الطرق الصوفية... والإسلام السياسي في تركيا (2)

نشر في 29-07-2016
آخر تحديث 29-07-2016 | 00:10
 خليل علي حيدر في أغسطس 1925 دخل أتاتورك مرحلة الصدام مع تيار التصوف وجماعاته الشديدة القوة والنفوذ والقدسية، وألقى خطاباً في مدينة "قسطموني" التي تنتشر فيها الطرق الصوفية، وقال لمستمعيه بصراحة مؤلمة: "إن طلب العون والمساعدة من قبور الأموات صفعة على جبين المجتمع الإنساني المتحضر، يجب أن تتعلموا أيها السادة أنتم وأفراد أسركم، وعلى الأمة التركية بأسرها أن تعلم أن الجمهورية التركية العلمانية لا يمكن أن تكون بعد اليوم أرضا خصبة للمشايخ والدراويش وأتباعهم من أصحاب الطريقة، وإذا كان هناك من طريقة حقيقية فهي طريقة الحضارة المبنية على العلم... وعلى مشايخ الطرق أن يفهموا هذا الكلام بوضوح وبالتالي يغلقوا زواياهم وتكاياهم عن طيب خاطر وإلى الأبد قبل أن أدمرها فوق رؤوسهم". ( د. حبيب، ص28).

وقدم الزعيم التركي إلى البرلمان لائحة قانونية أمضاها "المجلس" في العام نفسه، تضمنت ما يلي:

"1- إغلاق الزوايا والتكايا الموجودة بالدولة سواء أكانت وقفا أو ملكاً لمشايخها.

2- إلغاء كل أنواع الطرق وألقاب مشايخها ودراويشها والأعمال التي يقومون بها للجمهور.

3- حظر الملابس والأزياء التي تدل على الطرق وصفاتها وتنويعاتها.

4- إغلاق جميع المزارات وقبور الأولياء والسلاطين ومشايخ الطرق.

5- الحكم على من يخالف هذا القرارات بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وغرامة لا تقل عن خمسين ليرة.

6- تحويل جميع ممتلكات الزوايا والتكايا من الأساس إلى متاحف الدولة.

وتضمن قانون العقوبات التركي ما يفيد تجريم تأسيس أو تشكيل أو تنظيم أو إدارة أي جمعية على أساس ديني أو عقائدي يخالف العلمانية أو يخل بنظامها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، كما يعاقب كل من ينتمي إلى هذه الجمعيات أو يدعو إلى الانضمام إليها أو يعمل دعاية لها أو يستغل الدين كأداة سياسية، كما أن النشر أو المساعدة في النشر لمواد تخل بالعلمانية هي جرائم يعاقب عليها القانون". (د. حبيب، ص29).

وعن وضع القوانين موضع التنفيذ يقول المؤرخ "دروزة": "وقد نُفذ القانون بكل جد وسعة، فأغلقت كل زاوية وتربة ومزار، واختفت تلك الأزياء والأشكال المتنوعة للطرق وأسمائها وطبولها وزمورها وناياتها ودفوفها وأعلامها وشاراتها وحلقاتها ودروايشها ومريديها وخلفائها، كما اختفت الشعوذات التدجيلية المتنوعة من تخوت رمل وكتابة طلاسم وسحر وتعاويذ وتمائم وأحجبة، وكان في تركيا من كل ذلك شيء كثير منتشر في طول البلاد وعرضها، ومدنها وقصباتها وقراها.

على أننا نقيد من قبيل تصوير الحالة الحاضرة أنه يُعثر من آن لآخر على نساء ورجال يتعاطون بالسر بعض الأعمال المحظورة من كتابة الأحجبة والتمائم، وشعوذة السحر والطلاسم، ومن الدعوة إلى بعض الطرق وتجميع المريدين، وتوجيه مناصبها، وإقامة حفلات الأذكار باسمها، وينال مشايخها التوقير والاستجابة فيساقون إلى المحاكم، وتوقع عليهم العقوبات".

(تركيا الحديثة، محمد عزة دروزة، بيروت 1946، ص77-78).

لم تتقبل الطرق الصوفية مثلها مثل الأوساط والقوى التركية الأخرى التي رفضت التغييرات العميقة التي فرضها مصطفى أتاتورك في المجال الديني والتشريعي، إلى جانب هذه الإجراءات الموجهة ضد جماعات وفرق المتصوفة خاصة.

