أوراق وردة الغناء العربي (9 - 20)

أول قرارات الزوج: الغناء ممنوع

نشر في 14-06-2016
آخر تحديث 14-06-2016 | 00:04
في الحلقة السابقة تحدثنا عن بوهيمية وفوضى الحياة والمشاعر التى كان يعيشها بليغ حمدى والذى طلق زوجته الأولى بعد شهرين وزوجته الثانية بعد 3 شهور وكان شديد الانجذاب لأية امرأة وبمجرد أن يراها يطلبها للزواج مثلما فعل ذلك مع سامية جمال ونجوى فؤاد إلى أن التقى في مكتب حسن الشجاعى بالإذاعة بالفنانة وردة الجزائرية لأول مرة فخطفته بملامحها وروحها وقرر أن تكون شريكة حياته وكان مندهشا من أسباب رفض أهلها له، وحكت لها والدتها كيف أن والدها خطفها وتحدى الدنيا كلها من أجل أن يتزوجها.
وتحدثنا عن مشاعر وردة وهى تغادر مصر في طريق عودتها للجزائر وكيف أنها تترك البلد الذي استقبل العديد من النجوم العرب الذين صنعوا شهرتهم ونجوميتهم به وكان أكثر سؤال يشغل بالها ويحتل مشاعرها هو: من زوج المستقبل الذى اخترته الأسرة لها والذى ستقضي معه باقي عمرها وهل سيحرمها من الغناء أم يحترم رغبتها في ممارسة الهواية التى تجد فيها نفسها وأحلامها ومستقبلها.
الزوج ضابط اسمه جمال قصيري، رجل عسكري في مشاعره وأفكاره وقراراته وفي مهنته أيضا، ملامحه تكسوها الجدية ونظراته تخلو من الضعف أو الانكسار، طويل القامة تبدو الهيبة جزءا من شخصيته وإحساس الناس به، وكان أول فرمان عسكري يعلنه الزوج على وردة بعد الزواج هو: ممنوع الغناء منعا باتا لأن مركزه لا يسمح بأن تكون زوجته مطربة.. ممنوع أية محاولة للعودة إليه.. ممنوع ممارسته أو حتى التفكير فيه.

إنه الفرمان الذي يبدو أقرب إلى حكم الإعدام.. فرمان (فرم) مشاعر وردة

ووضع كل أحلامها في (الديب فريزر).. فرمان قاس لم تكن تتوقعه أو تتخيله أو تنتظره من زوج المستقبل، ذلك المستقبل الذي أصبح غامضا ومخيفا بعد هذا الفرمان.

حاولت وردة إقناعه بأن الغناء يجري في دمها وأن اختفاءه من حياتها سيؤلمها إلا أنه أصر على رفضه بحزم وحسم وقسوة أيضا.

وظل زوجها عسكريا خارج المنزل وداخله حتى بعد أن تولى فيما بعد منصبا مدنيا في وزارة الاقتصاد بالحكومة التي جاءت بعد الاستقلال.

حاولت وردة أن تتأقلم مع الوضع الجديد والحياة الجديدة.. حاولت في البداية بصعوبة شديدة ومع مرور الوقت تعودت وأصبحت جزءا من هذه الحياة التي ربما لا تحبها ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع تغييرها.. حياة جافة بلا روح ولا إحساس ولا حركة ولا غناء.. حياة تعيش فيها مع ذكريات جميلة وصور ملونة كانت تمثل لها أسعد لحظات حياتها.. حياة تبدو من الخارج جميلة وبراقة وهادئة إلا أن بداخلها ثورة وغليانا وغضبا مكتوما.

يومها في الجزائر كان يبدأ عادة في الثانية عشرة ظهرا حيث تبدأ اليوم بالجلوس في حديقة المنزل وتناول طعام الإفطار الذي غالبا لايزيد على الشاي والبسكويت وبعد ذلك تمارس رياضة المشي في الحديقة التي كانت تعتني بها كثيرا خاصة أنها مليئة بالأزهار والورود بجميع أنواعها وألوانها

فمن المنطقي والطبيعي أن تعشق وردة الورد وأن تحب عطرها وملمس أوراقها فوردة تشبه كثيرا الورود.

وكانت لديها ورود بكل الألوان حتى أنها كانت تملك زهرة نادرة لونها أسود وكانت تحبها جدا ربما لأن لونها كان يعبر عن بعض ما تحسه من حزن وألم تحاول دائما أن تخفيه وأحيانا تنجح ولكنها في أحيان كثيرة تفشل.

أيضا كانت تعشق الجلوس مع القطط وتحرص بشكل دائم ومستمر على الاعتناء بها وكان لديها عصفور صغير ملون أطلقت عليه اسم بافاروتي على اسم المغني الأوبرالي العالمي بافاروتي لأن العصفور كان دائما يغني كلما رأها وكان صوته جميلا وقويا في نفس الوقت.

