80 عاماً من الدم والغدر (7) ... 8 رصاصات... ولحظات فاصلة

نشر في 09-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 09-07-2015 | 00:01
وصل الصراع إلى ذروته بين جمال عبدالناصر وجماعة «الإخوان المسلمين» في سنة 1954، فالجماعة التي راهنت من قبل على محمد نجيب، رأت كيف سقط سريعاً وخرج من معادلة السلطة وحساباتها المعقدة، كان «الإخوان» وتنظيمهم الخاص يدركون جيداً أنه لا ستار يعملون من خلفه، وأن المواجهة مع عبدالناصر وثورة يوليو باتت وجها لوجه، هنا عادت الجماعة إلى سلاحها القديم، الإرهاب بسيف الاغتيال.
قطعت المفاوضات بين مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، بقيادة جمال عبدالناصر، وبين قوات الاحتلال البريطاني شوطا كبيرا، واقتربت اللحظة التي ناضل من أجلها الشعب المصري طوال 70 عاما، اللحظة التي يغادر فيها آخر جندي بريطاني التراب المصري بلا عودة، في تلك الأثناء، كان عبد الناصر قد أحكم قبضته على السلطة، وفكر جديا في اختيار شخصية مدنية ذات قبول عام لتولي منصب رئاسة الجمهورية بصورة شرفية، على أن يتولى هو إدارة شؤون البلاد من خلال منصب رئاسة الوزراء، ووفقا لمحمد حسنين هيكل في كتاب «ملفات السويس»، فإن عبد الناصر وقع اختياره على أستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، أحد أبرز المفكرين المصريين ومن كبار ممثلي التيار الليبرالي –وقتذاك- لكن لطفي السيد اعتذر وأكد لعبد الناصر أن من بدأ الطريق عليه المضي فيه قدما.

أدرك «الإخوان» أن بقاء عبد الناصر في السلطة فترة أطول سيمكنه من تثبيت دعائم نظامه، وأن عملية إزاحته ستصبح ضربا من المستحيل، لذلك بدأت الجماعة تفكر جديا في التخلص من عبد الناصر، خاصة أن الأخير كان يعاني من عدم حصوله على الإجماع الشعبي بعد، فقطاع من الشعب أعرب عن انحيازه لمحمد نجيب، فيما كانت مفاوضات الجلاء تستغرق جلّ وقت عبد الناصر، لأن فشل المفاوضات يعني خسارته للملف الأبرز الذي تصدى لإدارته بصورة منفردة.

بدأت جماعة «الإخوان» تستغل مفاوضات الجلاء للضغط على عبدالناصر، في محاولة لإظهاره بمظهر المفرط في الثوابت الوطنية، وحشد الشعب ضده عبر حرب المنشورات التي بدأت الجماعة في نشرها بصورة سرية لتشويه عبد الناصر عبر اتهامه بالخيانة والعمالة للإنكليز، والادعاء ظلما بأنه يحارب الإسلام، بل إن بعض هذه المنشورات تجاوزت في حق عبد الناصر فاتهمته بأنه أثث بيته بمفروشات من القصور الملكية المصادرة عن طريق لجنة جرد القصور، وهو الاتهام الباطل بشهادة القيادي الإخواني محمد خميس الذي أكد أنه لا يوجد في بيت عبد الناصر من الأثاث «سوى العفش اللي كان فيه من أيام زواجه».

كان غرض الإخوان واضحا هو حشد الشعب ضد عبد الناصر عبر إلحاق الاتهامات الجزافية له، كان يقف خلف هذه الحملة التنظيم الخاص الذي أعيد ترتيبه منذ مطلع 1953، وبات يتحكم في أجهزة الجماعة الداخلية، لينعكس الوضع على مكانة حسن الهضيبي الذي بات مرشدا اسما للجماعة، لا يدري حقيقة ما يجري في الاجتماعات السرية لقادة التنظيم.