لجأت الطرق الصوفية إلى العمل السري، وأصبحت أكثر تسييساً وعنفاً، كما هي الحال بالنسبة إلى الطريقة النقشبندية والتيجانية والسليمانية وغيرها، وكانت المواجهة الأولى بين الدولة والشيخ سعيد الكردي النقشبندي في فبراير 1925 أحد أخطر التحديات التي واجهتها الدولة الكمالية. ويقول د. حبيب إن قادة الحركة اعتبروا إلغاء الخلافة أحد أسباب المروق على الدين. ومن جانب آخر كان لإلغاء نظام الخلافة الوراثي في الطريقة النقشبندية التي كان ينتمي إليها معظم علماء الدين في كردستان تركيا أثر كبير في حقدها على الحكومة، وكان برنامج الحركة وشعارها المعلن هو إعادة الاعتبار إلى الدين وحكم الشريعة وتنصيب سليم أفندي أحد أبناء السلطان عبدالحميد خليفة، غير أن الحكومة ألقت القبض على الشيخ سعيد وتم إعدامه في أبريل 1925. وبدءاً من ستينيات القرن العشرين انتقلت الطرق الصوفية من السرية إلى العلنية، وأصبحت جزءا من الحركة الإسلامية في تركيا والحياة السياسية، وإن تحاشت الطرق الصوفية ممارسة العمل السياسي المباشر باعتبار أن العمل الاجتماعي والدعوي والأخلاقي هو مجال فعلها الأساسي، لئلا تنكشف بنيتها التنظيمية فتكون بذلك في وضع قانوني يدينها.

ومن مصادر قوة التصوف في تركيا بنيتها التنظيمية، ومفهوم الطاعة والعلاقة الصارمة ذات الطابع الروحي بين الشيخ والمريد، "فكل مسلم في تركيا لديه طريقة ومذهب لممارسة دينة، وغالب الزعماء السياسيين لهم ارتباطات قوية بالطرق الصوفية، فعلى سبيل المثال فإن أربكان نقشبندي وتورجوت أوزال نقشبندي، وعدنان مندريس كان وثيق الصلة بالنورسية، وكان يراسل أحد مشايخها مراسلات خاصة، يقول له فيها: أقبّل يدكم، وكان ذلك ضمن أسباب إعدامه من قبل انقلابيي عام 1960". (د. حبيب، ص32).

ويضيف الباحث عن واقع الطرق الصوفية اليوم وعلاقاتها الوثيقة بالشارع والفقراء والطبقات الشعبية فيقول: "ويقدر تقرير للمديرية العامة للأمن في تركيا أن عدد مراكز الطرق الدينية في مدينة إسطنبول وحدها قد ارتفع من 307 مراكز عام 1991م إلى 560 عام 1996 فيما بلغ عددها في أنقرة نحو 130 مركزاً، وتمثل الطرق الصوفية شبكة اجتماعية ذات طابع مدني تعاوني تمثل سقفا من الحماية للطبقات الفقيرة والمحرومة من الحرفيين والعمال والطلاب الذين لم يكملوا تعليمهم والطبقات الوسطى الدنيا، وتعرف الطرق الصوفية حضوراً قويا حول أحزمة الفقر وأكواخ الصفيح Gecekondu التي تحيط بها ولا سيما في إسطنبول، كما تعرف الطرق نفوذا قويا في مناطق شرق تركيا حيث يتضاءل وجود الدولة المركزية هناك بسبب الاضطراب الأمني الناشئ عن المشكلة الكردية". (ص33).