وبعد ذلك تدخل وردة المطبخ للإشراف على طعام الغداء وأحيانا كثيرة كانت تطبخ بنفسها وهي تتقن صنع جميع المأكولات الفرنسية والجزائرية خاصة الكسكسي الجزائري وأيضا تعلمت بعض المأكولات المصرية وعندما كانت في مصر وقعت في غرام الكشري والفتة والملوخية والأرز المفلفل والسلاطة البلدي وبعد أن يعود الزوج من العمل تجلس معه لتناول الغداء ويدور بينهما دردشة في كل شيء عدا: الفن.

وفي المساء لا تجد وردة تسلية أكثر من مشاهدة برامج وأفلام التليفزيون وهي من عشاق الأفلام الكوميدية كما أنها تحب جدا الكارتون.

مع الكارتون تتحول إلى طفلة بلا أية مسؤوليات.

تتحول إلى كائن يسكنه الفرحة تصبح الدنيا كلها تتلخص في تلك الرسوم الملونة التي تتحرك أمامها برشاقة وخفة ظل.

رغم الحياة الصعبة التي كانت تعيشها وردة في الجزائر ورغم مرارة ابتعادها عن معشوقها الحقيقي في الحياة وهو الغناء ورغم حرمانها من التعبير عن مشاعرها وإحاسيسها بالموسيقى إلا أن زوجها جمال قصيري لم يكن يعاملها بقسوة كما أشاع البعض ولم يكن بخيلا كما أدعى البعض الآخر، بل على العكس كان عطوفا وحنونا وازداد عطفه وحنانه بعد أن أصبح أبا لطفلين هما: “رياض” الذي رزقهما به الله عام 1965 ثم “وداد” التي جاءت إلى الدنيا بعده بعام واحد وكان رياض ووداد يملآن على وردة وزوجها الحياة، ومعهما بدأت الدنيا تأخذ اتجاها آخر هو “تكوين الأسرة”.

ولأن وردة لم تكن تملك الخبرة الكافية بتربية الأولاد لدرجة أنها كانت تبكي كل ليلة من صعوبة هذا الدور الذي تقوم به لأول مرة فقد أحضر لها زوجها مربية من سويسرا سافر خصيصا إلى مدينة زيورخ لإحضارها.

ولعبت المربية دورا كبيرا في تعليم وردة مبادئ وإرشادات الأمومة وكيفية التعامل مع الأطفال وكانت هذه المربية تأخذ أجرا كبيرا كل شهر.

وكان الغناء ونيسها طوال الوقت ووسيلتها للقضاء على الشعور بالزهق والتكرار والملل، وكانت تختار أغاني المطربين الكبار وتدندن بها دون أن يسمعها أحد سوى مشاعرها.

كانت تحب أغاني عبدالوهاب ومنها أغنية (يا دنيا يا غرامي) التي كتبها له الشاعر أحمد رامي وغناها في فيلم “يحيا الحب”، وهي أغنية تعبر إلى حد كبير عن حالة وردة .. عن أعماقها وأحزانها وافتقادها كل ما تحبه، حيث تقول كلمات الأغنية:

يا دنيا يا غرامي .. يا دمعي يا ابتسامي

مهما كانت آلامي .. قلبي يحبك يا دنيا

يا دنيا أيه جرى لي .. وأنا اللي كنت خالي

مهما غيرت حالي .. قلبي يحبك يا دنيا

زهرة وتدبل على أغصانها .. وتروح في الحال

يلا اقطفها قبل أوانها .. ده العمر خيال ..

انسى همومك .. وخلي قلبك خالي

واحبي دمعك .. ده دمع عينيك غالي

اشرب كاس التهاني .. وارقص على الأغاني

ده بكره كله فاني .. يا دنيا كله فاني

حلم وصحيت منه .. لقيتني هايم في بحر الشوق وحديى

حبيت ظالم .. ياريته كان هناني

ضيع ودي .. وصنته بين أجفاني

هجر فؤادي .. وكان مرادي يصون ودادي

كدب ظني .. وابعد عني

من غير ما أعرف .. أيه كان ذنبي

مسكين في هواك .. والله يا قلبي

وكلما كانت تغني تتذكر مشاهد عديدة من طفولتها في مقهى والدها .. مشاهد تتوالى وراء بعضها، منها مثلا ذلك المشهد حين كان عمرها 13 سنة وكانت تنام مبكرا حتى تستطيع أن تستيقظ لتلحق الحصة الأولى في المدرسة ورغم ذلك كان والدها أو والدتها يدخلون عليها غرفة النوم لإيقاظها في منتصف الليل لكي تشاهد وتستمع لفريد الأطرش أو محمد فوزي أو عبد الوهاب أو أي مطرب من المطربين المشهورين حتى تغني معهم وتدندن بأغانيهم بينما كانت تجلس على السلم الموجود أعلى المقهى.

