استراتيجية جديدة جريئة للاتحاد الأوروبي

نشر في 25-07-2016
آخر تحديث 25-07-2016 | 00:02
يتعين على أوروبا الآن بعد استراتيجية الأمن الأوروبي أن تجد لنفسها مكاناً وسط منافسة بين قوى عظمى، وأن تتعامل مع الصراعات وعدم الاستقرار على جناحيها الشرقي والجنوبي، إذ يبدو أن معارضة الجهود الرامية لتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي أصبحت في ارتفاع.
 بروجيكت سنديكيت عندما تتراكم المشاكل، كما هي الحال في أوروبا، حيث يأتي الانقلاب الفاشل في تركيا في أعقاب القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يتركز الاهتمام غالبا على القضية الأحدث نشوءا، أما المشاكل السابقة التي تبدو أقل إلحاحا الآن فمصيرها الإهمال، فلسنوات عديدة رأينا نحن الأوروبيين كيف يجري هذا النهج مجراه: ففي نهاية المطاف، يبدو ألا شيء من المشاكل يُحَل أبدا.

الآن، يبدو أن الانقلاب التركي يحل نفسه، وإن كان لا أحد يدري بعد ما الآثار البعيدة المدى التي قد يخلفها على هذه الدولة المحورية، ولا شك أن الخروج البريطاني كان ضربة حقيقية للمشروع الأوروبي، فقد اختارت إحدى الدول الأعضاء للأسف أن تمضي قدما وحدها، ولكن لا ينبغي لهذه الحقيقة أن تقود الاتحاد الأوروبي إلى الوضع الأكثر سوءا على الإطلاق: الشلل.

من الواضح أن القضايا العديدة التي لا يزال لزاما على الاتحاد أن يحلها لن تختفي بمرور الوقت، وتتمثل واحدة من أكثر هذه القضايا إلحاحا في أمن أوروبا: وكل يوم يمر من دون اتخاذ إجراء مشترك يُعَد فرصة ضائعة ويقود إلى خطر أعظم.

تستلزم معالجة هذه القضايا على نحو فعّال، بدلا من الوقوع في فخ القضايا الآنية، التمسك باستراتيجيات مقبولة، ومن خلال تحديد التحديات، ووضع أهداف بعيدة الأمد، وتصميم العمل الجماعي اللازم لتحقيق هذه الأهداف، توفر الاستراتيجيات إطارا للمبادرات الرامية إلى معالجة المشاكل بطريقة أبعد نظرا وأكثر تماسكا.

مع وضع هذا في الاعتبار، تولت ممثلة الاتحاد الأوروبي العليا للشؤون الخارجية فيدريكا موغيريني وفريقها تصميم استراتيجية عالمية للأمن الأوروبي وتقديمها، والتي حددت بوضوح أهدافا تليق بالظروف سواء داخل حدودنا أو خارجها. أشار العديد من المراقبين إلى أنه ليس الآن أفضل وقت لتفصيل رؤية تفترض أن الأوروبيين كافة توحدهم مصالح مشتركة، ولكن كما تعلن الاستراتيجية بوضوح، لم يعد التعاون مسألة مبدأ؛ بل أصبح ضرورة وجودية حتمية.

ولهذا السبب أختلف مع الذين يرون أن الاستراتيجية العالمية تأتي في توقيت رديء بل حتى عديمة الفائدة، فحتى برغم عرضها على المجلس الأوروبي بعد أسبوع واحد من الاستفتاء على خروج بريطانيا، فإن الهدف منها يتلخص في تنفيذ البنود الواردة في معاهدة لشبونة، بعد سبع سنوات من دخول المعاهدة حيز التنفيذ، وهي أيضا نتيجة لتفويض صادر في يونيو 2015 عن المجلس الأوروبي ذاته، وهي تهدف إلى وضع سياسة لتعزيز الاتحاد الأوروبي، وفي هذا استجابة لرغبة العديد من المواطنين، والتقاعس عن التحرك كان سيصبح خطأ جسيما.

تحدد الاستراتيجية العالمية أهدافا واضحة، وتضع في الحسبان أخطاء الماضي، وتمد جذورها عميقا في واقع الاتحاد الأوروبي اليوم، وتدعو الاستراتيجية إلى اتحاد أوروبي أكثر وحدة ومصداقية وشعورا بالمسؤولية، وهي الاستجابة الوحيدة القادرة على التغلب على التشكك في أوروبا، كما تحدد التدابير التي يتعين على أوروبا أن تتخذها والقدرات التي ينبغي لها أن تكتسبها للدفاع عن نفسها وضمان أمنها. تضع الاستراتيجية العالمية في الحسبان الآثار البعيدة الأمد المترتبة على تصرفاتها وتفهم أن تنمية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تشكل ضرورة أساسية لمنع الصراعات، كما تدرك أن المزيد من الوحدة هو السبيل الوحيد لتمكين أوروبا من مواجهة التحديات المتمثلة بالإرهاب، والهجرة، وتغير المناخ.

