من بين ثمار الانتماء إلى جماعة لم تعتد العمل في النور. وتكشف وقائع كثيرة عن أن من خرجوا إلى الشوارع للتصدي للانقلاب لم يكونوا من "جموع الشعب" كما أشيع، بل كانوا في معظمهم أعضاء تنظيمات وتشكيلات نشأ بعضها داخل أجهزة حكومية كالشرطة والاستخبارات، وتزداد كل يوم الدلائل على أن هناك "جيشا داخل الجيش" و"استخبارات داخل الاستخبارات" و"شرطة داخل الشرطة" تعمل خارج الإطار المؤسسي المفترض والفكر الذي يقف وراء تأسيس هذه التنظيمات ينبع من شكوك "إخوانية" الجذور تجاه مؤسسات الدولة وانعدام الثقة بها، ورغبة في تحطيمها لتقوم على أنقاضها مؤسسات "إخوانية" صرفة لا مكان فيها لآخرين".

الجيش معقل العلمانية الأخير

"إردوغان يستعين بتراجيديا الإخوان لينقض على إخوانه"، كتب "حازم الأمين" في الحياة، 24/ 7/ 2016 مشككاً في حقيقة انقلاب "غولن" ودوره: "غولن لا يكفي لإحداث كل هذا الضجيج، الرواية ركيكة عن أن الرجل يطمح للاستيلاء على تركيا. ثم إن توجه الرواية الإردوغانية نحو داعية إسلامي بصفته شيطان عصره وزمانه، يضعنا أمام مفارقة لم يسبق أن عاينا مثيلا لها. الإخوان المسلمون في مواجهة من يشبههم في الدعوة وفي الإيمان! انفكاك لا نملك عدة تفسيره حتى الآن، فالإسلاميون المتناحرون في تركيا رموا بخصومهم القوميين والعلمانيين خارج حلبة الصراع. التهمaيش جرى هنا عبر حرف النزاع وعبر إنتاج جوهر جديد له".

الجيش تقليديا هو معقل العلمانية الأخير، يقول الأمين، أما إرودغان فيقول غير ذلك! "يقول إنه معقل غولن"، ويقول إن 60 في المئة من ضباط الجيش دخلوا إلى المدرسة العسكرية بمساعدة من غولن "لكن إردوغان لم يترك مجالا للذهاب مع المؤامرة المحاكة حوله. فقد ظهر علينا فجأة رافعا أذان صلاة الفجر، وهذه دروشة مفتعلة لا تساعد على هضم الحكاية".

ويشير الأمين إلى منع مفتي تركيا إقامة صلاة الميت على جثامين الجنود الانقلابيين، مما يعني أن الدولة التركية أعلنتهم كفارا، ويذكّر القارئ بتراث الإخوان المسلمين فيقول "إن الخطوة تنطوي على مصادرة "العدالة والتنمية" الحق بالتكفير في دولة علمانية، فإن الذهاب في الخصومة إلى حد التكفير مستمد من تقاليد انقلابية استئصالية خبرها "الإخوان المسلمون" وكانوا ضحاياها في مصر عبدالناصر، حين اتهموا بمحاولة اغتياله في المنشية عام 1954، وكانت فرصته لتعليق المشانق لقادتهم".

تجارب مصر وسورية

ويهاجم الأمين الاتهامات التي روج لها أنصار إردوغان ضد الانقلايين: "الانقلابيون كانوا ينوون قتل عبدالله أوجلان لإشعال حرب أهلية في تركيا، وكانوا ينوون "شق الجيش وافتعال حروب بين فرقه وقطعاته"، هذه كلها قصص بثها الإعلام القريب من إردوغان، وهذا الإعلام لم يراع الحد الأدنى من ذكاء مستقبليه".