فكانت وردة تنزل وهي مغمضة العينين حتى لا يطير النوم من عينيها وفي نفس الوقت كانت تشعر بالفرحة ولا تريد أن تعود لتنام مرة أخرى أو تذهب للمدرسة في الصباح، وهذه اللحظات كانت تشكل متعة حقيقية لها.

أن الدندنة ظلت معها منذ الطفولة وحتى بعد زواجها واستقرارها في الجزائر.. دندنة ربما تعوضها عن الغناء في حفل كبير يحضره مئات وألوف المعجبين بصوتها من كل مكان.

الغريب أن زوجها كان يستمتع بصوتها ويؤكد لها أنها تملك صوتا له شخصية وليس له مثيل بين الأصوات الموجودة في الساحة الغنائية.

وعندما كبر الأولاد قليلا كان الأب يعاملهما بمنتهى الحنان مع شيء من الحزم والجدية خاصة أن مساحة الدلع والحنية عند وردة كانت كبيرة وربما أكثر من اللازم فكان الأب يخاف عليهما من هذا الدلع الذي قد يقودهما إلى طريق الإفساد وهو ما لا يقبله خاصة أنه رجل عسكري، الانضباط قانونه والنظام فلسفته والجدية شعاره.

واستمرت الحياة، ومع كل طلعة شمس جديدة تدعو وردة أن يمنحها الله القدرة على احتمال ما لا تطيقه والأمل في انتظار ما تريده.

وفي يوم من الأيام شدها الحنين إلى الذكريات فسافرت هي وابنها رياض إلى أماكن طفولتها في باريس وقبل أن تدخل إلى الشارع المؤدي إلى بيتها أمسكت بذراع ابنها بشدة، فقال لها: مالك يا ماما.. أنت تعبانة؟

فنظرت له بابتسامة دافئة وقالت: لا أبدا بس أنا خايفة أدخل الشارع.. ياه ذكريات كتيرة أوي عشتها هنا ومش قادرة أنساها.

كانت وردة تخشى أن تهزمها ذكرياتها وتخونها دموعها أمام الناس ففي هذا الشارع عاشت طفولتها وبدأ حبها للفن يولد بداخلها.

في هذا الشارع رأت العديد من كبار مطربي الغناء، وفي هذا الشارع كان المطعم الذي حوله والدها إلى مخزن أسلحة للمجاهدين الجزائريين في أيام المقاومة.

لم تتمالك وردة نفسها كما توقعت وبكت حين دخلت المحل الذي أصبح مهجورا وبكى لبكائها ابنها رياض وأخذته وردة في حضنها، ونظرت إلى أعلى لترى شباك والدتها الذي كانت تنتظر فيه عودتها هي وشقيقها مسعود من المدرسة بلهفة وشوق وحنان.

وجلست وردة مع ابنها في المكان لتمنح ذاكرتها الإبحار في مشاهد متفرقة..

مشهد رياض السنباطي وهو يلحن لها أغنية “ح أقولك حاجة” عام 1960 وهي الأغنية التي غنتها في حفل كبير وغنت معها أغاني وطنية لبلادها وثورتها ولم تكن قد رأت بلدها.

مشهد اللقاء الأول مع الموسيقار محمد عبدالوهاب وكيف شعرت برهبة وخوف.

ومشهد مقابلتها في باريس مع محمد فوزي وتحية كاريوكا وراقية إبراهيم وعبد السلام النابلسي والفنانة إيمان.

كانت تجلس أمامهم وهي منبهرة بهم.

إنها تتذكر فرحتها عندما غنت لها صباح، وتذكر محاولات فريد الأطرش أن يجئ بها إلى مصر إلا أن والدها رفض فقد كان عمرها 17 سنة فقط وليس من المعقول أن تسافر بمفردها.

وتتذكر المغني التونسي الراحل الصادق ثريا الذي كان يشرف على تعليمها في مطعم والدها بباريس وبعد هذه التدريبات الصوتية أصبح لها فقرة خاصة في مطعم والدها وكانت تؤدي فيها أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم، ووقفت أمام السينما التي شاهدت فيها فيلم “الوسادة الخالية” لتأخذها الذاكرة إلى مشاعر مع وقف التنفيذ بطلها بليغ حمدي.

ومضت الحياة بطيئة ورتيبة بوردة ومع كل يوم يمضي تشطب على حلمها في الغناء، فقد أصبحت ست بيت وأصبح بينها وبين الغناء مسافة كبيرة جدا، ورغم ذلك كانت تتابع كل ما يدور على الساحة الفنية وتتابع الأغاني التي يصدرها المطربون.. كانت تعيش في الجزائر وكأنها لم تغادر مصر لحظة واحدة.

