الميكروبات... ضرورية للحياة!

نشر في 14-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 14-01-2016 | 00:01
No Image Caption
أمسك بقبضة من التراب أو امسح عوداً قطنياً بالجهة الداخلية من خدك. ألم تعجبك النتيجة؟ يجب أن تغير رأيك لأنك ستكون أمام الكائنات الغامضة التي تحكم العالم! لا يمكنك رؤيتها لكنها تشكّل أكثر من نصف الكتلة الحية على كوكب الأرض. تتمتع بالقوة اللازمة لإنقاذ حياة الناس أو إصابتهم بأمراض خطيرة، فضلاً عن حماية المحاصيل من الأمراض والجفاف. حتى أنها تؤدي دوراً بارزاً في السيطرة على المناخ ويشتق منها معظم المضادات الحيوية المستعملة اليوم.

نتكلم طبعاً عن الميكروبات. لكن نظراً إلى أهميتها، من المفاجئ ألا نعرف عنها الكثير. تخيل أن ترشّ تلك القبضة من التراب في طبق بتري Petri dish، أي ذلك الوعاء التقليدي الذي يحتضن الميكروبات. لن ينمو فيها ولا 1% من الجراثيم. من دون وجود مستعمرة مزدهرة، يستحيل أن ندرس أي جرثومة. من المؤكد أنها تشمل مادة ميكروبية داكنة، لكن يكتنفها الغموض مثل جميع المواد الغريبة التي تشكّل معظم أجزاء الكون. أقل ما يمكن قوله أننا سنستفيد من كشف النقاب عنها. لنفكر في الأمر بالطريقة التالية:

بما أننا نجحنا في استخلاص المضادات الحيوية التي تنقذ حياة الناس من جزء ضئيل من الميكروبات المرنة، أي ثروات تنتظرنا في المجالات غير المستغلة بعد؟ لا يمكن التغاضي عن استكشاف هذا المجال.

لكن قبل أن نتمكن من استكشافه، يجب أن نلبي حاجات تلك الميكروبات الصعبة ونحاول زرعها.

أصبحت هذه المساعي مهمة اليوم أكثر من أي وقت مضى لأننا نوشك على مواجهة أزمة في مجال المضادات الحيوية. منذ بضعة أشهر، برزت أدلة على أن الجراثيم في الصين بدأت تطور مقاومة تجاه علاج البوليميكسين، وهو نوع من المضادات الحيوية التي تُستعمل كملجأ أخير. يعني ذلك أننا بحاجة ماسة إلى مضادات جديدة.

قد نفاجأ حين نسمع أن المضادات الحيوية، أي الأسلحة التي نستعملها ضد الجراثيم، تشتق من الجراثيم نفسها غالباً. تنتج أصناف مختلفة تلك الجزيئات للتصدي للمستعمرات المتنافسة. لقد اكتشفناها تقليدياً بهذه الطريقة. نحن نزرع أصنافاً عدة في طبق مخبري ونرصد مستعمرات فيها منطقة محظورة لا يمكن أن تعيش فيها أي كائنات أخرى. إنه مؤشر بارز على أن المستعمرة تنتج جزيئة تقضي على الميكروبات. ثم حصلت تجارب صعبة في المختبرات طوال سنوات لعزل تلك المادة والتأكد من أنها آمنة بالنسبة إلى البشر.

لكن لن يكون زرع الكائنات غير القابلة للزرع مفيداً بالنسبة إلى المضادات الحيوية فحسب، إذ لدينا سجل حافل من التجارب التي نجحت في إيجاد أجزاء مفيدة من الآلية البيوكيماوية الموجودة في الجراثيم. تَعِد تقنية {كريسبر} التي تعدّل الجينات مثلاً بتغيير وجه الطب. كشفنا عن الأدوات المرتبطة بعمليات التبادل داخل الميكروبات.

نمو بطيء

لماذا يرفض معظم الميكروبات النمو في طبق بتري؟ تتعلق إحدى الفرضيات بنموها البطيء بكل بساطة أو بحاجتها إلى توازن معين في المواد الكيماوية، وهو شرط لا تضمنه هذه الأطباق في العادة. لكن ماذا لو ترك العلماء المستعمرات وحدها طوال أسابيع بدل الاكتفاء ببضعة أيام وجربوا خلطات مختلفة من المواد الكيماوية؟

ساهم تسوتومو هاتوري المختص بعلم الأحياء الدقيقة في إطلاق هذه المقاربة البطيئة والمتنوعة في اليابان بدءاً من فترة السبعينات. ثم عمل أحد أعضاء فريق هاتوري، كيونغ سوك وانغ، مع جيمس تيدجي في جامعة ولاية ميشيغن. هناك، تمكن وانغ من زرع 5 إلى 10% من الميكروبات في عيّنة من التربة عبر تنويع المواد في الطبق المخبري ومنح الوقت الكافي للميكروبات.

