ذكرى يوم «داعش»

نشر في 11-06-2016
آخر تحديث 11-06-2016 | 00:04
 عبداللطيف مال الله اليوسف ذات يوم سيحتفل الأكراد بذكرى يوم "داعش" اعترافا منهم بفضل هذا التنظيم في إقامة دولتهم على أجزاء من سورية وتركيا والعراق، فقد كان أول فضل أسبغه عليهم هو تمكينهم من احتلال مدينة كركوك العراقية الغنية بالنفط من دون تضحية منهم عندما اقتحم ثمانمئة عنصر من تنظيم الدولة محافظة نينوى فهرب على أثر هذا الاقتحام ثلاث فرق من الجيش العراقي تحاشياً للاصطدام معهم، مخلفة أسلحة تقدر بآلاف الملايين من الدولارات غنمها المهاجمون، وفي الوقت نفسه هرب آلاف الجنود العراقيين من مدينة كركوك كانوا يرابطون فيها لحماية منشآتها النفطية فزحفت الميليشيا الكردية من إقليم كردستان المجاور لتبسط سيطرتها عليها.

كان فرار الجيش العراقي البالغ تعداد جنوده خمسة وأربعين ألف جندي من محافظة نينوى أمراً يثير الدهشة، ولكن الأكثر إثارة للدهشة هو فرار الجنود العراقيين من مدينة كركوك التي تبعد عن محافظة نينوى بمئات الكيلومترات، هي مساحة محافظة صلاح الدين، فتصرُّف مثل هذا يرخى ظلالاً من الشك على عملية الفرار المتزامن من كلتا المحافظتين لا يبرره إلا الترتيب المسبق لتمكين الأكراد من السيطرة على محافظة كركوك كاملة تمهيدا لضمها إلى إقليم كردستان العراق الذي يرفض الأكراد فيه اقتصاره على محافظاته الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك).

وذات يوم سيدرك العالم أن الخدعة التي سوقتها الولايات المتحدة لتفتيت ما تبقى من سورية والعراق في بداية القرن الحادي والعشرين كان اسمها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إذ لا يعقل أن يتم بعث سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي ليكررا خدعتهما التي قسمت الوطن العربي في بداية القرن العشرين.

عندما تختار الولايات المتحدة الميليشيات الكردية أذرعاً لها في محاربة تنظيم الدولة في سورية من دون فصائل المعارضة العربية المقاتلة على الساحة السورية فإنها تكشف عن الدوافع الكامنة وراء هذه الحميمية للأقليات الكردية في منطقة الشرق الأوسط، فهي وإن كانت ستمكن الأكراد من إقامة دولتهم على سورية والعراق في البداية فإنها ترمي كذلك إلى إيلاج تركيا في أتون حرب ضد الأكراد فيها، حيث سيتطلعون إلى اقتطاع مناطق تركزهم في تركيا لتلتئم مع الجزءين الكرديين في سورية والعراق.

بيد أن الجانب الأهم لدى الولايات المتحدة من عملية الاختيار هذه هو أن تثبت أنها لا تزال القوة الأعظم في هذا العالم وأن يدها هي الأطول في ترتيب أركانه ونواحيه، ولذلك فقد عنّ لها إقامة هذا الوطن الكردي فابتدعت ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية الذي يأتمر بأمرها ويسبقها إلى السيطرة على المناطق التي تنوي هي التدخل فيها، وبحجة محاربة هذا التنظيم الإرهابي فإنها تنتقي ما تشاء من التنظيمات المسلحة حليفة لها، فتختار ميليشيا سورية الديمقراطية (الكردية) لمقاتلة تنظيم الدولة الذي هاجم عين العرب والرقة، فتمده بالسلاح وتضغط على تركيا لتمكن الفصائل الكردية من إقليم كردستان من العبور منها إلى سورية لهزيمة "داعش"، وقد تمت هزيمته هناك، فأعلن صالح مسلم زعيم ميليشيا سورية الديمقراطية عزم الأكراد ضم ما تم تطهيره من الأرض السورية إلى كردستان العراق، أما في مدينتي تدمر والقريتين فإن التنظيم سيطر عليهما ثم أعاد تسليمهما إلى قوات النظام السوري.

كل هذا يؤكد حقيقة هذا التنظيم المصطنع الذي يؤدي أدوارا مسرحية.

في محافظتي صلاح الدين والأنبار السنيتين اللتين لا تشكلان مطمعا كرديا فإن أميركا لم تكف عن دوافعها الخبيثة في اختيار حليفها لتطهيرهما من قوات تنظيم الدولة، فتختار جيش الدولة العراقية وميليشيات الحشد الشعبي المرتبطة بإيران عقائديا ولوجستيا، وواشنطن تعلم أن "الحشد الشعبي" متخصص في إبادة المكون العربي السني، ولذلك فهي لا تمانع مشاركته في قتال "داعش" عن سابق إصرار منها، لتعميق الفوضى الطائفية، أما عندما ينتقل الأمر إلى محافظة نينوى التي اقتحمها تنظيم داعش، والتي يطمع الأكراد في ضم أقضيتها عقرة وتل كيف والحمدانية وشيخان وسنجار وتلعفر إلى إقليمهم فإن واشنطن تعيد تعاونها مع الأكراد لتؤكد تفردها بإدارة دفة العالم.

هذه التصرفات من جانب واشنطن تعد تماديا في الغي يعمق جراح قوى عراقية عربية سنية كانت ترى في أميركا سبباً لنكبة العراق بداية من عملية تحطيم الدولة في عام 2003 مرورا بمجلس إدارة الدولة الذي شكله بريمر والذي غلب فيه المكون الشيعي على باقي مكونات الشعب العراقي وقزّم المكون العربي السني في هذا المجلس، وانتهاءً بما تمارسه واشنطن في نينوى عندما تمكّن الأكراد من ناصية المكون العربي السني باستبعاده من عملية تطهير مناطقه، وقصرها على المكون الكردي الذي سرعان ما يضم المناطق المحررة من نينوى إلى إقليم كردستان.

على الجبهة السورية، تعيد واشنطن ممارسة غيها فترفض دعوة مجلس التعاون الخليجي لتكوين قوة لمحاربة قوات تنظيم الدولة تحت قيادة واشنطن، كما ترفض دعوة تركيا لتشكيل قوة عربية تركية لمقاتلة "داعش" وتصر على انتقاء الأكراد لمساعدتها في قتال تنظيم الدولة، ولذلك فإن الأكراد بما لديهم من أسلحة أميركية على الأرض وسلاح جوي أميركي من الجو فإنهم يكتسحون المناطق السورية التي احتلها تنظيم الدولة من عين العرب إلى الرقة إلى جرابلس وإعزاز، وهم يقتربون من منبج على الحدود السورية التركية لتكتمل سيطرتهم على شريط الحدود السوري المتاخم لتركيا، وهنا يسدل الستار على المشهد الأول من مسرحية استخدام الدولة لتفتيت ما تبقى من سورية والعراق عبر إنشاء دولة كردية على أراضيهما.

هل ستقوم القوى العربية السنية في هذين القطرين العربيين باستعراض إخفاقات واشنطن في فيتنام وأفغانستان والصومال، ويبدأون في تحدى قراراتها كما وضح من تحرك بعض التنظيمات المسلحة من بقايا الجيش العراقي المنحل؟ أم أن الأكراد سيحتفلون بذكرى يوم "داعش" في تاريخهم الوطني؟

back to top