 ووفقا للمؤرخ ريتشارد ميتشل، فإن الهضيبي ظل غير مدرك لحقيقة أن التنظيم الخاص قد عاد إلى سابق عهده، بعد أن استطاع القيادي الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف تنفيذ برنامج تجنيدي جديد زادت سرعة إيقاعه بعد الإفراج عن كوادر الجماعة عقب أزمة مارس 1954، فأقيمت سلطة عليا للتنظيم بدأت في استهداف قيادات في تنظيم الإخوان ذاته، بعد قرار حل الجماعة في يناير 1954، والذين تسبب عدم إلقاء قوات الأمن القبض عليهم في شائعات داخل التنظيم بتواطئهم مع النظام المصري.

أفكار الاغتيال

صعَّد التنظيم الخاص من أدائه، فقرر توجيه أسلحته ضد نظام عبد الناصر، من خلال تبني مفهوم «الانتفاضة الشعبية» للإطاحة بنظام 23 يوليو، وكان صاحب هذه الفكرة هو عبد المنعم عبد الرؤوف، القيادي الإخواني الذي فر من محبسه، ولاقت الفكرة تأييدا من قبل قيادات التنظيم الخاص، ما شجع عبدالرؤوف على طرح عدة أفكار إرهابية أخرى، كلها تتعلق بكيفية اغتيال عبدالناصر، ومن ضمن تلك الأفكار كان ارتداء بعض أعضاء التنظيم السري ثيابا عسكرية لكي يسهل دخولهم إلى مقر مجلس قيادة الثورة بوسط القاهرة، بهدف تفجير المبنى وقتل كل من فيه بداية من عبد الناصر نفسه، وانتهاء بكل الوزراء، مرورا بأعضاء مجلس قيادة الثورة.

ولقيت إحدى أفكار عبد الرؤوف تجاوبا داخل التنظيم، مع تطوير الفكرة لكي تستهدف قتل عبد الناصر وحده، باستخدام حزام ناسف من الديناميت يرتديه أحد أعضاء الجماعة، ليتقدم إلى عبد الناصر، ويفجر الحزام ليأخذهما معا إلى الدار الآخرة، لكن ما عاق تنفيذ هذا المقترح عدم تطوع أي من أعضاء الجماعة لتنفيذ هذه العملية الانتحارية.

لذلك تم تأجيل فكرة الاغتيال إلى حين، مع التركيز أكثر على فكرة لاقت تجاوبا أكبر في صفوف الجماعة، وهي تنفيذ ثورة شعبية باستغلال حالة السخط المتفشية في صفوف القوى السياسية المدنية المعارضة لنظام يوليو، فضلا عن أن صراع عبد الناصر ونجيب ألقى بظلال كئيبة على وحدة الجيش المصري، مع الحديث عن انحياز سلاح الفرسان لصالح نجيب، وهو ما رأت فيه الجماعة فرصة لتقسيم الجيش والعمل على إضعافه من أجل ضمان عدم تدخله لقمع تحركات الإخوان في الشارع.

وتلخص المخطط في تنفيذ مظاهرة شعبية ضخمة من عناصر الإخوان، يمكن إقناع القوى السياسية المختلفة بالانضمام إليها، بالتزامن مع تنفيذ انقلاب عسكري بقيادة نجيب والقيادات المؤيدة له داخل الجيش، لإصابة عبدالناصر بالشلل، وإذا ما تكلل المخطط بالنجاح فسيتولى نجيب إدارة البلاد وإعادة تشكيل مجلس قيادة الثورة، على أن يتولى الإخوان إدارة البلاد من وراء ستار، وكان تخطيط عبد الرؤوف قائما على أن تكون مسيرات الإخوان مسلحة، مع تنفيذ عمليات اغتيال واسعة لأعضاء مجلس قيادة الثورة.