أغنية: كلمة عتاب

كلمات: أحمد شفيق كامل

ألحان: فريد الأطرش وبليغ حمدي

غناء: وردة الجزائرية

كلمة عتاب يا حب .. بتدور عليك

كلمة من قلبي .. يا ريت توصل إليك

وخدت أيه من نار لما ... لعبت بيها وبعمري لعب

وطلعت بعد الوعد بعد الورد .. شوق وعذاب يا حب

وباعتب يا حب عليك .. يا دوب كلمة عتاب

من نار والعذاب .. من نار يا دوب

كلمة عتاب

هو ده الورد اللي .. كنت بتقطفو

وتفرش لي بيه .. خطوة طريقي

هو ده الورد .. هي دي الأحلام ونشوتنا

اللي كنت تقوللي عليها .. نعيم حقيقي

دي الآمال الحلوة اللي .. رسمتها لي

دي الوعود الغالية .. اللي وعدتها لي

ليه تدوقني الهنا كله .. ليه خدت الهنا

وأعمل أيه دلوقت .. في الأشواق وفي الحرمان أنا

وبقيت يا حب عليك .. يا دوب كلمة عتاب

من نار والعذاب .. من نار يادوب

كلمة عتاب

وأما قلنا الحب بكره .. ربنا يعوض علينا

يعوض الله

يا حبيبي الحب وإنت جرحتو قلبي .. وسبتو فيه أحلام كتير

يا حبيبي أنت سلمت بعينك .. القلب للأشواق أسير

وقد كده الأحلام بتكذب .. يا حبيبي على القلوب

قلبي مش قادر يا حب .. يعيش ولا قادر يتوب

وبقيت ياحب عليك .. يا دوب كلمة عتاب

من نار والعذاب .. من نار يادوب

كلمة عتاب

كلمة .. كلمة منك

همسة .. همسة منك

لمسة .. لمسة منك

غيرت عمرى

خدت قلبي من ضلوعي .. من ضمير الغيب .. وضحيتو بهمسك

كلن لوحده بعد عن الدنيا دي .. اللي سمعتو أنغامك وهمسك

واخدت أيه يا حب لما حرقت أيامي الحزينة تحت شمسك

خدت قلبي عندك.. تهت تهت بعدك

خدت قلبي عندك ..حتى عن قلبي

كلمة منك ضاعت .. مع الأشواق وتاه

وبقيت يا حب عليك .. يا دوب كلمة عتاب

من نار والعذاب .. من نار يادوب

كلمة عتاب

يوميات «الأم وردة» في الجزائر

تعلمت وردة أموراً كثيرة في ظل وجود مربية معها بالمنزل، فبدأت وردة تركز في دورها كأم واكتشفت أنه دور عظيم ورائع ومن الأشياء التي تستحق التضحية بالكثير من أجل ممارسته وكانت مثل أية امرأة عادية تصحو من نومها في السابعة صباحا وتعد الحمام وطعام الإفطار لأولادها ثم تذهب بهما إلى المدرسة وتعود إلى السوق لتشتري الخضار واللحم والخبز وكل طلبات البيت ثم تعود للمنزل لتعد طعام الغداء وبعد ذلك تذهب إليهما في المدرسة في الثانية والنصف ظهرا لأن اليوم الدراسي في الجزائر على فترتين تفصل بينهما ساعة ونصف الساعة.

وبعد الغداء تعود بهما للمدرسة ويستمر العمل هكذا طوال اليوم من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء.

إنه ذلك الروتين اليومي الذي تمارسه وردة دون كلل أو زهق.. روتين خصم القليل من حيويتها ومنحها الشعور بأنها تعيش في دائرة مغلقة من الواجبات والطلبات.. روتين كلما أرادت أن تتمرد عليه تعود إلى قواعدها سالمة.. روتين جعلها أو كاد أن يجعلها تنسى عشقها القديم للغناء والفن.

لكن وردة لم تستسلم لذلك، فكانت تغني وتدندن طوال الوقت.. في المطبخ وفي الحديقة ومع القطط.. كانت تغني وتدندن في كل مكان.

رزقها الله بوداد ورياض وعاشت مثل أي ست بيت

لم يعامها قصيري بقسوة وكان عطوفاً وحنوناً خاصة بعدما صار أباً

زوجها يحضر مربية من سويسرا لمساعدة وردة في تربية أولادها

وردة كانت تخشى أن تهزمها الذكريات في باريس موطن حبها للفن

انغماسها في تربية الأولاد ومتابعة شؤون أسرتها يبعدها عن الغناء
back to top