ويقارن الكاتب "حازم الأمين" هذه المناورة الإعلامية لجبهة العدالة والتنمية بتجربتين من تجارب مصر الناصرية وسورية البعثية، فيقول: "في عام 1954 جرت محاولة لاغتيال جمال عبدالناصر، استثمرها لاستئصال الإخوان المسلمين، وفي عام 1963 أقدم الناصريون على محاولة انقلاب على الحكومة البعثية في دمشق، علم البعثيون بنوايا الناصريين وسهلوا لهم المهمة، وكان فشل المحاولة وسيلة "البعث" لتطهير سورية من أي نفوذ ناصري.

الأرجح أن إردوغان يكرر ما جرى في مصر وفي سورية".

المصريون وانقلاب تركيا

تدهورت العلاقات المصرية- التركية بعد ثورة 2013 ضد الإخوان ومجيء الرئيس السيسي للسلطة، فكيف كانت "المقاربة المصرية للحالة التركية"، كما تساءل الكاتب المصري صلاح سالم وبخاصة الشامتين والمهللين!

"إن الشامتين بإردوغان، المهللين للانقلاب العسكري الفاشل"، كتب سالم، اتخذوا الموقف الخطأ، بعيدا عن النتائج العملية، والمآلات النهائية".

وأشار إلى ثلاث نقاط لابد أن تؤخذ بالاعتبار: "الأمر الأول الوقوف في الاتجاه الخاطئ لحركة التاريخ، مع القوة والسلاح والإرغام والقهر، بدلا من الوقوف في الاتجاه الصحيح، مع حرية الشعوب وأحلامها وحقها في التعبير عن نفسها، لم يفهم هؤلاء الشامتون، مثلا مغزى إعلان أحزاب المعارضة التركية الرئيسة، وعلى رأسها "الشعب الجمهوري" رفضها الانقلاب ومطالبة الجيش بالعودة إلى ثكنه منذ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب، قبل أن تتكشف اتجاهات الريح، ما يعني أنه موقف مبدئي وأخلاقي.

الأمر الثاني ثقافي، وهو أن العلمانية الأتاتوركية التي وقع الانقلاب العسكري بدعوى استعادتها، لم تكن هي النموذج المرغوب عربيا، فالأتاتوركية صيغة متطرفة من العلمانية الأوروبية، لا تكتفي بإخراج الإسلام من المجال العام السياسي بل كانت تحاربه في الفضاء العام الاجتماعي، كما كانت تعادي جيرانها العرب جموحا إلى الانضواء في الاتحاد الأوروبي والتحالف مع إسرائيل في الخارج، إلى درجة كانت تضغط على أعصابنا خصوصا في سورية، أما النموذج الذي جسده حزب العدالة والتنمية خلال عقد ونصف عقد، فنهض على علمانية "سياسية" معتدلة، يتصالح داخلها الإسلام الحضاري مع الديمقراطية التمثيلية (الغربية)، إلى حد كان يمكنه أن يلهم مجتمعاتنا العربية في الداخل، ويبني جسرا بينها وبين العالم الغربي، لو أحسنت بلادنا استقباله، واستمر إردوغان في حسن تجسيده داخل بلده، وحسن تقديمه إلينا، وهو ما لم يتحقق، خصوصا منذ حزيران (يونيو) 2013 عندما تورط إردوغان بمواقف معادية لمصر، ومؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم تحرك نحو الإسلام السياسي ابتعادا من الإسلام الحضاري.

الأمر الثالث والأهم، سياسي يتعلق بالانقسام الذي بدا واضحا بين المصريين، فمن يؤيدون الإخوان المسلمين أو يتعاطفون مع الإسلام السياسي عموما، اتخذوا موقفا مؤيدا للحكم المدني والرئيس إردوغان، والعكس صحيح حيث أخذ المؤيدون للثلاثين من حزيران (يونيو) موقفا مؤيدا للانقلاب العسكري. وهنا يعطي هؤلاء رسالة سيئة عن مصر، ويمنحون "الإخوان" شرفا لا يستحقونه، فمعروف أن كل فاعل سياسي يميل إلى من يجسد قيمه، ويدفع عمن يشبهه، ومن ثم فإن حماسة غالبية المصريين للانقلاب تكاد أن تشبه اعترافا ضمنيا بأن ما حدث في 30 حزيران (يونيو) كان انقلابا، وأننا لذلك نثمن الانقلاب التركي ونتعاطف معه، فيما الإخوان وأذنابهم يتحمسون للحكم المدني الذي يؤمنون به ويجسدونه، فهل هناك رسالة أكثر غباء من ذلك". (الحياة، 24/ 7/ 2016).