ورغم علم الهضيبي بهذه المخططات إلا أنه تمسك بأمرين، الأول عدم استخدام العنف والاكتفاء بتنظيم تظاهرات سلمية، والثاني التشديد على عدم تحرك الإخوان إلا بعد تحرك محمد نجيب والجيش، لكن قيادات التنظيم السري لم تهتم كثيرا بتوصيات الهضيبي، ومضت في خطة اغتيال عبد الناصر، بعدما تبين أن الجيش في مجمله يدين بالولاء لعبد الناصر، وظهر للجميع أنه لا يمكن الاستناد إلى التحالف مع نجيب.

وعلى الفور تم اختيار «سمكري» من ضاحية إمبابة شمال الجيزة، يدعى محمود عبد اللطيف، لكي ينفذ عملية اغتيال عبد الناصر، وكان قائد قطاع إمبابة، المحامي هنداوي دوير، هو من تولى إبلاغ عبد اللطيف بهذا القرار، وترك له ثلاثة أيام مهلة لاتخاذ قراره، لكن في 19 أكتوبر 1954 وقع جمال عبد الناصر معاهدة الجلاء مع الإنكليز، وهو مكسب وطني كانت تطالب به مختلف القوى السياسية منذ بداية الاحتلال البريطاني في 1882، لكن الإخوان زايدوا على عبد الناصر في محاولة يائسة لإحراجه بالحديث عن أن المعاهدة تعد خيانة لآمال الأمة المصرية.

رصاصات قاتلة

 حسم عبد اللطيف أمره وقرر تنفيذ العملية في نفس يوم توقيع عبد الناصر على المعاهدة، لكنه أجل تنفيذ العملية نظرا لشدة الازدحام وقتها، معطيا لنفسه مهلة لتجهيزات أكثر استحكاما، واتبع الإخوان منهج التمويه من خلال محاولة إظهار الجماعة بصفتها مؤيدة للمعاهدة، فزار القيادي الإخواني البارز كمال خليفة، مقر الحكومة المصرية، وقدم التهنئة للحكومة على إنهائها الناجح للمفاوضات وكان ذلك يوم 24 أكتوبر.

وفي يوم 26 أكتوبر وبينما يجلس ممثل الإخوان مع أنور السادات لبحث تصفية الأجواء بين النظام والإخوان، في تلك اللحظة كان رئيس قطاع الأسر الإخوانية، عبد العزيز كامل، يزور منزل هنداوي دوير في حي إمبابة، فيما كان الأخير قد أرسل محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية لتنفيذ عملية اغتيال عبد الناصر. ويروي هنداوي في تقارير «محكمة الشعب» تفاصيل تلك اللحظة الحاسمة قائلا: «جاني (أي عبد اللطيف) وقال لي: أنا مسافر إسكندرية، قلت له: ليه يا محمود؟ قال: والله أنا قرأت في جريدة القاهرة إن الرئيس مسافر إسكندرية، قلت له: يا محمود بلاش الحكاية دي، بلاش السفر لإسكندرية، قال: لا، أنا حسافر، وفعلا سافر».

وفي مساء 26 أكتوبر، كان عبد الناصر يلقي خطابه أمام الآلاف من المواطنين وسط ميدان المنشية في الإسكندرية، متحدثا عن كفاح مصر والمصريين لنيل الاستقلال الذي تكلل بتوقيع اتفاقية الجلاء، وفي تلك اللحظات سمع دوي إطلاق النار، ثماني رصاصات قاتلة اخترقت الصمت، وقطعت خطاب عبدالناصر الحماسي، لم يسمع المصريون عبر موجات الراديو إلا صوت طلقات الرصاص ثم أصوات متداخلة، أجواء جعلت المصريين ينصتون في وجل، ثوان معدودات اكتسبت ديمومة طويلة، كانت البلاد في مفترق طرق، واغتيال عبدالناصر في تلك اللحظة كان سيعصف بالبلاد في طريق الفوضى.