جرّب ديفيد فريدريكس الذي يدرس علم الأحياء الدقيقة لدى البشر في {مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان} في سياتل مساراً مماثلاً. أثناء تحليل الجراثيم التي تسبب الأمراض في المهبل، حاول زرع ميكروب أو ميكروبَين في كل مرة طوال أسابيع. نجحت الخطة بالنسبة إلى بعض الأصناف. كذلك عدّل الوسيلة التي استعملها عبر إضافة مواد أيضية من المهبل البشري واكتشف أن هذه الخطوة تسبب ظهور مجموعات مختلفة من الميكروبات.

لكن لم تنجح أيٌّ من هذه التجارب المخبرية في حل المشكلة بالكامل. هل كان الباحثون يؤذون بعض الجراثيم عن غير قصد؟ كانت سفيتلانا ديديش من {معهد وينوغرادسكي لعلم الأحياء الدقيقة} في موسكو من مؤيدي هذه الفكرة. هي خبيرة في مجال الميكروبات التي تنمو في الأراضي الرطبة الشمالية مثل مستنقعات الخث، وتعترف بأن تجربة مخبرية معينة (دعم الميكروبات بالطعام لتشجيعها على النمو بوتيرة أسرع) كانت مسيئة لهذه الأصناف التي تنمو في بيئات تقلّ فيها المغذيات.

الحل المناسب

مع ذلك، بدا الحل المناسب لمشكلة الكائنات غير القابلة للزرع بعيد المنال حين علم سلافا إبستاين بشأنها. في أواخر السبعينات، كان طالباً في جامعة موسكو الحكومية وكان يدرس علم الحيوان. حين دقق بشكل الترابط بين مختلف الأصناف، أدرك أمراً لافتاً: {أنتم وأنا والإنسان العاقل عموماً مجرّد موجات عابرة. لا أهمية لنا بالنسبة إلى ما كانت الأرض عليه منذ 100 مليون سنة أو ما ستكون عليه بعد مليار سنة من وفاتنا. القوة الوحيدة التي ترسم معالم الكوكب هي الميكروبات}.

لكن أدرك إبستاين سريعاً وجود فرق شاسع بين الميكروبات التي تظهر تحت المجهر وتلك التي يستطيع زرعها. بما أننا نعرف هذه المعلومة منذ أكثر من مئة سنة، اعتبرها إبستاين {أقدم ظاهرة عالقة في علم الأحياء الدقيقة} وسرعان ما أصبح مهووساً بالموضوع.

لم يقتنع إبستاين بالكامل بمحاولات تعديل طرق الزرع كي تناسب حاجات الجراثيم، فظن أن تلك المحاولات مبنية على التكهنات. لذا تابع تطوير نظريته الخاصة حول السبب الذي يحول دون نمو معظم الميكروبات.

بدأ المشروع بفكرة بسيطة. لو ارتبطت المشكلة باستخراج الميكروبات من بيئتها الطبيعية، كان الحل ليبدو واضحاً: ما الذي يمنع أخذ عينات من الجراثيم وتغليفها في حاوية قابلة للاختراق وإعادتها إلى الموقع المفضل لديها؟ بهذه الطريقة، يمكن أن تنمو الميكروبات في بيئة مألوفة بالنسبة إليها. يوضح إبستاين: {إذا زرعنا كائنات في الطبيعة، لن نضطر إلى إطلاق التكهنات. تنتج الطبيعة هذه الكائنات الدقيقة مع كل ما تحتاج إليه».

لم يكن تحويل هذه الفكرة إلى حقيقة ملموسة أمراً سهلاً، لكنه نجح في النهاية بتجربتها. استخرج إبستاين وفريقه ميكروبات من عينة تربة ووضعها داخل قرص معدني يحتوي على مادة الأغار. يتمتع هذا الغشاء بسمة أساسية، فهو مزود بمسام صغيرة جداً تسمح بدخول الجراثيم وخروجها، لكن يمكن أن تتسرب إليه جميع المواد الكيماوية من التربة.

دفن فريق البحث الأقراص في التربة خارج مركز البحث وحاول في غضون ذلك زرع ميكروبات مأخوذة من التربة نفسها في أطباق مخبرية حيث نما 0.1% فقط من أصل 10 آلاف سلالة ميكروبية مستخرجة من التربة. لكن كان المشهد مختلفاً بالكامل داخل التربة حيث نما 20 إلى 30% من الأصناف. دفعته هذه النتيجة إلى إنشاء الشركة المبتدئة Novobiotic مع زميله كيم لويس للبحث عن مضادات حيوية.

كانت الخطوة اللاحقة تقضي بإيجاد طريقة لزرع الأصناف بشكل فردي لأجل تسهيل العثور على المضادات الحيوية المنشودة. هكذا ظهر جهاز iChip. تحمل غرفه المصغرة ميكروبات فردية تسهّل عملية النمو.

خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، زرعت شركة Novobiotic 50 ألف سلالة من الكائنات الحية الدقيقة كما لم يفعل أحد قبلها. فاكتشف العلماء 25 مضاداً حيوياً جديداً. ظهر أحدها في عناوين الأخبار منذ سنة لأنه يقضي على الجراثيم بطريقة جديدة وكان يصعب على تلك الجراثيم أن تطور مقاومة ضده.