حرب بين «الإخوان»

وحذر الإعلامي والكاتب عبدالرحمن الراشد من أنه لا ينبغي الاستعجال في إصدار الأحكام على هذا الانقلاب: "فالذي حاول الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب رجب طيب إردوغان لم يكن الجيش كمؤسسة ولا المعارضة العلمانية، بل جماعة فتح الله غولن الإسلامية: "الكيان الموازي"، كما يسميها الرئيس إردوغان، ويتهمها بالسعي للاستيلاء على الحكم والجماعة أقرب شكلا ورسالة وتنظيما إلى جماعة الإخوان المسلمين، وإن لم يكن لها علاقة بها". هذه إذاً، في تحليل الراشد، من حروب الإسلاميين الأتراك الداخلية، والمئات من رجال الأمن هناك يطاردون أعضاء أكبر جماعة إسلامية منظمة في تركيا وآسيا الوسطى، أي جماعة غولن.

ويضيف الراشد مكملا: "فالذي خان إردوغان وحاول إسقاط الشرعية هو جماعة إسلامية مسيسة استخدمت بعض أعضائها المنتسبين إليها سرا ويعملون ضباطا وموظفي حكومة، وحتى في مكتب رئيس الوزراء، واعتمدت على تنظيم سري ينتمي له طابور من القضاة والمدرسين.

والمحققون الأمنيون في محاولة الانقلاب لا يبحثون عن الأسلحة في مكاتب المتهمين وبيوتهم بل يفتشون عن كتب ومنشورات دينية لزعيم الجماعة تثبت ارتباطهم بالجماعة الإسلامية".

وفي الواقع التنظيمي لا ترتبط جماعة غولن بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين كجماعة من جماعة الإخوان فيما يبدو، ولكن من جانب آخر فإن جماعة غولن التركية، يقول الراشد "جماعة إسلامية مسيسة تشبه تنظيم الإخوان المسلمين العربي، الذي يعتمد هو الآخر على بناء كيان مواز للدولة ينافسها من خلال النشاطات الاجتماعية والتعليمية والبنكية للوصول إلى عمق المجتمع والسيطرة عليه. وجماعة غولن، مثل الإخوان، تمارس "التقية" عند ملاحقتها، تعمل سرا من أجل التغيير وفي العلن تنفي أنها حركة تآمرية". ويرى الراشد أن دعاة تركيا مثل دعاتنا في الجماعات الإسلامية! فغولن "مثل بعض الدعاة المسيسين لدينا الذين يزعمون أن الملائكة تنزل عليهم وتخاطبهم، يقدم نفسه كصاحب معجزات، يقول إنه حفظ القرآن وهو في الرابعة من عمره، وإن أمه كانت توقظه في منتصف الليل ليكمل حفظه، وقد أخلص غولن لمشروعه حيث أمضى نحو أربعين عاما يعمل داعية بين المساجد في أنحاء الأناضول، وبنى منظمة عملاقة لها مئات المدارس الدينية في تركيا، ولاحقا مد نشاطاته التعليمية والخيرية في جمهوريات آسيا الوسطى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

لقد نجح غولن في إحداث تغييرات في المجتمع التركي، وخلق قاعدة شعبية مستفيدا من الحريات والانفتاح الاقتصادي الكبير الذي عم البلاد منذ الثمانينيات. واتضح أن الرئيس إردوغان الذي يعرفه جيداً، على حق عندما عبر مبكرا عن توجسه من جماعة غولن السرية، حيث يبدو أنها نجحت في التسلل إلى عمق المؤسسة العسكرية، الأكثر تحصينا". (الشرق الأوسط، 23 /7/ 2016).

(يتبع غداً)

back to top