عاد الأمل للمصريين سريعا عندما استمعوا لصوت عبد الناصر يهتف «أيها الرجال فليبق كلٌ في مكانه، حياتي فداء لمصر، دمي فداء لمصر، أيها الرجال، أيها الأحرار، أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا علي، إن حياة جمال عبدالناصر ملك لكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم ومكافحا في سبيلكم، سيروا على بركة الله، والله معكم ولن يخذلكم، فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبدالناصر، إنها معلقة بكم أنتم وبشجاعتكم وكفاحكم، إن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وعلى كرامتها وحريتها، سيروا على بركة الله نحو المجد نحو العزة نحو الكرامة».

لم تصب الرصاصات عبد الناصر، وإن كانت أصابت أحد الضيوف السودانيين وقتلته في الحال، لكن رسالة الإخوان الإرهابية كانت قد وصلت للجميع، معلنة تحديها لعبد الناصر في لعبة السلطة، ملقية بقفاز التحدي في وجه نظام يوليو، لكن مع فشل عملية الاغتيال سارع البعض لتبرئة ساحته، فهذا رئيس وزراء بريطانيا –آنذاك- ونستون تشرشل يرسل رسالة شخصية لعبد الناصر يقول فيها: «أهنئك بنجاتك من الهجوم الخسيس الذي وقع على حياتك في الإسكندرية مساء أمس».

تهرب المرشد

حاول مرشد «الإخوان» تجاهل الواقعة والظهور بمظهر الحليف الذي يهتم بصحة عبد الناصر، فبعث إلى عبدالناصر بالخطاب التالي مكتوبا بخط يده، جاء فيه: «وجدت أثناء قدومي من الإسكندرية أمس محوطا بمظاهر توحي بأن الحكومة تتوقع قيام «الإخوان المسلمين» بحركة، ربما كانت لأخذي عنوة، ولو أن الحكومة أعلنت رغبتها في مجيئي لبادرت والله بالمجىء، أسعى إليها من تلقاء نفسي دون أن يحرسني حارس، على أن هذه المظاهر قد أورثتني حسرة وجعلتني أتمنى لو وهبت البلد حياتي في سبيل جمع الكلمة وصفاء النفوس، فأحببت أن أبادر بالكتابة إليك، أرجو أن يتسع صدرك للقائي بضع دقائق أشير عليك فيها بما يحقق أمانيك وأمانيَّ، وأنا أعلم أنك قد تكون راغبا عن هذا اللقاء، ولذا تركت أمر تدبير الجماعة، من نحو خمسة أشهر، إلى غيري فلم يصلوا معك إلى شيء، وأريد الوصول إلى شيء، حتى يتجه البلد كله اتجاها واحدا، ثم لا يجدني أحد في مكاني الذي أنا فيه من الإخوان».

وأبادر فأقول لك: إن ما سمي اختفاء قد أدهشني أن ينسب إليَّ تدبير جرائم، فهذا كان مفأجاة لي وأقسم بالله العظيم وكتابه الكريم إني ما علمت بوقوع جريمة الاعتداء عليك إلا في الساعة التاسعة صباح اليوم التالي، ولا كان لي بها علم وقد وقعت من نفسي موقع الصاعقة لأنني ممن يعتقدون أن الاغتيالات مما يؤخر حركة الإخوان ويؤخر الإسلام والمسلمين ويؤخر مصر.

وقد كنا بحثنا هذه المسألة (الاغتيالات) في الجماعة منذ زمن بعيد واستقر رأينا على ذلك، وأخذنا نوجه الشباب إلى هذه الحقيقة، حتى لقد مضى وجودي بينهم ثلاث سنوات لم يقع فيها شيء من العنف، ولست أجد سببا لذلك بنعمة الله، ولا اختلفنا على كثير، وإنما جسم الخلاف أنه لا يسمح لي بإدلاء رأيي، فأما المعاهدة فإنى كنت أخبرتكم أن الإخوان لا يوافقون على معاهدات وأعداؤهم في داخل البلاد، ولكنهم يصرحون أن هذه المعاهدة قد قربت البلاد من أمانيها قربا كبيرا، ونلح في استكمال الباقي حتى لا يطمع الإنكليز فينا، وهذا هو محصل رأيك أنت في المسألة.