لن تكون تلك المضادات الحيوية كلها مفيدة بالضرورة. يبدو بعضها ساماً بالنسبة إلى الخلايا والجراثيم معاً. لكن يتعلق الإنجاز الفعلي بسرعة تطبيق المقاربة. وجدت الشركة مرشحاً جديداً لكل ألفَي سلالة ميكروبية زرعتها. يعتبر إبستاين أن هذا المعدل يبقى أفضل من المستوى الذي سجله قطاع تصنيع الأدوية قبل أن يتخلى عن هذه الطريقة لاكتشاف المضادات الحيوية.

كذلك، بدا وكأن اثنتين من أصل 25 جزيئة تنجحان في محاربة مرض السل. نتيجةً لذلك، تحرص {مؤسسة بيل وميليندا غيتس} راهناً على تمويل خطة لتحويلهما إلى أدوية. غالباً ما تكون المضادات الحيوية السامة بالنسبة إلى الخلايا البشرية من ضمن الأدوية المفيدة لمحاربة السرطان، لذا لن تكون التجربة خاسرة.

يحاول كارستن زنغلر من جامعة كاليفورنيا- سان دييغو زرع ميكروبات بطريقة تحاكي بيئتها الطبيعية. تشمل تقنيته تغطية قطرات صغيرة من السائل الذي يحتوي على ميكروبات فردية بهلام قابل للاختراق، قبل أن يضع الكبسولات التي يحصل عليها في محلول يحتوي على العناصر الموجودة في بيئة الميكروبات الأصلية.

يستعمل زنغلر جراثيم مستخرجة من أجسام البشر. يمكن أن نزرع منذ الآن أكثر من نصف تلك الجراثيم لكن قد تقنع هذه التقنية الكائنات التي كان يصعب زرعها سابقاً. تشمل الأصناف التي عدّلها الجرثومة الخيطية الزجاجية التي تعيش داخل البشرة وفيها على ما يبدو عنصر واعد يمكن استعماله في كريمات البشرة المضادة للالتهاب.

من الناحية السلبية، يبدو أن مقاربته لا تنجح إلا مع الميكروبات التي تعيش في بيئات تسمح بجمع السائل منها واستعماله. كذلك تتطلب معدات وتقنيات متخصصة مع أن زنغلر شارك في تأسيس شركة لتوفير الأدوات على نطاق أوسع.

دراسة الميكروبات من دون زرعها

يسعى البعض إلى دراسة الميكروبات  من دون زرعها. للقيام بذلك، يستخرجون الحمض النووي من البيئة الخاضعة للدرس ويفحصونها مباشرةً. تسمح هذه المقاربة بالحصول على لمحة عن مختلف الميكروبات الموجودة في موقع معين، حتى أنها قد تقدم أدوات لتطوير أدوية جديدة. إذا تمكنا من رصد جينات مثيرة للاهتمام في التربة، أو في أي مكان آخر، لن تكون هندستها صعبة لدى أصناف مألوفة مثل الإي كولاي. يدعم جوليان ديفيس من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا هذه المقاربة باعتبارها مساراً يمهد لابتكار مضادات حيوية جديدة: {هذا هو مسار العملية. يجب التحلي بصبر كبير لزرع الجراثيم}.

لكن لم تنتج هذه التقنية أي مضادات حيوية جديدة حتى الآن لأن أحداً لا يعلم بعد بمكان أجزاء الحمض النووي التي تتحكم بإنتاجها.

لذا يبدو أن طريقة الزرع ستتواصل. هذا ما يجعل تقنيات إبستاين وزنغلر بالغة الأهمية. تقضي الخطوة المقبلة بتطويرها. اشتقت المضادات الحيوية المرشحة للنجاح من ابتكار Novobiotic من مئات عينات التربة فقط. لذا يمكن أن ينشأ المزيد منها. لكن ما الذي يجعلنا نتوقف على علو بضع سنتيمترات من تربة الأرض؟ يشعر إبستاين بحماسة شديدة بشأن استكشاف عدد كبير من الأصناف الميكروبية التي تقيم في المحيطات لأنها قد تشكّل كنزاً قيّماً من المضادات الحيوية. يأمل أن يبتكر نسخة من جهاز iChip كي تعمل في بيئات بحرية. وقد طور نسخة أخرى توضع في قالب أسنان على مستوى سقف الفم وزرع ميكروبات تستعملها أصلاً.

يعمل فريدريكس في الإطار عينه كونه يريد أن يطبق التقنية نفسها في مجال خبرته، أي الجراثيم المهبلية، أو قد يرغب في تغليف جهاز على طريقة iChip بما يشبه حلقات منع الحمل. بدأنا نكشف تدريجياً عن المادة الميكروبية الغامضة، حتى عند وجودها داخل أجسامنا.

back to top