وتنسب "الطرق النقشبندية" إلى محمد بهاء الدين البخاري النقشبندي (1389م) وهي أقدم الطرق الدينية في تركيا وأكثرها انتشاراً، ويقدر عدد منتسبيها بأكثر من مليوني شخص. ويحاول أتباعها إظهار تمسكهم بالسنة النبوية، وهي وإن كانت جماعة تقليدية فإنها متأثرة بالإسلام السياسي وتوجهات ومبادئ الإخوان المسلمين وأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا، كما أن لديهم نزعة تأويل واسعة، ويهتمون بالوجه الدنيوي للإسلام مثل الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية العسكرية، ومعظمهم يؤيدون حركة "ملي جورش" التي أسسها أربكان، وفي الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2002 أيدت أكبر جماعات النقشبندية حزب السعادة ولم تؤيد حزب العدالة والتنمية، وتتفرع الطريقة اليوم إلى عدة أفرع، مثل جماعة إسكندر باشا وله جماعة تتبعه في أستراليا، وللجماعة في تركيا نشاط إعلامي بارز من خلال مجلة "إسلام" ومجلة "العلم والفن" وهما تصدران في كل من أنقرة وإسطنبول، وكان توزيعهما عام 1994 مئة ألف نسخة لصحيفة إسلام و60 ألفا للثانية. (د. حبيب ص35).

ومن النقشبندية جماعة إسماعيل آغا أو جارشمبا، وتعني بالتركية الأربعاء، وتشير إلى منطقة الجماعة وهي ضاحية في إسطنبول، وهي جماعة تهتم بالمدارس الدينية والشعارات للرجال والشرشف للنساء، وهم يتجولون علنا في مدينة إسنطبول رجالا ونساء وأطفالا بملابسهم العثمانية التقليدية، تعبيرا عن التمسك بالتقاليد العثمانية التي يرونها تقاليد إسلامية، وهم يهتمون كذلك بإحياء الحروف العربية في تركيا، ويقول د. حبيب إنه قام بزيارتهم بمسجدهم في منطقة جارشمبا بمنطقة فاتح في إسطنبول "ولاحظتُ أنهم يتشددون في استخدام اللغة العربية حتى إن الساعة المعلقة على حائط المسجد كانت إشاراتها وأرقامها مكتوبة باللغة العربية".

ومن الطرق الأخرى ذات التأثير الإعلامي والسياسي في الصراعات التركية الطريقة القادرية والطريقة التيجانية التي دعا زعيمها "كمال بيلاف وغلو" ذات مرة إلى "إلغاء الأتاتوركية والعودة للإسلام"، والطريقة المولوية وهم يدعمون الموسيقى الصوفية ويتحاشون السياسة، والطريقة معروفة في أميركا ولها أنصار هناك وزوايا وتكايا. (د.حبيب، ص 4٥-4٢).

غطى نشاط الطرق الصوفية ضد النظام الكمالي الفترة ما بين 1970-١٩٢٣، فحتى عام 1970 كان النشاط الإسلامي السياسي "مرتبطا ببقايا الطرق الدينية التي لجأت الى العمل السري، بعدما حظر وجودها ولوحق أفرادها من جانب الكماليين طوال فترة حكم الحزب الواحد بين 1923 و1950، وكان جل اهتمام أفراد هذه الطرق حماية البنية الفكرية والاجتماعية لها من التفكك والإبادة، وكان ذلك عبر الابتعاد عن الممارسات السياسية، وتجنب أي ظهور علني، ومع الانتشار الكاسح للحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس في انتخابات 1950 وسيطرته على حكومات تركيا طوال عقد الخمسينيات أتيح للإسلام الفكري والاجتماعي العديد من الفرص لالتقاط أنفاسه، والتعبير عن بعض تطلعاته، لكن بالتعاون مع "مندريس" المنفتح عليها. وكانت تلك مرحلة مهمة لجهة بدء العامل الإسلامي حضورا مؤثرا في الحياة السياسية من خلال أحزاب النظام نفسه".

(حجاب وحراب: الكمالية وأزمات الهوية في تركيا، محمد نورالدين، بيروت 2001، ص 21٦-21٥).

لم تؤثر الطرق الصوفية في الساحة السياسية والفكرية والاجتماعية التركية بشكل مباشر فحسب، مهما كانت درجة هذا التأثير، بل كانت مساهمتها الكبرى في نجاح الثقافة الصوفية في تقبل مصاعب الصراع وتطوير أدواتها بتأسيس جماعات صوفية وتيارات سياسية وقيادات شعبية رفدت الإسلام السياسي التركي بالكثير من القوة الشعبية، كما سنرى في حديثنا عن "جماعة النور" التي تأسست حول أفكار الشيخ سعيد النورسي، وهي الجماعة التي انتمى إليها الداعية" فتح الله غولن"، غريم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وتخرج فيها.

back to top