وأما مسألة الحملة التي شنها عليك الإخوان في سورية فإني لا أعلم بها ولا بتفاصيلها، فإن عبد الحكيم عابدين (عضو مكتب الإرشاد)، ودعنا في المطار يوم 3 يونيو، ولم أره إلى الآن ولم يكن بيني وبينه أي نوع من الاتصال، وحين عدت بعد عيد الأضحى وجدته ذهب لأداء فريضة الحج، ويجب أن نتحقق عما إذا كان قد اشترك في هذه الحملة، وحضر اجتماعاتها.

 وقد بلغني أنه رماك بأنك قابلت رجالا من إسرائيل في أثناء سباحتك في البحر، وهذه على وجه الخصوص إذا كان قد قالها أحد، لا يقره عليها بل يستنكره كل الاستنكار، وفوق ذلك فإنها (واقعة عبد الحكيم عابدين بذلك) حصلت أيام اعتكافي، وأما هذا الاعتكاف فقد أشار عليَّ به الإخوان لسبب ما هو الخوف من وقوع حوادث مؤسفة على أثره، ولقد كنت أخبرت الإخوان بأن أضع استقالتي تحت تصرفهم إذا وجدوا في وجودي ما يعطل الاتفاق بينهم وبين الحكومة، وأكدت ذلك لهم بخطاب أرسلته لهم من هناك وتركت لهم التصرف في شؤونهم من تلقاء أنفسهم.

هذا وقد يكون في المشافهة خير كثير ــ إن شاء الله ــ وقد يكون في نفسك أشياء تحب أن تستجليها، ولا أذكر التحقيق الذي يجري، فإني متحمل كل ما يمس شخصي، وسأدفعه بإذن الله بما يريح نفسك إلى الحق الذي هو بغية الجميع، هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقكم ويوفق البلاد كلها للخير والحرص على الوئام».

... والسلام عليكم ورحمة الله.... المخلص حسن الهضيبي

اعترافات متهم

هل هناك أفضل من شهادة صانع الحدث، اعترافات المتهم هي أقصر طريق إلى الحقيقة، لكن هل تبرع الشاب محمود عبد اللطيف باعتراف كامل تحت الضغط والتعذيب؟ هل الاحتمال قائم بقوة، لكن على كل حال تظل لتلك الوثيقة الملطخة بخط اليد التي أطلقت الرصاص على عبد الناصر أمراً جديراً بالالتفات إليها، خاصة أن الاعتراف جاء في معرض الفخر بالجريمة الإرهابية، نتنحى أمام الوثيقة التي كتبت والأحداث ساخنة لا ينقصها الجدة، لتقص علينا بعض ما جرى.

قدم عبد اللطيف اعترافه الكامل إلى محكمة الشعب التي كانت تتولى محاكمته علنيا، والتي انفرد بنشرها محمد حسنين هيكل في كتابه «ملفات السويس»، جاء فيها بالنص:

«بسم الله الرحمن الرحيم»، وبه نستعين،،،

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

سيدي رئيس محكمة الشعب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن الله حق يحب الحق: أنا محمود عبد اللطيف محمد انضممت إلى «الإخوان المسلمين» من سنة 1942، وكان اعتقادي في هذه المدة أن هذه الجماعة تعمل لله، وأن قادة الإخوان لا يأمرون إلا بما فيه خير الإسلام والمسلمين، فكنت أسمع كل أمر في طاعة ودون تردد أو مناقشة، لأن هذا صادر عن أناس مسلمين يعملون للإسلام ويقدرون مسؤولية الله في أي عمل يعملونه فكنت معهم على هذا الأساس، وكنت أعيب على بعض الطلبة حين يناقشون في أي أمر، وأقول في نفسي إن الطلبة عندهم حب الجدال في أي شيء.