ينبغي لنا أن نضع حقيقة جوهرية في الحسبان عندما نتصدى لتقييم جدوى الاستراتيجية العالمية: فالتهديدات التي تواجه أمن أوروبا ليست مشتركة لمجرد أن معاهدة ما أو إجماعا بين حكومات قال ذلك، بل هي مشتركة لأننا جيران، ولأن العالم من حولنا أصبح كيانا عالميا مترابطا على نحو لا رجعة فيه.

تتلخص إحدى نتائج وثيقة الاستراتيجية العالمية في خلق خطاب مشترك، ففي عام 2003 كان الأوروبيون أيضا في احتياج إلى التوحد خلف سياسة خارجية مشتركة، في أعقاب الخلافات التي خلقها التدخل في العراق، ولكن المشكلة اليوم تأتي على مستوى مختلف تماما: فقد أصبح المشروع الأوروبي ذاته موضع تشكيك، ومن المؤكد أن الكشف عن قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل بشكل فعّال من شأنه أن يساعد في التأكيد على ضرورة وجوده.

وهنا يتضح كيف قد تكون الاستراتيجية العالمية مفيدة. ينظر المواطنون الأوروبيون إلى الإرهاب ومأساة اللاجئين باعتبارهما من القضايا ذات الأهمية البالغة ويريدون أن يؤدي الاتحاد الأوروبي دورا أعظم في معالجتهما وغيرهما من القضايا العالمية، وقد وجدت دراسة أجراها مركز أبحاث "بيو" في عشر دول أوروبية (بما في ذلك المعاقل المفترضة للتشكك في أوروبا مثل المملكة المتحدة وبولندا والمجر) أن 74% في المتوسط ممن شملهم الاستطلاع في المتوسط يدعمون العمل الأكثر حسما من قِبَل الاتحاد الأوروبي في الخارج.

في السنوات الأخيرة، رأينا كيف ترتبط الأوضاع الأمنية الداخلية والخارجية بشكل وثيق، ولهذا السبب تؤكد الاستراتيجية العالمية، من منطلق المصلحة المتمثلة بصيانة الأمن الداخلي، على الحاجة إلى المزيد من العمل الخارجي الأفضل تجهيزا وإعدادا، ولهذا السبب أيضا يتطلب الاتحاد الأوروبي نهجا متكاملا في التعامل مع الصراعات والأزمات يستخدم كل الأدوات والسياسات المتاحة. وعلاوة على ذلك تميزنا الطريقة التي ندير بها عملنا الخارجي كأوروبيين، ففي مجال الأمن الإنساني، هناك قِلة من المنظمات القادرة على نشر مهام وعمليات على قدر كبير من الكمال كتلك التي ينشرها الاتحاد الأوروبي، والتي تجمع بين العناصر العسكرية والمدنية، مثل الشرطة أو القضاة.

لقد تغير الكثير منذ تنفيذ استراتيجية الأمن الأوروبي عام 2003: ويتعين على أوروبا الآن أن تجد لنفسها مكانا وسط منافسة بين قوى عظمى، وأن تتعامل مع الصراعات وعدم الاستقرار على جناحيها الشرقي والجنوبي، وقد طرأت تغيرات كبرى في أوروبا أيضا، ويبدو أن معارضة الجهود الرامية لتعزيز قوة الاتحاد الأوروبي أصبحت في ارتفاع، كما يتضح من التصويت لخروج بريطانيا والموقف الذي أعربت عنه مؤخرا مجموعة فيزيغراد (جمهورية التشيك، والمجر، وبولندا، وسلوفاكيا).

بتقديم الاستراتيجية العالمية، وضع أولئك الذين يؤيدون تحريك المشروع الأوروبي إلى الأمام مبادرة على الطاولة، وفي غياب هذه الاستراتيجية، ما كنا لنسمع غير مقترحات تقليص أوروبا، وعلى مدى الأشهر المقبلة، يتعين علينا أن ندفع بسياستنا الخارجية والأمنية إلى الأمام، من أجل تنفيذ أهداف الاستراتيجية، ولا يملك أولئك الذين يؤيدون الاستمرار في التقدم إلى الأمام أن يلتزموا الصمت.

* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقا، ويشغل حاليا منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز في مؤسسة بروكنجز.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

لا شك أن الخروج البريطاني كان ضربة حقيقية للمشروع الأوروبي

التهديدات التي تواجه أمن أوروبا ليست مشتركة لمجرد أن معاهدة ما أو إجماعاً بين حكومات أكد ذلك
back to top