وكان كل أمر يأتيني من الإخوان أرى أن في طاعة هذا الأمر طاعة لله خالصة حتى ضموني إلى النظام السري في هيئة الخلية المكونة من ثلاثة أفراد وبعد تكوين هذه الخلية بقليل طلبوا مني أنا وسعد حجاج مراقبة منزل أنور السادات وجريدة «الجمهورية» مقر عمله، ومراقبة الحراسة عليه وطريقة مهاجمته لاغتياله، وبعد دراسة وافية استقر الأمر على مهاجمته في باب دار الجريدة، وفي هذا الحين قرأت الاستخارة لأتبين حقيقة الأمر، هذه الاستخارة أيضا قد علمنا إياها الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة المأثورات، وهي الأدعية والأوراد الثابتة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وفائدتها أن الأمر إن كان خالصا لوجه الله ييسره الله، وإن كان غير ذلك يوقفه الله.

وبعد قراءتي لهذه الاستخارة أتاني الأخ توفيق المكلف بهذه المهمة، وقال: انتظروا حتى يأتي أمر التنفيذ، وبعد ذلك انقطع عنا مدة حتى علمت بعد ذلك أنه قبض عليه خارج القاهرة، وتسلم مكان توفيق هنداوي دوير، وقال أنا أعطيكم الأوامر، فقلت خيرا إن شاء الله، وقبل الحادث بأسبوع أخبرني أنا وسعد حجاج بأمر الإخوان باغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وقال لنا أي واحد منا نحن الثلاثة تتاح له الفرصة ينفذ هذا الأمر ففي هذا الحين قرأت أيضا الاستخارة، وبعدها بيوم قال هنداوي: أوقف الأمر، وكان لم يعطني سلاحا بعد، وبعدها بيومين أحضر لي السلاح وقال سر على بركة الله.

وقبل الحادث بيوم قابلته وأخبرته أن الرئيس مسافر إلى الإسكندرية لإقامة احتفالات شعبية، وأني معتزم السفر فتردد قليلا ثم قال سافر على بركة الله، وارتكبت الحادث ومن نعمة الله علي أني لم أذهب بدماء الرئيس جمال عبد الناصر، وأقف بين يدي الله بها، وعلمت من التحقيق في الجلسة الثانية من هنداوي دوير أن هذا الاغتيال السياسي لم يكن من الإسلام في شيء، وإنما هو ميراث ورثناه من قبل، وفي رأيي أن هذه العبارة هي من قول الكافرين الذين قالوا «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» [الزخرف: 23].

 فلو كنت أعلم هذا من قبل لناقشت كل أمر يأتيني من الإخوان، وأنا كنت أول ضحية في هذا الشأن لأني كنت أخذ كلامهم عن ثقة ويقين بأنه للإسلام، فأحب أن أنبه جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى هذا بألا يأخذوا من أي أحد يثقون به من المسلمين أمرا حتى يتبينوا حقيقة هل هو لله والإسلام أم لغير ذلك، وإني قلت هذا الكلام لا طمعا في تخفيف العقوبة ولكنه إحقاقا للحق، والأمر بين يدي عدالة المحكمة، فهي صاحبة الشأن والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم يا سيدي الرئيس ورحمة الله وبركاته... «محمود عبد اللطيف محمد».

جاء ردّ الفعل قويا وعنيفا من قبل نظام عبد الناصر، فالرجل استغل حادثة الاغتيال لتثبيت شرعيته وبناء قاعدة شعبية مؤيدة له، كما مكنته الحادثة من حسم الصراع مع خصومه بشكل نهائي، فمحمد نجيب خرج من السلطة إلى الأبد، وتم العصف بجماعة «الإخوان المسلمين»، ومحاكمة بعض القائمين على مخطط الاغتيال، بينما ألقي بكوادر التنظيم الإرهابي في السجون، وكان من بين مَن اعتقلوا سيد قطب، وحكم عليه بالسجن خمسة وعشرين عاما أشغالا شاقة، وقد أصبح بحلول الستينيات من المنظرين الأساسيين للتطرف الإسلامي بكتاباته في سجن عبد الناصر، ما قاد إلى المواجهة الثانية بين الزعيم والتنظيم.

back to top